لا خلاف في أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمر بعد الهجرة أربع عمرات كلهن في شهر ذي القعدة، العمرة الأولى هي عمرة الحديبية، وكانت سنة ست وهي التي صده عن أدائها المشركون فتحلل هو وأصحابه من الإحرام بعد النحر والحلق ورجع من عامه إلى المدينة المنورة.

والعمرة الثانية هي عمرة القضاء في سنة سبع، أي في العام التالي للحديبية. والثالثة عمرته التي قرنها مع حجته في السنة العاشرة والمشهورة بحجة الوداع. والعمرة الرابعة كانت من الجعرانة لما خرج إلى حنين ثم رجع إلى مكة، واعتمر من الجعرانة داخلا إليها.

عن أنس بن مالك قال اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي كانت مع حجته، وقال ابن عباس اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر: عمرة الحديبية وعمرة القضاء من قابل، وعمرة الجعرانة، وعمرة مع حجتـه. ولا خلاف في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج سوى حجة واحدة هي حجة الوداع، وأنها كانت في السنة العاشرة من الهجرة وهي التي بيّن فيها مناسك الحج والعمرة للمسلمين بالطريقة العملية فهو القائل: “صلوا كما رأيتموني أصلى”، والقائل: “خذوا عني مناسككم.

الحجة الخالدة

في يوم الخميس لست بقين من شهر ذي القعدة، وبعد أن صلى الظهر أربعا علّم الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه الإحرام وواجباته وسننه كعادته؛ لأنه اعتاد أن يعلمهم في كل وقت ما يحتاجون إليه إذا حضر فعله، ثم ترجل ولبس إزاره ورداءه وخرج بين الظهر والعصر فنزل بذي الحليفة (ما يسمى الآن بآبار علي)، فصلى بها العصر ركعتين، ثم بات بها حيث صلى المغرب والعشاء والصبح والظهر، أي فصلى بها خمس صلوات، فلما أراد الإحرام اغتسل لإحرامه، وقلد قبل الإحرام بدنة وأشعرها في جانبها الأيمن، قال ابن عمر: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلَّ بالعمرة ثم أهلَّ بالحج.

ويروى عن عائشة أنها أخبرت عروة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن عمر السابق.

وروى مسلم في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرن الحج إلى العمرة، وطاف لهما طوافا واحدا.

وقد ذكر ابن قيم الجوزية اثنتين وعشرين رواية كلها تشهد بصحة قران الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث ذكر ستة عشر من الثقاة كلهم متفقـــون في الرواية عن أنس أن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كان إهلالا بحج وعمرة معا، كما ذكر سبعة عشر صحابيا رضي الله عنهم جميعا منهم من روى فعله ومنهم من روى لفظ إحرامه، ومنهم من روى خبره عن نفسه، ومنهم من روى أمره به.

ولابن تيمية فصل مهم أسوقه كما ورد إتماما للفائدة، فقال: والصواب أن الأحاديث في هذا الباب متفقة وليست مختلفة إلا اختلافا يسيرا يقع مثله في غير ذلك، فإن الصحابة رضوان الله عنهم ثبت عنهم أنه تمتع، والتمتع عندهم يتناول القران والذي روى عنهم أنه أفرد وروى عنهم أنه تمتع، أما الأول ففي الصحيحين عن سعيد بن المسيب: اجتمع علي وعثمان رضي الله عنهما بعسفان، وكان عثمان ينهى عن المتعة، فقال علي رضي الله عنه ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ فقال عثمان دعنا منك. فقال إني لا أستطيع أن أدعك، فلما رأى علي رضي الله عنه ذلك أهل بهما جميعا فهذا يبين أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم، وإن هذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم ووافقه عثمان على ذلك، لكن كان النزاع بينهما هل ذلك الأفضل في حقنا أم لا؟ وهل شرع فسخ الحج إلى العمرة في حقنا كما تنازع فيه الفقهاء؟ فقد اتفق علي وعثمان رضي الله عنهما على أنه تمتع، والمراد بالتمتع عندهم القران، إذن القارن عند الصحابة رضي الله عنهم متمتع، وهذا أوصلوا عليه الهدي ودخل في قوله تعـالى: “فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي”، ويستشهدون بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أتاني آت من ربي فقال صل في هذا الواد المبارك، وقل عمرة في حجة) أ.هـ.

من هذا يتبين أن الخلفاء الراشدين: (عمر وعثمان وعلي) وعمران بن الحصين روى عنهم بأصح الأسانيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرن بين العمرة والحج، وكانوا يسمون ذلك تمتعا.

وأما من ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم أفرد الحج فهو مردود بما تم توضيحه من أحاديث الصحابة الفضلاء رضوان الله عنهم، وما روي عن ابن عمر إما أن يكون غلطا عليه، وإما أن يكون مقصوده موافقا له، وإما أن يكون ابن عمر لما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل إحرامه ظن أنه أفرد كما وهم في قوله إنه اعتمر في رجب. والخلاصة التي يشير إليها ابن قيم الجوزية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفرد الحج كما يظن كثير من الناس؛ لأنه لم يقل به أحد من الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا أحد من الأئمة وفقهاء الحديث، ومن قال إنه حج حجا مفردا لم يعتمر معه كما قال ابن عمر وعائشة وجابر والثلاثة نقل عنهم التمتع فوهِم، ترده الأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها في صدر هذا الموضوع.

التخيير بين أنواع الحج الثلاثة

ولنرجع إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم، حيث خيّر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه عند الإحرام بين الصور الثلاث، ثم ندبهم عند دنوهم من مكة إلى فسخ الحج والقران إلى العمرة لمن لم يكن معه هدي، وقد بين لهم كيفية التلبية فقال: (لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، ورفع صوته الكريم بهذه التلبية وأمر أصحابه بأمر الله أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية. فلما وصل إلى مكة قال لأصحابه اجعلوها عمرة فأحل الناس إلا من معه الهدي فظل على إحرامه. في صحيح البخاري عن ابن عباس رضى الله عنه قال: أهل المهاجرون والأنصار، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأهللنا فلما قدمنا مكة قـال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي)، وهذا سراقة بن مالك يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه العمرة التي يأمرهم بالفسخ إليها، هل هي لعامهم ذلك أم للأبد، فيجيب الرسـول صلى الله عليه وسلم: (للأبد وإن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة).

دخول مكة ورؤية البيت

وفي يوم الإثنين لخمس خلون من شهر ذي الحجة دخل مكة من أعلاها (من الثنية العليا) التي تشرف على الحجون، وكان في العمرة يدخل من أسفلها ثم سار حتى وصل إلى المسجد فدخله من باب بني عبد مناف الذي يسميه الناس اليوم بباب بني شيبة، واستقبل البيت وقـال: اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة، وروي عنه أنه كان عند رؤيته يرفع يديه ويكبر ويقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، حيينا ربنا بالسلام اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة، وزد من حجه أو اعتمره تكريما وتشريفا وتعظيما وبرا).

دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وعمد إلى البيت، فلما حاذى الحجر الأسود استلمه، ولم يزاحم عليه، ولم يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني، ولم يرفع يديه ولم يقل نويت بطوافي هذا كذا وكذا، ولا افتتحه بالتكبير كما يكبر للصلاة، ويفعله من لا علم عنده لأنه من البدع، فقد حاذى الحجر الأسود واستلمه ثم أخذ عن يمينه وجعل البيت عن يساره ولم يدعُ عند الباب بدعاء ولا تحت الميزاب ولا عند ظهر الكعبة وأركانها ولا وقت الطواف ذكرا معينا لا بتعليمه، بل حفظ عنه الدعاء بين الركنين اليماني والحجر الأسود: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، ورمل في طوافه هذا الأشواط الثلاثة الأولى وكان يسرع مشيته ويقارب بين خطاه واضطبع بردائه فجعله على أحد كتفيه وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه، وكلما حاذى الحجر الأسود أشار إليه واستلمه بمحجنه، وثبت عنه أنه استلم الركن اليماني، ولم يثبت عنه أنه قبله، ولا قبل يده عند استلامه، وذكر الطبراني بإسناد جيد أنه كان إذا استلم الركن اليماني قال بسم الله، والله أكبر، وكلما أتى إلى الحجر الأسود قال الله أكبر.

خلف مقام إبراهيم

لما فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من طوافه وقف خلف المقام فتلا الآية: “واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى” فصلى ركعتين -والمقام بينه وبين البيت- قرأ فيهما بعد الفاتحة بسورة الكافرون في الركعة الأولى وبسورة الإخلاص في الركعة الثانية، ولما فرغ من صلاته أقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم خرج إلى الصفا، فلما قرب منه تلا قوله تعالى: “إن الصفا والمروة من شعائر الله… إلخ”. أبدأ بما بدأ الله به، ثم رقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، ثم دعا بين ذلك واتجه إلى المروة ماشيا، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا جاوز الوادي وصعد مشى حتى إذا وصل المروة رقى عليها واستقبل البيت وكبر الله وحده وفعل كما فعل على الصفا فلما أكمل سعيه عند المروة أمر كل من لا هدي معه أن يحل من إحرامه. (وقد حددت علامات في العصر الحديث يعرف عن طريقها بداية السعي ونهايته، ويسن الإسراع فيه للذكور فقط ما بين العمودين الأخضرين الملاصقين لجدار المسجد على يسار الذاهب من الصفا إلى المروة، والإسراع يكون فوق الرمل ودون الجري ويفعل في الذهاب من الصفا إلى المروة، وفي العودة من المروة إلى الصفا من كل شوط).

قلت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بعد السعي بين الصفا والمروة الذين لا هدي معهم أن يبقوا كذلك إلى يوم التروية ولم يحل هو من أجل هديه الذي ساقه معه، وهناك قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة، ولم يحل أبو بكر ولا عمر ولا علي ولا طلحة ولا الزبير رضي الله عنهم من أجل الهدي الذي ساقوه معهم. وأما نساؤه صلى الله عليه وسلم فأحللن وكن قارنات إلا عائشة فإنها لم تحل من أجل تعذر الحل عليها بحيضها.

قصر الصلاة بمكة

وقد مكث الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بمكة المكرمة إلى يوم التروية بمنزله الذي ينزل فيه بالمسلمين بظاهر مكة أربعة أيام يقصر الصلاة، فلما كان يوم الخميس الثامن من ذي الحجة توجه بمن معه من المسلمين إلى منى فأحرم بالحج كل من سبق له أن حل إحرامه، ولما وصل إلى منى نزل بها وصلى الظهر والعصر وبات بها وكانت ليلة الجمعة، فلما طلعت شمس يوم الجمعة المباركة سار -صلى الله عليه وسلم- من منى إلى عرفة عن طريق ضب على يمين طريق الناس اليوم وكان من أصحابه الملبي ومنهم المكبر، ولم ينكر على أحد منهم ذلك، وضربت له قبة بنمرة بناء على أمره -ونمرة قرية شرق عرفات بها المسجد المعروف باسمها- فنزل بها.

خطبة الوداع

حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت ثم سار حتى أتى بطن الوادي من أرض عَُرنة، فخطب الناس وهو على راحلته خطبة عظيمة مشهورة قرر فيها قواعد الإسلام وهدم فيها مواطن الشرك والجاهلية، وقرر فيها تحريم المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها وهدر الدماء والأموال والأغراض، ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كله، وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيرا، وذكر حقوقهن وواجباتهن، وأوصى الأمة المسلمة بالاعتصام بكتاب الله، وأخبرهم أنهم لن يضلوا ماداموا معتصمين به، وأنهم مسئولون عنه، واستنطقهم في آخر الخطبة بماذا يقولون؟ وبماذا يشهدون؟ فقالوا نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت. فرفع إصبعه إلى السماء واستشهد الله عليهم ثلاث مرات وأمرهم أن يبلغ شاهدهم غائبهم. ثم أمر بلالا فأذن ثم أقام الصلاة فصلى الظهر ركعتين أسر فيهما بالقراءة وكان يوم جمعة فدل على أن الحاج بعرفه لا يصلى جمعة بل ظهرا قصرا مع العصر جمعاً، ومعه أهل مكة فصلوا بصلاته قصرا وجمعا.

ويقول ابن القيم -رحمه الله- معلقاً على هذه النقطـة: “وهذا أوضح دليل على أن سفر القصر لا يتحدد بمسافة معلومة ولا بأيام معلومة، ولا تأثير للنسك في قصر الصلاة البتة”.

تضرع ودعاء وابتهال

ولما فرغ الرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة ركب ناقته القصواء حتى أتى الموقف، فوقف عند الصخرات، واستقبل القبلة، وأخذ في الدعاء والتضرع والابتهال، إلى غروب الشمس، وقال كلمته المشهورة: (وقفت ههنا، وعرفة كلها موقف) وأخبر أن خير الدعاء دعاء يوم عرفة وقد جاء عنه من دعائـه في الوقف:

(اللهم لك الحمد كالذي نقول، وخيرا مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي ولك ربى تراثي اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجئ به الريح)[1].

 ومن دعائه أيضا: (اللهم إنك تسمع كلامي وترى مكاني وتعلم سرى وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، والوجل المشفق، المقر المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته وفاضت لك عيناه، وذل جسده ورغم أنفه لك، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا، وكن بي رءوفا رحيما يا خير المسئولين، ويا خير المعطيين)[2]

 فلما غربت الشمس، واستحكم غروبها أفاض من عرفة من طريق المأزمين، وكان في سيره يلبى حتى وصل إلى المزدلفة، فتوضأ وضوء الصلاة ثم أمر المؤذن بالآذان ثم أقام فصلى المغرب ثم صلى العشاء بإقامة أخرى، ثم نام حتى أصبح، ولم يحي تلك الليلة، فلما طلع الفجر صلاها بآذان وإقامة ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام فاستقبل القبلة وأخذ في الدعاء والتضرع والتكبير والتهليل والذكر حتى أسفر جدا (أي الصبح) وذلك قبل طلوع الشمس، ثم سار من مزدلفة ملبيا، وفي الطريق إلى منى أمر ابن عباس أن يلتقط له حصى الجمار -سبع حصيات من حصى الخذف- فلما أتى بطن وادي “محسر” حرك ناقته، وأسرع السير، وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل فيها بأس الله بـأعدائه، وفي وادي محسر أهلك الله أصحاب الفيل، ولأن الفيل أحسر فيه أي أبى وانقطع عن الذهاب، وقد سلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- الطريق الوسطى بين الطريقين وهي التي تخرج على الجمرة الكبرى، إلى أن أتى منى، فأتى جمرة العقبة، فوقف في أسفل الوادي، وجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، حيث وقف في أسفل الوادي، واستقبل الجمرة وهو على راحلته فرماها راكبا بعد طلوع الشمس واحدة بعد واحدة يكبر مع كل واحدة ثم رجع إلى منى فخطب الناس خطبة بليغة، أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر وفضله عند الله، وحرمة مكة على جميع البلاد والأمر بالسمع والطاعة لمن قادهم بكتاب الله، وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه، وقال: (لعَلِّى لا أحج بعد عامي هذا). وعلمهم مناسكهم وأنزل المهاجرين والأنصار منازلهم وأمر الناس ألا يرجعوا بعده كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض، وأمر بالتبليغ عنـه، وقال: (إنه رب مبلغ أوعى من سامع) ومما جاء في خطبته: (اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم و أطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم).

افعل ولا حرج!!

وسئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا اليوم عمن حلق قبل أن يرمي وعمن ذبح قبل أن يرمي، فقال لا حرج وما سئل في ذلك اليوم عن شيء إلا قال لا حرج فسئل في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: لا حرج ثم انصرف إلى المنحر بمنى فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده الشريفة، وكان ينحرها قائمة معقولة يدها اليسرى ثم أمر عليا أن ينحر ما بقي من المائة، وأن يتصدق بحلالها ولحومها وجلودها على المساكين، وأعلم الناس أن منى كلها منحر ولما أكمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- نحره استدعى الحلاق فحلق رأسه، ودعا للمحلقين بالمغفرة ثلاثا، وللمقصرين مرة، فحلق كثير من الصحابة -رضوان الله عنهم أجمعين- ثم أفاض الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة قبل الظهر راكبا فطاف طواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة، وطـواف الصدر، وطواف الركن ثم أتى زمزم فقال لمن يسقون لولا أن يبلغكم الناس لنزلت فسقيت معكم ثم ناولوه الدلو فشرب وهو قائم ثم رجع -صلى الله عليه وسلم- إلى منى من يومه ذلك فبات بها، فلما أصبح انتظر زوال الشمس، فلما زالت مشى من رحله إلى الجمار ولم يركب فبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف فرماها بسبع حصيات، ويقول مع كل حصاة الله أكبر وبعد انتهائه من رمى الجمرة الأولى استقبل القبلة ورفع يديه ودعا دعـاء طويلا بقدر قراءة سورة البقرة ثم أتى الجمرة الوسطى فرماها كذلك، ثم انحدر ذات اليسار، مما يلي الوادي فوقف مستقبلا القبلة رافعا يديه ودعا دعاء طويلا مثل دعائه الأول، ثم أتى جمرة العقبة، فاستبطن الوادي واستعرض الجمرة، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه فرماها بسبع حصيات كذلك دعا في أثناء الرمي لأن الدعاء من صلب العبادة.

وهكذا أقام الرسول صلى الله عليه وسلم بمنى أيام التشريق الثلاثة، وأفاض يوم الثلاثاء بعد الظهر إلى المحصب وهو الأبطح -وهو ضيف بني كنانة- فأقام ليلته ثم نهض إلى مكة فطاف طواف الوداع سحرا ولم يرمل فيه، ثم أذن في الناس بالرحيل متوجها إلى المدينة المنورة.

* الأستاذ الدكتور عمران إسماعيل فيتور رئيس جامعة درنة السابق، وعميد كلية الآداب


[1]  أخرجه الترمذي في ((جامعه)) (3520)، وابن خزيمة (4/ 264)، قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي.

[2]  المعجم الكبير للطبراني (11/174) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، إسناده ضعيف.