في المقال السابق، تحدثنا عن “ميزان التنمية” الحسّاس، الذي تتأرجح في كفتيه صروح العمران المادي وقيم الثقافة الإنسانية. اليوم، سندير عدستنا نحو الداخل، لنكتشف أن هذا الميزان الكبير ما هو إلا انعكاس لموازين أصغر نحملها في قلوبنا كل يوم. إنه الميزان الذي يقع في إحدى كفتيه “اللوم والشكوى”، وفي الأخرى “المسؤولية والمبادرة”.

لنتأمل مشهدًا مألوفًا: سيلٌ من الشكاوى في مجالسنا ومحادثاتنا. نستهلك الساعات في تحليل المشكلات وتوزيع اللوم. ولكن عندما تتحول الشكوى من جرس إنذارٍ مؤقت إلى نغمةٍ دائمة، نكون قد وقعنا في فخٍ خفي يستنزف طاقتنا ويسلبنا القدرة على الفعل.

إن ثقافة الشكوى هي حالة من الخلل في توازن الفرد، حيث يضع كل ثقله في كفة “الظروف الخارجية”، ويترك كفة “الإرادة الداخلية” فارغة وخفيفة.

تشريح ثقافة الشكوى: لماذا هي فخٌّ جاذب؟

الشكوى المستمرة تمنحنا شعورًا وهميًا بالراحة، لأنها تُعفينا من ثقل المسؤولية. والأخطر من ذلك، أنها ثقب أسود يبتلع طاقة الإنسان. من منظور أعمق، فإن الاستسلام للشكوى هو حالة من عدم الإيمان بالدور الذي كُلّف به الإنسان.

ولماذا تبدو الشكوى جذابة في مجتمعاتنا الخليجية تحديداً؟ هذا السؤال لا يهدف للجلد، بل للفهم. لعل هناك سببين عميقين:

  1. متلازمة الدولة الراعية“: لعقود طويلة، اعتاد المواطن أن الدولة هي المسؤولة عن كل شيء تقريبًا. هذا النموذج، رغم إيجابياته الكثيرة، خلق أثراً جانبياً وهو ضعف “عضلة المبادرة” الفردية والمجتمعية. وأصبحت الشكوى هي “أداة التواصل” الطبيعية مع هذه الدولة المسؤولة، كوسيلة للمطالبة والضغط.
  2. رفاهية الشكوى“: في بيئة من الرفاه المادي النسبي، قد لا تكون الشكوى نابعة من ألم حقيقي دائمًا، بل قد تصبح نوعًا من التسلية أو “الفضفضة” في المجالس. هذا يجعل الانتقال للمبادرة أصعب، لأنه لا يأتي من دافع “الحاجة” الملحة، بل يجب أن يأتي من دافع “الهمة” العالية و”المسؤولية” الواعية.

ملامح صاحب المبادرة: تجسيدٌ لـ”عمارة الأرض”

في المقابل، يقف “صاحب المبادرة”. هو ليس شخصًا خارقًا، بل هو إنسانٌ قرر أن يغير زاوية نظره. هو يجسد المفهوم القرآني العظيم لـ “ عمارة الأرض” ، فالله سبحانه { هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } (هود: 61)، أي كلفكم بمهمة إعمارها بالبناء والإصلاح والخير. الشكوى هي عكس “العمارة”، إنها “خراب” نفسي يؤدي إلى خراب مادي. أما المبادرة، فهي التطبيق العملي لمفهوم “العمارة”.

صاحب المبادرة يقتدي بصفوة الخلق، فـ الأنبياء والصالحون هم أعظم المبادرين في التاريخ :

فالمبادرة ليست مجرد “سلوك إيجابي”، بل هي “اقتداء بالصفوة” وسيرٌ على خطاهم. كما أن صاحب المبادرة لا يكتفي بمجرد الفعل، بل يسعى لـ”الإحسان” فيه. والإحسان ليس فقط فعل الخير، بل هو “إتقانه” و”تجويده” كما لو أنك ترى الله. هو لا يقوم بالحد الأدنى المطلوب، بل يبذل قصارى جهده ليقدم مبادرته في أجمل صورة، رابطًا بذلك بين العمل الدنيوي والسعي نحو الكمال الروحي.

خارطة الطريق: كيف نزرع بذرة المبادرة في حياتنا؟


إن الانتقال من الشكوى إلى المبادرة هو عضلةٌ نمرّنها كل يوم عبر خطوات عملية وواعية

  1. ابدأ بمملكتك الصغيرة: قبل أن تحاول إصلاح العالم، ألقِ نظرة على عالمك الصغير. رتب سريرك، نظم مكتبك، بادر بكلمة طيبة في بيتك.
  2. اختر معركةً صغيرة يمكن الفوز بها: اختر قضية صغيرة في حيك (كمنظر القمامة) أو عملك (كتنظيم الملفات) يمكنك أن تُحدث فيها فرقًا ولو بنسبة 1%.
  3. ابحث عن شريك واحد: المبادرة مُعدية. ابحث عن شخص واحد يشاركك هذا التوجه الإيجابي. شخصان يعملان أقوى من ألف شخص يشكون. احتفل بالانتصارات الصغيرة: تتغذى ثقافة الشكوى على السلبية، ولذلك يجب أن تتغذى ثقافة المبادرة على الإيجابية. احتفل بنجاحك الصغير وشاركه، فهذا وقود للاستمرار.
  4. حوّل المبادرة إلى كيان (من الخطوة الأولى إلى الاستدامة): بعد أن تنجح خطوتك الأولى وتجد شركاء، فكر في مرحلة النضج. كيف تحول هذا العمل الفردي إلى نظام مستدام؟ تعلم مهارات بسيطة في “العمل المؤسسي”: تشكيل فريق صغير بأدوار واضحة، أو تأسيس مجموعة تطوعية، أو حتى مجرد كتابة “ميثاق عمل” بسيط للمبادرة. هذا ينقلها من الاعتماد على حماسك الشخصي إلى كيان له هوية وأهداف يمكن أن يستمر وينمو حتى في غيابك.

خاتمة: تعديل ميزانك… يعدل ميزان العالم

إن الخلل الذي نراه في ميزان التنمية الكبير ليس إلا انعكاسًا لملايين الاختلالات الصغيرة في موازيننا الداخلية. إن استعادة التوازن المجتمعي ليست مهمة الحكومات والمخططين وحدهم، بل هي مسؤولية جماعية تبدأ من كل فرد. تبدأ في اللحظة التي تقرر فيها أن تكون مصدر ضوء، مهما كان خافتًا، بدلاً من أن تلعن الظلام. هذا التحول ليس عبئًا، بل هو تحررٌ، وهو أن ننتقل من كوننا مجرد نقّادٍ سلبيين لقصة العالم، إلى أن نصبح مشاركين في كتابة فصولها الأجمل. بل نصبح قصص نجاح في فضائها.