يناقش الباحث المغربي عبد القادر ملوك{1} -في كتابه “من تعددية الأخلاق إلى أخلاق التعددية”؛ الصادر 2018 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات- ثلاثَ مقارباتٍ حول سؤال الأخلاق، تُصرّح كلها بحاجة المجتمعات المعاصرة إلى إيجاد أخلاقٍ عالمية مشتركة؛ “تقيمُ توازنًا متعقلًا بين مطلب الكونية والاعتراف بالحدود السياقية التي تؤثر فيه”{2}، رغم أنها تختلف حول الطريق الذي يُحقّق هذا الهدف، كما تختلف من ناحية المنظور، فالمقاربتان الأولى والثانية تُجسّدان المنظور الغربي، فيما تَعكسُ المقاربة الثالثة المنظور الإسلامي.

 

تأتي في مقدمة هذه المقاربات الثلاث، مقاربة الفيلسوف الأمريكي هيلاري بوتنام{3}؛ التي يسعى من خلالها إلى تأسيس موضوعية خاصة بالقيم الأخلاقية، في حين تأتي في المرتبة الثانية مقاربة الفيلسوف الألماني يورغن هبرماس{4}؛ التي تتمحور حول أخلاقيات المناقشة ومقوماتها وشروطها. أما المقاربة الثالثة؛ فهي مقاربة الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن{5}، التي تتمثل في العمل على تحقيق أخلاقٍ كونية مشتركة بين أمم الأرض كافة.

موضوعية القيم الأخلاقية

في الفصل الأول، استعرض المؤلف مقاربة بوتنام الأخلاقية، من خلال محورَيْن رئيسيَيْن: اهتمّ الأول بإثبات “تهافت التفرقة بين الواقعة والقيمة”، في حين ركّز الثاني على إيجاد موضوعية على مقاس القيم الأخلاقية، وقد حشد بوتنام لذلك بعض الحُجَجِ، من أجل تأكيد رأيه بهذا الخصوص.

وفي سياق الحديث عن المحور الأول، أشار المؤلف إلى وجود طائفتَيْن مختلفتَيْن حول إمكانية التفرقة بين الواقعة والقيمة، حيث ترى الأولى “أن هناك هوّة لا يمكن ردمها بين الواقعة والقيمة”{6}، في حين ترى الثانية عكس ذلك، وتعتبر أن “التناقض الواقع بين الواقعة والقيمة مجرد تناقض ظاهري”{7}، ويبدو أن بوتنام قد انحاز إلى الطائفة الثانية، وكان هدفه “من وراء تقليص الفجوة بين الوقائع والقيم أن يُثبت أن العلم والأخلاق يشتمل كلاهما على قيم”{8}. ولكي يدعم انحيازه للطائفة الثانية ويُقنع خصومه، قدّم بوتنام ثلاث حُجَجٍ، هي: “حجة القيم الإبيستمية”، و”حجة التعددية التصورية”، و”حجة المفاهيم الأخلاقية السميكة”{9}.

أما في المحور الثاني، فركّز المؤلف على نظرية “الموضوعية المرنة” عند بوتنام، وتتمثل “مرونة” هذه الموضوعية في كونها “لا تشترط أن تكون اعتقاداتنا مسوغة في استقلال عن السياقات الثقافية، كما لا تشترط أن تكون هذه الاعتقادات نهائية وثابتة”{10}. ورغم ثقته في إمكانية تحقيق هذه الموضوعية، إلا أن بوتنام أَظهر نوعًا من “الحذر” في كيفية التعامل مع “المفاهيم الأخلاقية”، يعود إلى التمايز الموجود بين هذه القيم، فهي ليست من صنفٍ واحدٍ، بل من صنفَيْن، هما: المفاهيم الأخلاقية السميكة، والمفاهيم الأخلاقية الدقيقة، الصنف الأول لا يطرح مشكلة كبيرة، أما الثاني فيُثيرُ الكثير من الشقاق بين الفلاسفة{11}.

وفي نهاية هذا المحور، عاد المؤلف للحديث عن “حجة المفاهيم الأخلاقية السميكة”، وصرّح بأن بوتنام يرى أن أهمّ ما يُميّز هذه الحُجَّة أنها “لا هي وصفية خالصة، ولا معيارية صرفة، بل هي شكل هجين ينطوي على الجانبين الوصفي والمعياري في آنٍ واحد”{12}، ثم أردف قائلًا إن بوتنام يريد من إيراد حُجّة المفاهيم الأخلاقية السميكة التأكيد على “أن هناك ترابطًا دلاليًا بين الوقائع والقيم، وأن المفاهيم الأخلاقية تمتلك بدورها جانبًا وصفيًا يُمكنُ الحكم عليه بالصدق والكذب”{13}. وقد اختتم المؤلف حديثه عن مقاربة بوتنام بالقول إنه “ظل مصرًا طوال اشتغاله بمجال القيم على أن هذه الأخيرة يمكنها أن تكون موضوعية مرنة، ولم يجعلها موضوعية صلبة تحتفظ بمنظور وتغلق الباب في وجه الباقين من منطقٍ أفلاطوني لا يَعترِفُ إلا بوجود حقيقة واحدة”{14}.

أخلاقيات المناقشة ومقوماتها

في الفصل الثاني، ركّز المؤلف على المقاربة الأخلاقية التي صاغها هبرماس، وتتمثل في الدعوة إلى “جعل أخلاقيات الحوار أنموذجًا لعقلانية من طبيعة عملية تطمح إلى أن يشترك في وضعها جميع الأمم، على اختلاف ثقافاتها وعاداتها، من خلال إقامة تواصلٍ دائمٍ بين أفرادها، يستند إلى معايير أخلاقية كلية وقبلية، من شأنها بلورة قواسم مشتركة تدعم الاندماج بين الشعوب على الصعيد العالمي”{15}. ويبدو أن هبرماس كان مقتنعًا بأن أخلاقيات المناقشة استراتيجية “خصيبة”، لأنها تشكل -في نظره- امتدادًا للفعل التواصلي، ونعتقد أن هذا الأمر لن يظلّ غريبًا إذا اكتشفنا أن “اللغة أمست عند هبرماس حُجّة العقل على الإنسان؛ مثلما كان العقل حُجّة الإنسان على الإنسان”{16}.

ولعلّ من المهم هنا التأكيد على أن الشرط الرئيسي الذي تقوم عليه فلسفة “أخلاقيات المناقشة”{17} عند يورغن هبرماس، يتمثل في أن يَظلّ الاحتكامُ في أفضلية نظرية أخلاقية على أخرى قائمًا على أساس “قوة الحُجّة”، وليس على أساس أي سلطة أخرى، ميتافيزيقية أو علمية أو لاهوتية. ولكي يُشيّد مقاربته الأخلاقية على أساسٍ منطقيٍ، قام هبرماس بربط منظوره الأخلاقي بأربع خصائص كبرى، تتمثل في “الخاصية الديونطولوجية”، و”الخاصية المعرفية”، و”الخاصية الصورية”، و”الخاصية الكونية”{18}، ثم عاد بعد ذلك ليضع شرطَيْنِ أساسيَيْنِ لا غنى عنهما في “أخلاقيات المناقشة”، يتعلق الأول بالحوار القائم على مبدأ المناقشة، في حين يرتبط الثاني بالبعد الإجرائي لهذه الأخلاق الذي يؤمنه مبدأ الكونية{19}.

الإسلام والأخلاق الكونية

استهلّ المؤلف الفصل الثالث، الذي خصصه للحديث عن المقاربة الأخلاقية للفيلسوف طه عبد الرحمن، بتوطئة موجزة؛ أشار فيها إلى طموح طه إلى انتشال الإسلام، وتأسيسه لنظريته الأخلاقية على مقومات الدين، ودخوله في سجالٍ مع أبرز النظريات الأخلاقية الغربية تحديدًا، من أجل الكشف عن نقاط قوتها ومكامن ضعفها{20}. ولعلّ من أبرز النقاط التي تُميّز مقاربة طه عن الباحثين الغربيين، أن الأساس الذي أرسى عليه فلسفته الأخلاقية، يقوم على الجمع بين الأخلاق والدين، باعتباره “أصل الأصول”{21}. وفي هذا السياق، نجد طه ينتقد أخلاق الغرب، ويرجع ضعفها إلى “حداثتهم المعطوبة”، ثم يصرّح بأنها أفضت إلى “حضارة ناقصة عقلًا، وظالمة قولًا، ومتأزمة معرفة، ومتسلطة تقنيًا”{22}.

وقد أكد المؤلف على قناعة طه الراسخة بالأخلاق الإسلامية كحلٍ ناجعٍ لمشكلة الأخلاق في العالم، إذ يرى طه أنه ليس هناك أقدر من الإسلام على تقديم أخلاق أكمل قيمة وأكثر حركية، تُعدّ عصارة ما حققه من تراكمٍ ناتجٍ من خاتمته وتَتْمِيمِه مكارمِ الأخلاق{23}، ثم عاد المؤلف ثانيةً ليُصرّح بأن طه “لم يجد من سبيل يمكن أن يتخذ بوابة يلج من خلالها المسلمون اليوم إلى الحوار المعاصر أفضل من الأخلاق”{24}. ولعل من الضروري هنا القول إن المؤلف أكد أن الموقف الأخلاقي الذي يدافع عنه طه، يتمثل في إيجاد “مشترك أخلاقي يأتي إفرازًا لتفكير متعدٍ تنخرط فيه في بلورته أمم الأرض كلها على اختلاف ألسنتها واعتقاداتها”{25}، لكنه عاد ليُضيفَ أن طه ظلّ ينتصر في جميع كتاباته للمنظور الأخلاقي الديني؛ الإسلامي خصوصًا، إذ يرى أنه “أكثر قدرةً على تحقيق الكونية الأخلاقية، والإيفاء بشرائط العصر الراهن ومقتضياته”{26}.

وفي سياق حديثه عن “المشقّة” التي يعاني منها النظام الأخلاقي الإسلامي المعاصر، ذكر المؤلف أن طه وضع ثلاث صور لهذا الحصار، تتمثل فيما يلي: أولًا،الحصار الخارجي؛ الذي تقيمه القوى الخارجية المهيمنة على الإسلام. ثانيًا، الحصار الداخلي؛ المرتبط بأشكال التضييق التي تطال دعاة الإسلام من داخل بلدانهم. ثالثًا،الحصار الذاتي؛ ويعني به أن الداعية نفسه يقوم بضرب الحصار على نفسه، من خلال اتباع أساليب لا تخدم دعوته، مثل تسييس الدعوة، أو الأخذ بالعقل المجرد المستعار من الغرب{27}.

ويمكن أن نختتم الحديث عن الرؤية الأخلاقية عند طه بالقول إن هذا الفيلسوف يُصرُّ على الانطلاق من أرضيةٍ دينيةٍ، لكنه لا يجعل رؤيته الأخلاقية رؤية كونية “صلبة”، وإنما يُفضِّل أن تكون “مرنة” دائمًا. وتتمثل مظاهر تلك المرونة في أن الرؤية الأخلاقية التي يدعو إليها طه، لا تمثل رؤية بديلة عن العقل، تستند إلى الإيمان وتُغيّبُ العقل، وأنها تُبْقِي أسبابَ التواصل والتحاور مفتوحة، فهي لا تعلو على قيم الأمم الأخرى وأحكامها{28}.

حصيلة المقاربات الثلاث

خصّص المؤلف خاتمة دراسته لاستعراض الخلاصة التي توصل إليها من خلال المقاربات الثلاث، والكشف عن أوجه التقاطع والاختلاف بين وجهات نظر أصحابها، فقال إن “كلا المنظورَيْن الغربي (مجسدًا هنا في توتنام وهبرماس) والإسلامي (مجسدًا في طه عبد الرحمن) ينطويان على مؤشراتٍ إيجابية مشجّعة على بلورة رؤية أخلاقية مشتركة، كما ينطويان على مؤشرات سلبية تنسف كل تقاطعٍ ممكنٍ، وتزرعُ الفرقة حيث تلوح بوادر الائتلاف”{29}.

تتمثل أهمّ المؤشرات الإيجابية في “ركون الطرفَيْن إلى العقل حَكَمًا في تدبير الاختلاف”، واعترافهما “الصريح بأن بلورة أخلاق كونية ليس عملًا يمكن أن يقوم به طرف بمفرده”. أما أبرز المؤشرات السلبية، فتتمثل في نقطتين، الأولى: الخلاف حول ماهية العقل وحدوده، فالمنظور الغربي يرى في العقل “قوة إدراكية واحدة”، أما المنظور الإسلامي فيرى أن “العقل يختلف ويتعدد من إنسان إلى إنسان”، والثانية: الخلاف حول طبيعة الكونية المطلوبة، فالمنظور الغربي يرى ضرورة “تجاوز السياقات المحلية نحو منظورٍ أرقى”، في حين يرى المنظور الإسلامي أن “السياق لا يمكن شطبه بجرة قلم”{30}.


 الهوامش:

{[1]} عبد القادر ملوك؛ باحث مغربي، يحمل شهادة الدكتوراه في الآداب، تخصص “لسانيات التواصل”، من جامعة عبد الملك السعدي بتطوان – المملكة المغربية.

{2} عبد القادر ملوك، من تعددية الأخلاق إلى أخلاق التعددية (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2018)، 9.

{3} هيلاري بوتنام؛ فيلسوف ورياضياتي أمريكي (1926-2016)، يُعَدُّ من أبرز الفلاسفة في الفلسفة الغربية المعاصرة منذ ستينيات القرن العشرين. كتب عن “فلسفة المنطق”، و”العقل: الحقيقة والتاريخ”، و”تجديد الفلسفة”، و”الأخلاق من دون أنطولوجيا”.

{4} يورغن هبرماس؛ فيلسوف وعالم اجتماع ألماني معاصر (1929-)، يُعتَبرُ من أهم علماء الاجتماع والسياسة في العالم المعاصر، كما يُعَدُّ “فيلسوف النقد والتواصل”، وعلامة فارقة في الحياة الفلسفية الألمانية المعاصرة. كتب عن “الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي”، و”التواصل وتطور المجتمع”، و”براجماتيات التواصل”، و”العقلانية والدين”.

{5} طه عبد الرحمن؛ فيلسوف مغربي (1944-)، متخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق، يُعَدُّ من أبرز الفلاسفة والمفكرين في مجال التداول الإسلامي العربي منذ بداية سبعينيات القرن العشرين. كتب عن “منطق الفلسفة”، و”سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، و”تجديد المنهج في تقويم التراث”، و”روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية”.

{6} عبد القادر ملوك، من تعددية الأخلاق إلى أخلاق التعددية، 19.

{7} عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 20.

{8} عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 21.

{9} انظر: عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 22.

{10} عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 38.

{11} انظر: عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 43.

{12} عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 44.

{13} عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 51.

{14} عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 56-57.

{15} عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 63.

{16} عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 67.

{17} خلال حديثه عن المحور الذي يحمل عنوان: “هبرماس ورهان تحقيق أخلاق كونية في زمن التعددية”، أوضح المؤلف أن “أخلاقيات المناقشة” عند هبرماس “ليست نظرية أخلاقية، بقدر ما هي نظرية عن الأخلاق؛ تستهدف صلاحيةً كونيةً تتجاوز الاتفاقات العرفية والمعايير الاصطلاحية”. انظر: عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 81-82.

{18} للوقوف على تفصيلٍ حول هذه الخصائص الأربع، انظر: عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 72-74.

{19} انظر: عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 70.

{20} انظر: عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 101.

{21} انظر: عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 103.

{22} طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية (بيروت: المركز الثقافي العربي 2000)، 145.

{23} انظر: طه عبد الرحمن، الحوار أفقًا للفكر (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2013)، 63، وعبد القادر ملوك، من تعددية الأخلاق إلى أخلاق التعددية، 102.

{24} عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 104.

{25} عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 124.

{26} عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 124.

{27} انظر: عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 115-117.

{28} انظر: عبد القادر ملوك المرجع نفسه، 122-123.

{29} انظر: عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 131.

{30} انظر: عبد القادر ملوك، المرجع نفسه، 132-134.