عطفا على موضوع الحيل الشائعة في كثير من المعاملات التي تجريها مؤسسات التمويل الإسلامية نتناول في هذا المقال حيلة جديدة تتعلق بالرهن “رهن المنازل” وإن لم تكن لها صلة حقيقية بالبنوك الإسلامية ومعاملاتها التمويلية وإنما يأتيها الناس فيما بينهم، لكن لشيوعها وكثرة المتعاملين بها في كثير من دول العالم الإسلامي كالمغرب والهند وغيرها، ناسب ذلك تسليط الضوء عليها والحديث عنها تبعا للمعاملات التي تسللت إليها الحيل.
هذه المعاملة – رهن المنازل- كما وصفها القاضي عبد العلي حفيظ في مقاله حولها بأنها: قيام مالك عقار بإسكان شخص ما في منزله مقابل قيام هذا الأخير بإقراضه مبلغا معينا وأداء كراء رمزي مقابل انتفاعه بالعقار خلال مدة القرض…
ثم يبين في مقاله سبب انتشار هذه الظاهرة في المغرب فيقول: وتعتبر هذه الممارسة نتاجا لضغط الأزمة السكنية لدينا وعزوف مالكي العقارات عن تخصيصها للكراء السكني خوفا من تحمل الإجراءات القانونية لإنهاء العلاقة الكرائية، ومن أسباب الظاهرة أيضا الطمع في الحفاظ على استقرار المكتري والهروب من تحمل تبعات تملص المكترين من أداء الوجيبة الكرائية.
الرهن هو المال الذي يجعل وثيقة بالحق ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه.
وهو من حيث الأصل مشروع لا حرج فيه قد أجازَه الشارعُ الحكيمُ للاستيثاق وضمانِ الحقوق، قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} البقرة 283.
والنبي ﷺ توفي ودرعه مرهونة عند يهودي في آصع من شعير… ثبت ذلك من حديث عائشة وغيرها.
وعلى كل فمشروعية الرهن من حيث الإجمال محل إجماع، لكن إذا اتخذ الرهن أو غيره حيلة للوصول إلى محرم فإن المعاملة تحرم بسبب ذلك مثلما هو الحال في هذا النوع من الرهن هنا.
إذ ليس المقصود منه محض التوثقة، سواء قلنا إن المنزل رهن مقابل القرض، أو القرض رهن مقابل الانتفاع بالمنزل. لأن الانتفاع بالرهن هنا يؤدي إلى الوقوع في محاذير شرعية.
وقد ورد في سؤال أحد المتعاملين بهذه المعاملة ما يلي: يأخذ منك صاحب البيت مبلغا على أنه سلف، و يؤجر لك بيته مقابل مبلغ زهيد من المال مقارنةً بثمن الإيجار العادي:(شهريا أو سنويا)، و كلما زاد مبلغ السلف، نقصت قيمة الإيجار، على أن يرد إليك مبلغ السلف عند انتهاء مدة الإيجار فهل يعتبر هذا ربا أم لا…
فالحيلة بينة “كلما زاد مبلغ السلف، نقصت قيمة الإيجار” لأن صاحب المنزل سينتفع بالمبلغ ويستثمره خلال مدة العقد وقد يكسب من وراء ذلك أكثر مما نقصه من الأجرة. ولذلك فالأمر هنا يدور بين قرض جر منفعة، أو أجرة مجهولة.
وبيان ذلك أن المستأجر إنما أقرض رب المنزل المال ليخفض عنه مبلغ الأجرة فهو منتفع من ذلك القرض، والدافع إليه هو كسب تلك المنفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا.
قال البيهقي رحمه الله في السنن الصغرى: ” روينا عن فضالة بن عبيد ، أنه قال : كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا . وروينا عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وعبد الله بن سلام ، وغيرهم في معناه ، وروي عن عمر ، وأبي بن كعب ، رضي الله عنهما ” انتهى .
ولو قلنا إن رب المنزل قد أجر منزله بأجرة مسماة وطلب من المستأجر مبلغا يبقى لديه مدة العقد لينتفع به وسيرده إليه عند انتهاء العقد، فإن الأجرة هنا حقيقة هي المبلغ المسمى زائد منفعة استعمال مبلغ الرهن واستثماره. فتكون الأجرة هنا مجهولة، والأجرة لا بد من معلوميتها لصحة العقد.
بخلاف ما لو أن صاحب البيت أجر بيته بأجرة معلومة لا جهالة فيها، ثم طلب من المستأجر المبلغ المذكور كرهن استيثاقاً وضماناً لما قد يترتب على المستأجر من الحقوق، أو خشية مماطلته في دفع الوجيبة الكرائية، فيحفظ المبلغ لديه ولا ينتفع به، فهذا لا محظور فيه، لأن حقيقة المسألة حينئذ أنها إجارة مستقلة ورهن مقبوض، وسيرد إلى صاحبه عند انتهاء المعاملة. ولو فرضنا هنا أنهما اتفقا على إيداع مبلغ الرهن في وديعة استثمارية ببنك إسلامي فالأرباح هنا تكون ملكا لصاحب المال لا للمرتهن مالك العقار.
وأما اشتراط المرتهن هنا استثمار مبلغ الرهن والانتفاع به مقابل إجراء العقد وتأجير العين بأجرة زهيدة فهذا يؤثر في المعاملة ويفسدها، ويحيلها إلى أن تكون معاملة ربوية محرمة وإن سميت تحايلا بغير ذلك.
قال ابن قدامة رحمه الله في المغني 4/250 .: ” ما لَا يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ ، كَالدَّارِ وَالْمَتَاعِ وَنَحْوِهِ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ بِحَالٍ. لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مِلْكُ الرَّاهِنِ ، فَكَذَلِكَ نَمَاؤُهُ وَمَنَافِعُهُ ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَخْذُهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَإِنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الِانْتِفَاعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَكَانَ دَيْنُ الرَّهْنِ مِنْ قَرْضٍ ، لَمْ يَجُز؛ لِأَنَّهُ يُحَصِّلُ قَرْضًا يَجُرُّ مَنْفَعَةً ، وَذَلِكَ حَرَامٌ . قَالَ أَحْمَدُ : أَكْرَهُ قَرْضَ الدُّورِ، وَهُوَ الرِّبَا الْمَحْضُ . يَعْنِي : إذَا كَانَتْ الدَّارُ رَهْنًا فِي قَرْضٍ يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُرْتَهِنُ …”.
وهذا هو عين مسألتنا هنا فصاحب العقار يقترض مبلغا ويرهن منزله للمقرض لينتفع به مقابل أداء أجرة زهيدة. إلى حين سداد القرض.