إنّ اليوم الذي يفر المرء من أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، يوم لم تعهده الخلائق أجمعين طوال حياتها. يومٌ لا مثيل له، يؤمن به من يؤمن، ويكفر به من يكفر. لكنه حق وواقع لا ريب فيه، أو هكذا الاعتقاد عند النفس المؤمنة المطمئنة. من شدة الكرب في ذاك اليوم، ستكون عبارة (نفسي نفسي) هي السائدة بين الثقلين، الإنس والجان..
روي أن الفاروق عمر رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: خوّفنا، يريد منه موعظة تخشع لها قلوبهم. فقال كعب: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده، لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبياً لأتت عليك ساعات لا تهمك إلا نفسك، وإنّ لجهنم زفرةً لا يبقى مَلَكٌ مُقرب، ولا نبي مُرسل منتخب، إلا وقع جاثياً على ركبتيه، حتى إبراهيم خليل الرحمن، يقول: يا رب لا أسألك إلا نفسي، وإنّ تصديق ذلك الذي أنزل الله عليكم { يوم تأتي كلُ نفس تُجادل عن نفسها } (النحل : 111).
المجادلة هاهنا بمعنى المحاجّة والمدافعة، والسعي في الخلاص من أهوال ذلك اليوم الشديد – كما جاء في التفسير الوسيط للطنطاوي – الذي يضيف قائلاً بأن المتأمل في هذه الجملة الكريمة، يراها تشير بأسلوب مؤثر بليغ إلى ما يعتري الناس يوم القيامة من خوف وفزع، يجعلهم لا يفكرون إلا في ذواتهم، ولا يهمهم شأن آبائهم أو أبنائهم!
كل نفس بما كسبت رهينة
في الدنيا، وحين النوازل والمصائب – سلمنا الله وإياكم منها جميعاً – نجد المرء منا إن رأى نازلة أو مصيبة قد حلت بأحد أهله أو المقربين منه على سبيل المثال، يردد مقولات وعبارات مألوفة، كأن يقول له أو لها، سأفديك بنفسي، إن كان الفداء يفيد في إبعاد المصيبة أو الكارثة عنك. تعبيرات تدل على مواقف إنسانية فطرية مفهومة ومقبولة، وعواطف بشرية موجودة بين الناس.
الأب قد يضحي بوقته وماله وصحته وعافيته لأجل حياة كريمة عزيزة لأبنائه، والأم بالمثل وزيادة. لكن ما بال الأمر يتغير تماماً يوم القيامة؟ أين موضع كل هذه العواطف الجياشة، وأين كل تلكم المشاعر الأبوية أو الأخوية؟ بالطبع الوضع أصعب مما نتصور ونتخيل، بل سيكون صعباً قاسياً كما في الأحاديث والآثار النبوية، يصل بالإنسان إلى درجة يتحول حينها إلى كتلة من الأنانية العميقة وفي أبشع صورها، هذا إن أردنا وصف بعض وليس كل ما سيحدث..
نعم، نفسي نفسي ولا أحد غيري، أو هكذا لسان حال كل أحد من الجن والإنس، فإن كانت تسمى أنانية، فلتكن !
فاليوم لا هدايا ولا عطايا، بل حساب وكتاب، وكل نفس بما كسبت رهينة.
اقرأ مشهداً من مشاهد ذلكم اليوم إن شئت، حين { يبصرونهم يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ } (المعارج: 11- 14). سيأتي مجرم من المجرمين من بعد أن يرى من المصاعب والمشاق والأهوال يومها ليفدي نفسه مما هو فيه، ولن يجد حرجاً أو مشقة أبداً في تسمية من يريد أن يضحي بهم لأجل إنقاذ نفسه، على سبيل الافتراض أن الفدية مسموح بها يومئذ، فيبدأ بأحب أحبابه، من أهله وولده!
تخيل أنه لن يطلب أحداً من عماله أو موظفيه أو أصدقائه أو تابعيه.. إنه ولكي يخرج من المحنة التي هو فيها، لن يمانع أبداً يومها أن يؤخذ بالأثمن أو بالأحب فالأحب والأقرب فالأقرب من أهله وعشيرته !!
لن يمانع أن يؤخذ أحد أبنائه أو زوجته، بل سينسى حتى إخوته جميعهم، ويقبل أن يؤخذ أحدهم أو جلهم إلى العذاب، مقابل إطلاق سراحه هو!
المشهد خارج الوصف بل لا يمكن حتى تخيله.
سلّمنا الله وإياكم من تلك المواقف والمشاهد.
(نفسي نفسي) بين الدنيا والآخرة
إنّ الاهتمام بالنفس في الحياة الدنيا ليس فيه ما يعيب، بل مطلوب وبشدة إن كان بقصد المحافظة عليها في العاجلة، وإنقاذها من مشاهدها المتنوعة غير المألوفة. إنه مفهوم ديني، بمعنى أنك جئت للدنيا فرداً، وستذهب عنها فرداً، وستُحشر فرداً، وستحُاسب فرداً. لا أحد معك أو ينفعك أو يشفع لك كما كان الحال في الدنيا. فإنك ذلك اليوم، لا ينفعك مال ولا بنون إلا إن أتيت الله بقلب سليم. ومن هنا يأتي مفهوم الاهتمام بالنفس أولاً وقبل الغير في حياتك الدنيا، لأنك محاسب على ما تقوم به. إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
في الدنيا قد تقصر وتهمل في واجباتك الأسرية أو الوظيفية أو غيرها من مهام حياتية متنوعة، لكن غالباً ستجد من يشفع لك ويخرجك من ورطة قد تقع فيها بسبب ذلكم التقصير والإهمال، أو على أقل تقدير، قد تجد من يخفف عنك بعض ما أنت عليه.
لكن يوم التغابن، يوم المحاسبة، قد تتوسل إلى ولدك أو زوجك أو أمك وأبيك أن يمنحوك بعض ما لديهم من حسنات، أو تطلب منهم أن ينصتوا إليك لحظات تشرح لهم وضعك البائس، وكلك رجاء أن ترق قلوبهم لك بعض الشيء، فلن تجد منهم آذاناً صاغية، أو قلوباً واعية، بل تراهم يهربون منك، الذي ربما كنت قد بذلت الغالي والنفيس في الدنيا من أجلهم!
الأمر هنالك سيختلف تماماً تماماً. ولا أظن أحداً في حياتنا الدنيا عنده تلك المقدرة على وصف ما سيكون حال الناس حينها.. إنه يوم ليس كأي يوم، ثقيل على الكافرين غير يسير، تبلغ الأمور فيه من الشدة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى تُخاصم الروح الجسد !
نسأل الله لنا ولكم العافية، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقائه، وخير أعمالنا خواتيمها، وأن يجعلنا من الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب.. آمين.