نفسية المعرفة في تحصيل مناهج المعرفة النفسية: من التساؤلات الموضوعية التي قد تفرض نفسها على الباحث في حقل الفكر الإسلامي ،بعد ملاحظته لتنوع التأليفات وأساليبها التعبيرية وانتماءاتها المذهبية ، هي:هل هذا الفكر يخضع لوحدة جوهرية ومنهجية في البحث والتنقيب على وجه العموم أم أنه متنوع لكنه يدخل تحت جنس واحد وقسم مشترك يستظل كل أنواعه بظله ؟. كما أن الاختلاف المذهبي الحاصل في الفكر الإسلامي بين المتصدرين للتأليف في مواضيعه هل هو أيضا اختلاف جوهري أم أن سببه منهجي نوعي، مما أدى به إلى الظهور بصورة التنوع والتشكل المختلف، بينما حقيقته ابتداء وانتهاء قد تتسم بالتوحد الأصولي والغائي؟

ضبط المنهج الفكري على أساس البداهة النفسية

قد يطرح سؤال آخر أعم وهو: هل الفكر الإسلامي وتحديد مناهجه ومذاهبه يمكن وضعه في إطار المقارنة المتكافئة بينه وبين الفكر الإنساني بصفة عامة ، أم أن له خصوصياته المتميزة في البحث والاستكشاف وعلى شتى المجالات والمستويات ؟ خاصة وأنه يكاد يجمع مؤرخو العلم الإنساني على أن وضْع مناهج البحث في مختلف فروع المعرفة الإنسانية على أساس علمي مستمد من الواقع والخبرة، إنما هو وليد العصور الإنسانية الحديثة .

ولكن كما يقول النشار :”ليس معنى هذا إطلاقا خلو العصر القديم من وجود الدراسات المنهجية على وجه العموم . إذ أن العقل الإنساني لا يستطيع أن يفكر وأن يستدل بدون أن يكون له منهج معين يقوم عليه فكره وحركته.ولا نستطيع أن ننكر أنه كان للفكر اليوناني وهو يحاول تفسير ظواهر الوجود تفسيرا علميا أو فلسفيا، بمنهج بل مناهج يسير وفقا لها ويتبع كلياتها وجزئياتها.

إن مسألة المنهج لا تختص بجيل دون جيل، أو بفرد دون فرد، بل يكاد يكون لكل فرد من الأفراد منهج يسير وفقا له. وقد تعود الباحثون تقسيم المناهج تبعا لهذا إلى قسمين : المنهج التلقائي، والمنهج الإدراكي أو الواعي“.

فالمنهج التلقائي إذن هو اكتشاف معرفي بدون منهج، مما سيجعل هذه المعرفة فيما بعد تصبح مقيدة بأدوات ووسائل تضبط سيرورتها وتطورها.

 وتسمية التلقائية بالمنهج تجوز لغوي فقط . إذ المنهج هو تخطيط مبدئي قصدي، ورسم أولي يتسلح به الباحث في خطوات بحثه حتى يصل إلى النتيجة المرجوة منه، ومن هنا فيكون المنهج التلقائي هو معرفة لا منهج.

بل لا يمكن للمنهج أن يكون إلا بالمعرفة الأولية والمبادئ الضرورية التي بها قد يستطيع الإنسان أن يتواصل مع المعرفة بكل مستوياتها، سواء على المستوى الداخلي النفسي أو الخارجي الكوني وما وراءه .

وفي هذا الموضوع قد نجد رأيا قريبا من هذا المعنى لابن حزم الأندلسي، الذي يرهب إلى أن التأسيس المنهجي عند الإنسان في مباحثه لابد وأنه يرتكز على معرفة ضرورية تنظم مدركاته، بل عليها تتأسس كل معارفه المستقبلية منذ الطفولة حتى الكهولة : كالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات .

ولهذا فقد نجد الطفل مثلا “إذا أعطيناه تمرة وتركنا عندنا الأخرى احتج على ذلك وقال: زدني. علما منه بأن الكل أكثر من الجزء. وإذا كان واقفا واحتاج إلى الراحة تغير حاله إلى حالة الجلوس و افتقد صورة الوقوف، تعبيرا عن أنه لا يجتمع متضادان. كما أنه إذا جر من يده إلى مكان آخر، قال دعني، علما منه بأنه لا يكون جسما واحدا في مكانين . كما أن العكس من ذلك إذا أراد الوقوف في مكان دفع الشخص الموجود في ذلك المكان ، تعبيرا عن أنه لا يكون الجسمان في مكان واحد.

نرى أن الصبي حينما تعرض عليه أشياء مجملة يسأل عن شيء غائب عنه يجيب بلا أدري، اعترافا منه بالعجز عن إدراك حقيقة ما غاب عنه.وكذلك تجده يفرق بين الحق والباطل عن طريق التصديق والتكذيب،ويعبر عن الزمان بمتى وما شابهها.كما يسأل عن الماهية بأي أو ما هو؟. كما إذا وجد أثر الفعل سأل عن الفاعل بمن “[1].

 هذه المعرفة سيصطلح عليها في الفكر الإسلامي بالفطرية أو الضرورية المقابلة للكسبية أو علم الاكتساب وطريقة النظر والاستدلال لأنه غير مدرك ببديهة العقل[2]. والفرق بينهما كما يقول ابن طاهر البغدادي:”من جهة قدرة العالم على علمه المكتسب واستدلاله عليه، ووقوع الضروري فيه من غير استدلال منه ولا قدرة عليه.

والعلم الضروري قسمان:

  • أحدهما علم بديهي،
  • والثاني علم حسي.

والبديهي قسمان :

  • أحدهما علم بديهي في الإثبات،كعلم العالم منا بوجود نفسه وبما يجده في نفسه من ألم ولذة وجوع وعطش وحر وبرد وغم وفرح ونحو ذلك.
  • والثاني علم بديهي في النفي، كعلم العالم منا باستحالة المحالات. وذلك كعلمه بأن شيئا واحدا لا يكون قديما ومحدثا، وأن الشخص لا يكون حيا وميتا في حال واحدة، وأن العالم بالشيء لا يكون جاهلا به من الوجه الذي علمه في حال واحدة.

وأما العلوم الحسية فمدركة من جهة الحواس الخمس كما نبينها بعد هذا،والعلوم النظرية نوعان:عقلي وشرعي. وكل واحد منهما مكتسب للعالم به،واقع له باستدلال منه عليه،وبعضها أجل من بعض “.[3]

والملاحظ هنا أن الكاتب يذهب إلى اعتبار معرفة النفس بديهية بالدرجة الأولى. ولهذا فقد تكون المعرفة بالنفس هي المحددة لمناهج نفس المعرفة ، كما أنه تضمن الحديث عن مصادر المعرفة التي يشترك كل الناس في استلهامها منها كما ذهب إلى ذلك ابن حزم فيما مر بنا، إلا أنه يضيف خصوصية رئيسية هي المحور المميز بين المعرفة الإنسانية العامة والبسيطة في نفس الوقت والمعرفة المرشدة والمنورة بالتعليم الإلهي. وذلك عندما قسم العلوم النظرية إلى نوعين: وهما عقلي وشرعي.

العلوم الضرورية البديهية ونموذج الوعي عند الطفل

  إذ العقلي وحده قد لا يكفي في تأسيس المعرفة الدقيقة والعميقة،ولهذا فإنه يبقى محتاجا إلى التقرير والإرشاد الشرعي المزكي للحكم العقلي. كما أن هذا التقرير نفسه هو الذي سيكون المؤسس الرئيسي لمعرفة النفس وتحديد مناهجها وذلك عن طريق الاستنباط الفقهي النظري أو عن طريق المباشرة الوجدانية والشعورية .

 وقد نجد تطابقا فكريا حول اعتبار العلوم الضرورية ذات الأصل النفسي عند المفكرين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم العلمية … فالماوردي مثلا سيطرح مبدأ العلوم الضرورية وارتباطها بالتحديد المنهجي ارتباطا متلازما وضروريا. بحيث قد يدرج بجانبه التجربة الموضوعية والعملية كأساس لتنمية الحكم العقلي وشحذ مواهبه وانتظامه، وخاصة في المجال النفسي والأخلاقي.

إذ يقول في الموضوع :”وقال آخرون وهو القول الصحيح : أن العقل هو العلم بالمدركات الضرورية ، وذلك نوعان : أحدهما ما وقع عن درك الحواس ، والثاني ما كان مبتدأ في النفوس.

 فأما ما كان واقعا في درك الحواس فمثل المرئيات المدركة بالنظر، والأصوات المدركة بالسمع والطعوم المدركة بالذوق ، والروائح المدركة بالشم ، والأجسام المدركة باللمس[4] … أما إذا اجتمع هذان الوجهان في العقل المكتسب،وهو ما ينميه فرط الذكاء بجودة الحدس،وصحة القريحة بتحسين البديهة مع ما ينميه الاستعمال بطول التجارب ومرور الزمن بكثرة الاختيار فهو العقل الكامل على الإطلاق في الرجل الفاضل الاستحقاق “[5].

 أما الغزالي فيتناول الموضوع بلغة قريبة من رأي ابن حزم واعتباره للتأسيس المعرفي منذ الطفولة ، إلا أنه يرى أن المعرفة الأولية قد لا تكون مجرد تهيؤ واستعداد لتقبل المعارف المكتسبة بالنظر والتحصيل ، والإرادة العلمية.

إذ أن “قلب الإنسان اختص بعلم وإرادة ينفك عنها سائر الحيوانات، بل ينفك عنها الصبي في أول الفطرة،إنما يحدث ذلك فيه بعد البلوغ. وأما الشهوة والغضب والحواس الظاهرة والباطنة فإنها موجودة في حق الصبي، ثم الصبي في حصول هذه العلوم فيه له درجتان:

  • إحداهما أن يشتمل قلبه على سائر العلوم الضرورية الأولية ،كالعلم باستحالة المستحيلات وجواز الجائزات الظاهرة . فتكون العلوم النظرية فيها غير حاصلة إلا أنها صارت ممكنة قريبة الإمكان والحصول، ويكون حاله بالإضافة إلى العلوم كحال الكاتب الذي لا يعرف من الكتابة إلا الدواة والقلم والحروف المفردة دون المركبة، فإنه قد قارب الكتابة ولم يبلغها بعد.
  • الثانية : أن تتحصل له العلوم المكتسبة بالتجارب والفكر فتكون كالمخزونة عنده ، فإذا شاء رجع إليها. وحاله حال الحاذق بالكتابة،إذ يقال له كاتب وإن لم يكن مباشر الكتابة بقدرته عليها، وهذه هي غاية درجة الإنسانية،ولكن في هذه الدرجة مراتب لا تحصى يتفاوت الخلق فيها بكثرة المعلومات وقلتها وبشرف المعلومات وخستها وطريق تحصيلها، إذ تحصل لبعض القلوب بإلهام إلهي على سبيل المبادأة والمكاشفة،ولبعضهم بتعلم واكتساب. وقد يكون سريع الحصول،وقد يكون بطيء الحصول. وفي هذا المقام تتباين منازل العلماء والحكماء والأنبياء والأولياء…”[6]

هذه العلوم الضرورية قد تعرف نوعا من الاختلاف حول تحديد مراحلها،إذ ابن حزم يرى أنها تكون عند مرحلة التمييز، وأن تلك المبادئ العقلية التي يعبر عنها الصبي سلوكيا ستتأَتَّى له بعد حصول إرادة وتمييز خاص به،ولذا فهي ليست موجودة فيه ابتداء، وليس له بها علم منذ خروجه إلى الدنيا.

وفي هذا يقول :”اختلف الناس في المعارف،فقال قائلون المعارف كلها باضطرار إليها، وقال آخرون المعارف كلها باكتساب لها، وقال آخرون بعضها باضطرار وبعضها باكتساب”. ثم يعقب بأن :”الصحيح في هذا الباب أن الإنسان يخرج إلى الدنيا ليس عاقلا لا معرفة له بشيء كما قال عز وجل:”والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا”.

فحركاته -أي الصبي -كلها طبيعية كأخذه الثديين حين ولادته وتصرفه تصرف البهائم على حسبها في تألمها وطربها، حتى إذا كبر وعقل وتقوت نفسه الناطقة،وأنست بما صارت فيه، وسكنت إليه وبدت رطوباته تخف، بدأت بتمييز أمور في الدار التي صارت فيها،فيحدث الله تعالى لها قوة على التفكير واستعمال الحواس في الاستدلال.وأحدث الله تعالى لها الفهم بما تشاهد وما تخبر به.

فطريقه إلى بعض المعارف اكتساب في أول توصله إليها لأنه بأول فهمه ومعرفته عرف أن الكل أكثر من الجزء،وأن جسما واحدا لا يكون في مكانين، وأنه لا يكون قاعدا قائما معا. وهو إن لم يحسن العبارة عن ذلك فإن أحواله كلها تقتضي تيقنه كل ما ذكرنا وعرف أولا ما أدرك بحواسه. ثم انتجب له بعد ذلك سائر المعارف بمقدمات راجعة إلى ما ذكرنا من قرب أو بعد.

فكل ما ثبت عندنا ببرهان، وإن كان بعيد الرجوع إلى ما ذكرنا، فمعرفة النفس به اضطرارية، لأنه لو رام جهده أن يزيل عن نفسه المعرفة بما ثبت عنده هذا الثبات لم يقدر، فإن هذا لا شك فيه. فالمعارف كلها باضطرار، إذ ما لم يعرف بيقين فإنما عرف بظن،وما عرف ظنا فليس علما ولا معرفة.هذا ما لا شك فيه إلا أن يتطرق إلى طلب البرهان بطلب، وهذا الطلب هو الاستدلال. ولو شاء أن لا يستدل لقدر على ذلك. فهذا الطلب وحده هو الاكتساب فقط”[7].

فالعلم الضروري نفسي، وعنه قد تترتب العلوم الأخرى الكسبية، وهي أيضا ذات أصل نفسي عند الطلب وإرادته، وإنما”يضطر إلى الاستدلال من نازعته نفسه إليه ، ولم يكن قلبه إلى الاعتقاد ما لم يعرف برهانه. فهذا يلزم طلب البرهان حينئذ ليقي نفسه نارا وقودها الناس والحجارة …”[8]