هلا تدبرتم  قوله تعالى ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) البقرة . 243  . وهي قصة قوم كثيري العدد ، دعوا إلى الجهاد فلم يستجيبوا وهربوا حذر الموت ، فأماتهم الله جميعا عن بكرة أبيهم ثم أحياهم ، حتى يعلموا أن الإحياء والإماتة بيده سبحانه ، وأن القتال لا يقدم قدر الموت كما لا يؤخره الفرار من الزحف . 

لكن السؤال : لم قال الحق سبحانه ( فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ) ؟ ولم يقل ( فأماتهم ثم أحياهم ) ! وما السر أنه عند الإماتة فحسب ذكر ( قال لهم ) ولم ينص على ذلك في الإحياء ( قال لهم احيوا ) ؟!

ألم يلفت ذهنكم قوله تعالى ( فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًاوقوله بعدها ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) الكهف :  77  ، 82

وهي قصة موسى مع الخضر عليهما السلام المشهورة في سورة الكهف عندما مرا على قرية في سفرهما، وطلبا من أهلها الضيافة، فرفض أهل القرية  ذلك بخلا ولؤما، وفي طريقهما وجدا جدارا يكاد يسقط فقام الخضر عليه السلام ببنائه وإقامته، لاحظوا الإيجابية والمبادرة والعمل الخيري والتطوعي بأبعاده دون انتظار مقابل . فاستغرب موسى عليه السلام من الخضر أن لم يأخذ أجرا مقابل ما فعل، فهما في حاجة و فاقة. فكان الرد من الخضر عليه السلام أنه علم بوحي من الله أن تحت الجدار كنزا تركه رجل صالح لولدين له، تركهما يتيمين ضعيفين في أهل القرية لئام شحيحي النفوس، فلو سقط الجدار لقام أهل القرية بالسيطرة على الكنز، وحرموا الطفلين منه، فسخر الله لهما الخضر إكراما لأبيهما الصالح حتى يقوم ببنائه إلى وقت بلوغهما، عندها يكونا قادرين على استخراج الكنز من تحت الجدار ..

والسؤال: لِم أتى في الآية الأولى بكلمة قرية في ( أهل قرية )، وفي الثانية قال عنهم ( في المدينة ) والحديث عن نفس المكان وذات الناس. فما الحكمة من هذا التغيير أو التنويع ؟!

ولعل الحكمة في الآية الأولى: من ذكر (فقال لهم الله ) في الإماتة دون الإحياء: للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته، وتلك ميتة خارجة عن العادة، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقف، كقوله تعالى( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) يس ، 82 . وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وأن الموت إذا لم يكن منه بد ولم ينفع منه مف ، فأولى أن يكون في سبيل الله .

فلو قال الحق سبحانه ( فأماتهم الله ) لربما فهم أنهم ماتوا في أزمان متفرقة وكيفيات مختلفة حسب ما هو جار على عادته في خلقه، أما أن يأتي بـ ( قال لهم ) على وجه الأمر المقتضي للوقوع الفوري، فالأمر مختلف تماما – والله أعلم – ولم يأت ذلك في الإحياء: لأن التركيز هنا على الإماتة لكونه موطن العبرة، ولأن الموت إن وقع يقع بأسباب عدة تؤدي إليه، أما الإحياء فلا يحتاج لمثل ذلك لكونه خارقا للعادة ولا يحتاج لأسباب، فهو هنا بأمر الله وبقدره .

أما عن الآية الثانية: فالتعبير أولا بلفظة ( قرية ) – والله أعلم – لربما يكون لحكم منها:

أن السياق كان حول إكرام الضيف وإطعام ابن السبيل، والمفترض أن أقرب الناس لهذا هم أهل القرية لا المدينة في الغالب، لبساطتهم وشهامتهم، و قربهم للفطرة السوية – هذا كله في الغالب – لكن أهل هذه القرية هنا خرقوا القاعدة و خرجوا عن المألوف عن عادات القرى وسماتهم .

إن السياق يتحدث عن جدار سيقع، وهو يشير إلى قدمه وقدم البناء فيه، والأنسب لذلك لفظة القرية لا المدينة، إذ في الغالب ما يكون البناء في القرى يميل للبساطة والقدم بعكس المدن .

والتعبير ثانيا بـ ( المدينة ) لأسرار منها:

إن السياق كان يتحدث عن صلاح الأب من بين هؤلاء القوم، فحتى يشير إلى انفراده في كثرتهم، وبالتالي إلى استحقاقه للإكرام بعد موته .

لقد كان الحديث عن احتمال استيلاء أهل البقعة على كنز اليتيمين، من غير أن يراعوا فيهما قرابة ولا جوارا، فناسب التعبير بالمدينة إذ فيها تختلط الأعراق والأنساب والألوان، فلا يكاد يتعرف أحد على أخر ، أو يراعي جوارا أو قربى، بخلاف القرية .والله أعلم بأسرار كتابه.