حمل ثقيل، لا يكاد يفارقنا، نغلبه أحياناً، ويغلبنا أخرى، قد يضعفنا تارة، ولعله يقوينا تارة أخرى، ننساه، أو نتناساه، لا يرى فيه بعضنا إلا نقصاً وتنغيصاً ومرارة، ويرى آخرون فيه امتحاناً واصطفاء، بل يخبرنا بعضهم عن حلاوة مخبأة تحت تلك المرارة، إنه الألم، قرين الحياة الذي نعرف وننكر، ومن ذا الذي لم يذقه ويكتوِ بناره؟.

عجيب هذا الألم، والأعجب تألمنا منه مع توقعه ومعرفتنا إياه، ما أدري هل يولد معنا أم بعدنا أم قبلنا؟ هل يكبر معنا؟ أم لعله هو الذي يكبرنا؟.

صرخة يستهل بها كل قادم لهذه الحياة، يا ليت شعري، أمتألم هو أم فرح؟ أمبعثها ألم الفراق، وخوف الغد والمجهول، أم لعلها ضحكة لم تتضح بعد معالمها؟ هل فيها تأسيس وتقرير مبكر لحقيقة الحياة واقترانها بالألم؟.

نكبر ساعة بعد ساعة، ويكبر معنا الألم، بصوره وأصنافه وأسبابه، مغص مؤلم بالبطن يبكينا، الجوع والبرد، والمرض والمجهول، والوحدة والشوق، وتخوفنا من غير المألوف، نبكي بسبب وبلا سبب.

نكبر ويكبر معنا الألم، ويكبر فهمنا له، وسرعان ما نكتشف -بألم- أن لكل لذة ورغبة حد، وأننا -مهما بكينا و طلبنا- لن نحصل على كل ما نشتهي ونريد.

 الألم نعمة حقيقية تسرى في شبكة من الأعصاب تصل إلى أطراف أصابع الإنسان تحميه من أي خطر قد يتعرض له من حوله أو من داخله. فالألم هو الذي يدفعك لأن ترفع يدك من على سطح ساخن فلا تعاود فعلتها مرة أخرى. إذ إن نبضة الألم التي سرت من أصابعك إلى قشرة مخك ستترك بصمتها هناك للذكرى التي ستحفظك بعيدا تماما عن النار مادمت فى وعيك. قد يكون الألم هو أول من يعلن عن التهاب زائدتك الدودية قبل انفجارها، فتتمكن من استئصال الشرر قبل اجتياحه للهشيم.

غالبية الناس أو كلهم يكرهون الألم ويهربون منه إلي حياة المتعة والفرح , ولكننا لا ننكر أن الألم صارت له فوائد كثيرة, للشخص المتألم وللمحيطين به وللعلم وللعالم كله, فما هي فوائد الألم التي لولاها ما سمح الله بالألم؟.. وهل الألم كله ضرر, أم له وجه آخر مضيء يمكن الانتفاع به؟.. وما هي علاقة الألم بعديد من الفضائل الخاصة والاجتماعية؟.. هذا ما نود أن نتحدث عنه في هذا المقال.

ذلك أن النفس تكون أكثر شفافية وحساسية في حالة الألم منها في حالات البهجة واللهو أو المتعة, كما أن الألم دليل علي الحساسية والحياة, فالعضو الميت لا يحس ألما, أما الحي فإنه يشعر بالألم.

تعريف الألم : يعرف أهل اللغة الألم بأنه الوجع ، أما عند الفلاسفة فهو «حالة نفسية يصعب تعريفها، وتتميز بإحساس مادي أو معنوي بعدم الراحة أو بالضيق أو المضض». والألم في الطب «إحساس مرهق يتسبب عن تنبيه نهايات عصبية ميكروسكوبية تختلف عن سواها من النهايات الحساسة بكونها عارية».ويرجع السر في تعريف حالة الألم إلى كون الألم إحساساً شخصيا إلى حد كبير، فالإصابة مثلا التي تسبب ألماً حاداً لأحد الأشخاص قد تسبب ألما أخف لشخص آخر. وأحياناً يكون الألم عند بعض الناس متضخماً، فيبدو أكبر من أسبابه.وللألم وجهان،  في ظاهره نقمة لكنه في حقيقته نعمة ، أما نحن فلا نرى إلا وجهاً واحداً منهما فقط، وهو جانب الشقاء والعذاب.

الحكمة الإلهية من الألم : الألم جهاز إنذار حساس ومتطور وضعه الله في أجسادنا ليخبرنا بوجود مشكلة خطيرة تهدد حياتنا (كاحتراق أو تمزق أو نزف أحد الأعضاء) . ولو ولدنا دون هذه الحاسة لتعرضنا لامحالة لحوادث مهلكة وخطيرة قد تنتهي بأذية العضو أو وفاة الجسد ، وهناك بالفعل حالات نادرة لأطفال ولدوا محرومين من حاسة الألم وبالتالي قد يحرقون أيديهم أو يكسرون أطرافهم أو يجرحون أجسادهم دون الانتباه إليها.

والألم تذكيرٌ دائم ولازم بحقيقة هذه الدنيا الفانية، ولهذا جانبان؛ موجِع ومفرِح، الأول نعرفه ، أما الثاني فكثيرًا ما ننساه، وهو الجانب المشرق من الألم، ففي الجهة الأخرى من الحياة الفانية الناقصة متاعٌ كامل، وفرح لا تنغيص فيه، نعيم فوق الوصف والخيال، إنها الجنة، منتهى الرغبات، وغاية الآمال، وعزاء كل متألم، وعِوَض كلِّ مغبون، فمتى ما ذكر المؤمن بالجنة خفَّ وزال حر ما يجده من ألم.

 فيا عجبًا كيف يذكر الألم بحقيقة الدنيا، ويثير الأشواق إلى الجنة؟! فكم من محنة في ثناياها ألف منحة، وكم من العطايا في أكناف الرزايا!

إن الألم يوقظ رجاء المؤمن في حسن العاقبة، الذي يصبِّر صاحبه، بل لعله – بحسن التربية – يجعله يستعذب ألمه إذا تذكر جميل العاقبة، وقوَّى رجاءه فيها، حتى يصبح الألم والمنع – في حسن ظن المؤمن بالله وقدره – عطاءً وهبة، وحبًّا وتشريفًا، فإنهم يألَمون كما تألَمون، وترجون من الله ما لا يرجون!

و كما أسلفنا القول فان الألم حمل ثقيل نحمله معنا في كل حالنا، نخبئه عن الآخرين، ونخجل من ذكره، نتذكره ولا ننساه، وكلما خَلُقَ في أعماقنا جدَّدنا له عهودنا، لا نبوح به إلا لخاصة الخاصة. وفي هذا جانبان؛ أحدهما: صحيح، والآخر: محل نظر، فليس من الأدب مع الخالق أن نشكَّ في قدره، أو نشكوَه لمخلوق، ولكن ليس في كل حديث وبَوحٍ عن الألم شكوى وتسخُّط من قدر الله.

إن الألم كالامتحان يأتي ربما صعب و لكن من يجيد الإجابة عليه يمنحه منحتين منحة السعادة باجتياز الامتحان و منحة الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أعلى منها فمن صبر رزق القوة و التقدم إلى الأمام .

إلى متى يستمر تصنعنا الفرح وإخفاؤنا للألم؟

الألم نارٌ تبتلي معادننا، فتُذهب خبَث الكِبْر والعُجب من نفوسنا، وتنقي أصلها، ولا تبقي فيها إلا ذهبها الصافي اللامع، وما سره إلا في التواضع والتضحية، والعطاء والإيثار، والتحرر من الأنا الشاغلة الملهية، انظر إلى ألم الصوم كيف هذب روح الصائم، وجعله يحس بمعاناة الجياع والمحرومين.

 الألم هزة توقظ النائم، وتنبه الغافل، وترشد التائه، وتدل الحيران؛ فهو رحمة من الله، نفهمها أحيانًا، ولعلنا لا نفهمها في أحايين أخرى، فكم من مرض عضال عرف صاحبه حقيقة الحياة، فبدأ يفرح بحياته في يومِه وساعته ولحظته، ولقد كان في أمسه مخدوعًا بوعود السعادة المؤجلة التي أضاع فيها سابق عمره، وكم من مصيبة أو فِراق مؤلم أيقظ صاحبه مِن وهمه، وكشف زيف بعضِ مَن حوله، فعرف به عدوه من صديقه.

 الألم طائر ينتزعنا من أَسْر الألفة ووهم الدَّعَة، ويسافر بنا بعيدًا، وفي وقت قصير يقطع بنا مراحل عدة، ويعطينا مجموعة من الدروس مركزة في درس واحد، فيجلو بصائرنا، ويغيِّر قناعاتنا، ولَكَمْ أفَدْنا من ألم عابر خبرة ونضجًا، وحكمة تفُوق ما تعلمناه في سنين طويلة.

ولولا نعمة الألم لما عرفنا نعمة الأمل، ولما قدرناه حق قدره، ولقد قال البعض بأن الألم يصنع الكثير من الأمل، وكلنا يعرف بأن الحياة ناقصة، ومخطئ مَن طلب السعادة فيها بجمع المزيد من حطامها، هي ناقصة، ومصيب مَن أدرك أن حلاوتها في نقصها، وتركها كما هي ناقصة، تجمع بين الألم والأمل، في ثنائية متلازمة، تحيرنا؛ فظاهرها التناقض، وحقيقتها التكامل، تلازم بين قوتين متضادتين ومتعاكستين، خلقهما الله ليديرا دولاب الحياة نحو الحقيقة والغاية العظمى.

لماذا يختلف البشر في الشعور بالألم؟

يتم إدراك الألم في الدماغ ويختلف كل إنسان عن غيره في الإحساس بالألم. وبعض أعضاء الجسم مثل الوجه والفم واليدين تكون أكثر إحساسا بالألم من غيرها.

على رغم قصر كلمة الألم إلا أنها من أصعب الكلمات وصفاً، ولكن المتعارف عليه أنه شعور ينتاب الإنسان نتيجة ترجمة دماغه لوجع أصابه حسيا كان أم معنويا.

ومدى الشعور به يختلف من شخص لآخر، فقد نجد شخصين أصيبا بشكة من دبوسين متماثلين أحدهما يصرخ والآخر لا يحرك ساكناً! والتفسير المنطقي للأمر يصعب تفسيره ولكن الجينات الوراثية وشخصية الإنسان تلعبان دوراً مهماً في ذلك، فقد تكون الآلام الحسية الناتجة من مرض أو غيره شديدة إلا أن الآلام المعنوية أدهى وأمر، كألم فقدان حبيب، الخيانة، القهر والظلم؛ لأنها لن تختفي بتناول دواء وراحة لثلاثة أيام. البعض وخصوصاً النساء يلجأن للبكاء، وآخرون يريحهم الصراخ وتحطيم ما حولهم، وغيرهم يفضلون البوح بهدوء لشخص عزيز أو حتى غريب ليكون لهم صندوقاً يحمل ما بهم من آلام ويذهب بها بعيداً بلا عودة، والبعض يوفقون للتقرب إلى خالقهم فيزيل عنهم آلامهم، ولكن الخطر يحوم حول الفئة التي تفضل كتمان آلامها ومحاولة تجاهلها ظناً منهم أنهم أقوياء كفاية لتحمل وكبت هذا الشعور لينتهي بهم المطاف بالاكتئاب ثم الانتحار أو إيذاء من حولهم.

أثبتت الدراسات أن مستوى إحساسنا بالألم يعتمد كثيرا على توقعنا له واستعدادنا لاختباره؛  فالمريض الذي يرتعب من حقنة الطبيب سيشعر بألم أكبر ممن يتوقعها ويقنع نفسه بسهولتها؛ والمرأة التي تستعد بشجاعة لألم الولادة تشعر أقل من المرأة التي تخشاه وترتعب من قدومه( وهو في تصوري ما يجعلها عملية مؤلمة لمن تلد لأول مرة مقارنة بمن جربت الوضع عدة مرات). والأغرب من هذا كله فهو أن دماغنا (الذي يتحكم بهذه الحاسة العجيبة) لا يشعر هو ذاته بالألم ، كما يمكن عمل جراحة للدماغ دون تخدير.

والعجيب أن هذه الانتقائية التي تحدث لدى معظمنا بطريقة لا إرادية يمكن التحكم بها وإخضاعها للإرادة الواعية … فرهبان التيبت ومشعوذو الهند ومحاربو الشولون (في الصين) يتعلمون كيفية السيطرة على الألم من خلال التأمل والتركيز وإقناع الذهن بوجودنا في حالة طارئة … وبهذه الطريقة يمكنهم إفراز مادة الاندروفين (الشبيهة بالأفيون) بطريقة إرادية وبالتالي تحمل ضربات السياط وحرارة النار وغرز المسامير والسير على الجمر.

والألم لا يخبرنا فقط بوجود مشكلة خطيرة ، بل ويمنع تفاقم مشاكل يومية قد لا نشعر حتى بحدوثها ؛ فحين تنام على ذراعك مثلا (وتحبس الدم عن كفك وأصابعك) ستشعر بألم متزايد يخبر دماغك بوضعك الخاطئ فيأمر جسدك “بالانقلاب” على الجانب الآخر. ومع هذا لا يتردد دماغنا في تعطيل شعورنا بالألم في حال وجود ماهو أهم وأكثر خطورة ؛ ففي ساحة المعركة مثلا؛ قد يصاب الجندي بجروح وحروق وكسور ولكنه لا يشعر بها إلا لاحقا.. كما يتأجل لدينا الشعور بالألم حين نتواجد وحدنا ونصاب بحادث خطير أو موقف مهدد (في البر أو الغابة مثلا).. ولعلك تتذكر شخصيا حالة عراك قديمة لم تشعر خلالها بالألم إلا بعد انتهاء المشكلة وذهابك للمستشفى .. وفي حالات كهذه يفرز دماغنا مادة مهدئة طبيعية تدعى اندروفين توقف إحساسنا بالألم خشية شغلنا عن المهمة الأكبر والأكثر أهمية (وهي النجاة بحياتنا ككل) … وحين تنتهي المشكلة (ونوضع مثلا بين أيدي الأطباء) يبدأ شعورنا الحقيقي بالألم باعتباره مقياسا لمستوى الضرر الحاصل في العضو المصاب .

هل الألم شر خالص؟

يقرن كثير من الناس الألم بالشر والإحساس بالبغض أو الكره، ويتضح هذا في تعريف التهانوي للألم، حيث يقول «الألم إدراك ونيل لما هو عند المدرك آفة، وشر من حيث هو كذلك» ويعرف بعضهم الألم بأنه إحساس مرهق ، الموسوعة العربية الميسرة: 208/1.

أو بأنه إحساس بغيض. الموسوعة العربية العالمية: 581/2.

فهل يعني هذا كله أن الألم في جميع أحواله شر خالص، فلا يرتجى من ورائه نفع أبداً؟

إن النظرة العجلى والتفكير السطحي يمكن أن يسلما إلى إجابة متسرعة، وهي أن الألم – فعلاً- شر خالص، لكن النظرة المتأنية والتفكير العميق – بتقليب الأمور على جميع أوجهها، والبحث عن الحقيقة من جميع وجوهها- يثبتان عكس ذلك، فالله سبحانه وتعالى هو خالق كل شىىء، والألم شيء من الأشياء، ومن صفاته – سبحانه – أنه حكيم خبير، بتقليب حكمة الله ألا يخلق الشيء عبثاً من دون نفع أو جدوى، فمن المؤكد إذن أن ثمة منفعة من ورائه للبشر علمها من علمها وجهلها من جهلها، وما علينا إلا أن نتريث ونتأمل هذه الآلام، وندرسها بشيء من المثابرة والتعمق، لنعرف ثمارها وفوائدها أو الحكمة منها.

كيف تشعر أجسامنا أنّ شيئًا ما ضارًا يحدث فنشعر بالألم؟

عن طريق مستقبلات الألم التي تُحدث إشارةً عصبيةً تنتقل عبر الأعصاب إلى الجهاز العصبيّ المركزيّ الذي يترجم هذه الإشارة إلى الألم الذي نشعر به.

يقول أحمد أمين في مجلة الرسالة -العدد 40 عن نعمة الألم :

إن شئت فتعال معي نبحث في عالم الأدب، أليس أكثره وخيره وليد الألم؟ أوليس الغزل الرقيق نتيجة لألم الهجر أو الصد أو الفراق؟ ذلك الألم الطويل العريض العميق تتخلله لحظات قصيرة من وصال لذيذ، وليس هذا الوصال اللذيذ بمنتج أدبا كالذي ينتجه ألم الفراق، وإن الأديب كلما صهره الحب، وبرح به الألم، كان أرقى أدبا وأصدق قولا، وأشد في نفوس السامعين أثراً، ولو عشق الأديب فوفق كل التوفيق في عشقه، وأسعفه الحبيب دائما، ومتعه بما يرغب دائما، ووجد كل ما يطلب حاضرا دائما لسئم ومل، وتبلدت نفسه، وجمدت قريحته، ولم يخلف لنا أدبا ولا شبه أدب، ولو كان مكان مجنون ليلى عاقل ليلى كسائر العقلاء – وإنما فضل المجنون لآن نفسه كانت أشد حسا وأكثر ألما.

ولولا علو همة المتنبي ما كان شعره، وما علو همته؟ أليست كراهية الحياة الدون، والألم من أن يعد من سقط المتاع، والتطلع لان يكون له الصدر أو القبر؟ وعلى هذا المحور دارت حياته، ودار شعره، ولو نشا قانعا لما فارق بلدته، ولكان سقاء كأبيه يروي الماء ولا يروي الشعر.

وما قيمة المعري لولا ألمه من الفقر والعمى – لو كان غنيا بصيرا لما رأيت لزومياته، و أعجبت بكلماته، ولكان إنسانا آخر ذهب فيمن ذهب – إنما خلده ألم نفسه، وأبقى أسمه قوة حسه.

ولو شئت لعددت كثيراً من أدباء العرب والغرب أنطقهم بالأدب حينا ألم الفقر، وحينا ألم الحب، وحينا ألم النفي، وحينا ألم الحنين إلى الأوطان، إلى غير هذا النوع من أنواع الآلام.

نعم قد أجدت اللغة العربية على الأدب كثيرا – لقد أنتجت لهو امرئ القيس وطرفة، وخمر أبي نؤاس، وفخر أبي فراس ومجون الماجنين، وفكاهة العابثين، وكان غنى ابن المعتز ولذته ينبوعا صافيا لحسن التشبيهات، وجمال الاستعارات – وخلفت لذة هؤلاء أدبا ضاحكا، كما خلف الألم أدبا باكيا. خلفت اللذة أدب المسلاة (الكوميديا) وخلف الألم أدب المأساة (التراجيديا) ولكن أي الأدبيين أفعل في النفس، وأيهما أدل على صدق الحس، وأيهما أنبل عاطفة، وأيهما أكرم شعوراً، أي النفسين خير؟ أمن بكى من رؤية البائسين، أم من ضحك من رؤية الساخرين؟ أمن رأى فقيرا فعطف عليه، أو هزأت فضحك منه؟.

عندما يكون الألمُ نعمة… هل هناك فوائد للألم؟.

قبل الإجابة على هذا السؤال خذ هذه القصة الحقيقية …

كان هناك بروفسور يعمل في معمله الطبي ولاحظ أن فراشة تدعى الإمبراطور وهي تحاول الخروج من شرنقتها كانت تصارع وتتألم بشدة لتخرج إما حية أو ميتة من هذا الصراع وغالباً تخرج حية ولكنه تساءل في نفسه (ماذا سيحدث لو ساعدتها؟) وفعلاً صنع شقا بسكين حادة بطول الشرنقة وخرجت الفراشة من الشرنقة ونشرت جناحيها ثم فجأة خفضتهما وسقطت ميتة!.

ظن العالم أن بإمكانه استبعاد الألم والعذاب ولم يعلم أن الألم كان سيزيدها قوة وصلابة لتستطيع أن تعيش في هذا العالم … فلو صارعت هذه الفراشة لأصبحت أكثر قوة واستطاعت أن تحيا أكثر لكنه منعها هذه القوة .

إذن الألم له فوائد فهو أحد الأسباب القوية التي تعطينا الطاقة والقوة الكافية لمواجهة مختلف العوارض التي تعترض طريق حياتنا، فبالرغم من التسبب في التعب النفسي والجسدي في لحظات ما ولكنها في نفس الوقت تعطينا قوة لمواجهة مواقف أكبر صعوبة في المستقبل .. فلا تحزن إذا أصابك ألم وإنما تأكد بأنه هو دواء وعلاج لما هو قادم في حياتك .

فعلى الرغم من أنّ الألم إحساسٌ سيّئٌ إلا أنه يُشكل آليةً حيويةً وضروريةً لبقاء الإنسان والحيوان، حيث أنه يعتبر وسيلة إنذارٍ مبكرٍ للابتعاد عن المؤثرات الضارة التي قد تسبب تلفًا أو ضررًا خطيرًا للأنسجة الحية في جسم الإنسان أو الحيوان، فالألم الأوّليّ البسيط قد يشير إلى قرب وقوع الضرر، كذلك قد يساهم الألم في عملية الشفاء لأن الألم يدفع الإنسان إلى العناية بالمنطقة المتضررة لتجنب المزيد من الألم، كما أن شدّة الألم قد تكون مقياسًا جيدًا لشدة المرض وكذلك لمقدار التعافي من المرض، وبما أن معظم الأمراض مصحوبةٌ بآلامٍ، فإن المعرفة بأنواع الألم وأسبابه كثيرًا ما يُساعد في تشخيص الأمراض المختلفة وبالتالي أخذ العلاج المناسب.

فوجود الألم نعمة وغيابه عن الإنسان نقمة يعرفها جيدا مريض السكر الذي يعانى من التهاب أعصابه الطرفية وغياب الإحساس عن أصابع قدميه التي قد ترتطم بأي جسم صلب فلا يتنبه إلا بعد إصابة قد تكلفه أصابع قدميه وربما قدمه بكاملها. يعانى من غياب الألم أيضا مريض السكر الذي قد تهاجمه نوبة قلبية تترك أثرها على عضلة قلبه، بينما لا يشعر إلا بتداعياتها فى نهايتها.

يقول برايان تريسي المدرب في الإدارة وتنظيم المهام وتطوير الذات: لو أدرك البشر حقيقة الألم لعلموا أنه نعمة عظيمة وهبة جليل ومنحة كبيرة، لفوائده الجمة ومنافعه العديدة، وبعد تقليب النظر وإعمال العقل وإمعان التنقيب، رصدت لك شيئاً من فوائد الألم لعلها تسري ما بك وتخفف عنك:

1- الألم ذو فائدة بيولوجية، فهو بالرغم من أنه إحساس غير مرغوب فيه يشبه ناقوس الخطر، ويؤدي إلى أعمال عصبية انعكاسية تهدف إلى حماية الجسم من المؤثر الخارجي أو الداخلي الذي قد يتلف الأنسجة، فضلا عن أن الألم يجبر الإنسان على الراحة وعلى استشارة الطبيب، مما لا يترك الفرصة للمرض حتى يستفحل وحينئذ يصعب علاجه.

وكذلك الحال بالنسبة للألم النفسي، فإن الألم النفسي الناشئ عن خوف العبد من عذاب الله يقيه من وقوع العذاب الأليم به في الدنيا أو الآخرة، ومن ثم نرى أن العذاب وصف بكلمة «أليم» في القرآن الكريم في اثنين وسبعين موضعاً.

2- الألم ذو فائدة دينية عظيمة، فهو ابتلاء، والابتلاء مع الصبر نعمة تستوجب الشكر، فيطهر الله به الإنسان من الآثام والذنوب، فالألم يصهر معدن الإنسان المسلم، فتصفو روحه، ويزكو خلقه، وتطهر نفسه، فألم الابتلاء سبيل إلى لذة التقوى ونعيم القرب من الله، وهل يبرق الذهب إلا إذا ذاق آلام النار؟!.

 من فوائد الألم أيضا أنه يدفع إلي حياة الشكر: فلولا ألم المرض ما كان الناس يشكرون علي الصحة التي هي تاج علي رؤوس الأصحاء لا يشعر به إلا المرضي.. ولولا آلام القيود, ما كان الناس يشكرون علي الحرية والراحة, ولولا آلام الضيق, ما كان البعض يشكر علي أيام الفرج, ولولا ألم المذاكرة لما شعر الطالب بحلاوة النجاح ,ولولا وجع الألم, ما كنا نشكر على الصحة .

3- ومن حسنات الألم أنه يشعرنا بقيمة (العافية) ويجعلنا نعيد تقييم الممتلكات التي لا تقدر بثمن، وبضدها تتميز الأشياء, والبشر إذا اعتادوا (العافية) ظنوا أنها أمراً مسلماً لازماً ولا يشعروا بقيمة الصحة ولا بثمن (العافية) إلا إذا زارهم ألم.

4- من فوائد الألم أنه كان السبب الطبيعي في نشأة علم الطب, فلولا الألم والتفكير في التخلص منه, ما كانت هناك حاجة إلي الطب… علي أنه بتعدد أنواع الآلام, ظهرت أيضا تعددات في تخصصات الأطباء, فكل نوع ألم, ظهر أمامه نوع تخصص طبي.

5 من فوائد الألم أنه درس لمن يستفيد منه: فآلام مرض الإيدز صارت درسا في العفة, وآلام المدخنين صارت درسا في البعد عن التدخين أو منعه, وآلام الرسوب في الامتحان أو الحصول علي مجاميع ضئيلة كانت درسا لوجوب الاجتهاد والتفوق, كذلك فإن آلام السجن والشعور بالعار هي درس للبعد عن الجريمة.

6- الألم يعلم الصبر ويصقل الروح ويصلب القناة فالعمل الشاق يزيد المرء قوة وقدرة على تحمل الأعباء، والشعوب التي تعاني لا شك أنها أكثر قوة وأشد ثباتاً وأقدر على مكابدة النكبات, واحتمال أن ينجح من لا يجد معوِّقات في حياته ولا تهب عليه رياح عاصفة تصل للصفر! بل ويفقد الإنسان إحساسه بالحياة ومعها توازنه، ويصير إلى حالة يرثى لها إذا فقد التحديات وهي التي قد تسبب شيئاً من الألم.

7- الألم (مُشعرٌ) عن متاعب الآخرين ويؤسس فينا مشاعر الرحمة والإحساس بالآخرين، فنقدم لهم يد العون والمساعدة؛ فالغني عندما يتألم يهب لمساعدة المسكين فيعينه بماله، والقوي إن مر به ألم الظلم هب لنجدة المقهور، والعلماء والمخترعون يتوجعون لآلام مجتمعاتهم فتكون معها المخترعات والاكتشافات العظيمة.

8- الألم يستنهض (الهمم) ويقوي الإرادة الآلام تقوي العزيمة والإرادة، وتثبت دعائم الرجولة الحقة، فيكتسب المسلم حصانة من آلام الحياة، ويستمد من مقاومتها قوة وصلابة يستطيع بها مواجهة صعوبات الحياة وظروفها القاسية؛ فألم الإخفاق يبصر صاحبه بطريق النجاح، وألم القهر والتسلط يدفع صاحبه إلى البحث عن طريق الحرية، وألم الندم على المعصية يقود إلى لذة الطاعة، وألم الفقر يخطو بصاحبه صوب الغنى والثراء.

9- الألم يفجر الإبداع ويصور الجمال؛ فالشاعر الذي تقارضته الهموم وتنازعته الذكريات وبات يساير النجوم ويتقلب على الجمر كاسف البال منقبض الصدر؛ جزماً سيجلي عن نفسه بأبلغ البيان وسيعبر عن ضميره بأرق العبارات وسيبلغ بأبياته كنه القلوب وسيسحر العقول ويخلب القلوب. ولا غرو إذا علمنا أن الأعمال الشاقة تزيد المرء قوة وقدرة على تحمل الأعباء، ولنا في أنبياء الله أسوة، فإدريس (عليه السلام) كان خياطاً ، ونوح (عليه السلام) كان نجاراً ، وداود(عليه السلام)  كان حداداً ، وموسى(عليه السلام)  كان راعياً للغنم ، كما كان محمد (صلى الله عليه وسلم) راعيا للغنم كذلك، مع ما في الرعي من تعلم الصبر وتعود حسن سياسة الرعية.

لا تجزع من الألم، ولا تَخَف من المعاناة، فربما كانت قوةً لكَ ومتاعاً إلى حين، فإنكَ إن تعش مشبوبَ الفؤادِ، محروقَ الجَوَى، ملذوعَ النفسِ؛ أرقُّ وأصفى من أن تعيشَ باردَ المشاعرِ، فاترَ الهِمَّةِ، خامدَ النَّفسِ. ففي عالم الدنيا أناس قدَّموا أروعَ نِتاجَهُم، لأنهم تألمَّوا؛ فـالمتنبي وعَكَته الحُمَّى فأنشدَ رائعته: (وزائرتي كأنّ بها حياءَ فليسَ تزور إلا في الظلام). والنابغة خوّفَهُ النعمان بن المنذرِ بالقتلِ، فقدم للناس: (فإنكَ شمسٌ والملوك كواكبٌ إذا طلعتْ لم يَبْدُ منهنَّ كَوكبُ ) وكثيرٌ أولئكَ الذين أثروا الحياة، لأنهم تألمَّوا.

الألم وسنن الله في خلقه

يعلم الناس جميعا أن العقاقير المسكنة لا تشفي من مرض بل تخفف من معانات المريض مادام العقار فعالا في جسد المريض إلا أن محصلة المعانات من استخدام الأدوية تحول كثير من الأمراض المؤقتة إلى أمراض مزمنة تستهلك راحة الإنسان ومتعته في يومياته.

تعلن المسكنات عن نفسها أنها ممارسة مخالفة لسنن الخلق، وهي آية مبينة يراها بوضوح كل حامل عقل بشري، ولعل العلم الحديث بدأ يعلن عن مساوئ كثير من المهدئات ومنها أقراص الأسبرين المتهمة الآن من قبل منظومة الطب بأنها مسرطنة، ولعل كثير من الناس يعرفون صفة الإدمان التي تصاحب استخدام المهدئات كما في (المثيدين) و (المورفين) وما تفعله تلك العقاقير من سوء في أجساد متعاطيها!. إن تأمين الجسد في منظومة خلق الله تعني الصبر على الألم حتى يأخذ دورته في جسد المريض ليشفى أو حتى يعلن عن مخاطر سوء يستوجب الحذر منها كما في أوجاع البطن (المغص المعوي) وآلام والصدر أو التهاب الزائدة الدودية، وكل تلك نذر تنذر المتألم بسوء يعتري الجسد ولا يحق للمكلف أن يوقفها بالكذب من خلال المسكنات، فاستخدام المسكنات ما هي إلا كذبة يكذبها المكلف على نفسه فيكون ظالما لنفسه!.

 فن التعامل مع الألم

يختلف الناس في خبراتهم في التعامل مع الألم ، كما أن هناك بعض الأمور لها أبعاد نفسية ومجتمعية وكذلك روحية تتدخل في إدارة الألم. لذلك يجب علينا أن  نتعلم أو نتعامل مع فن  إدارة الألم كيفما كانت أبعاده، ففي  بعض الأحيان قد يجتمع الألم العضوي بالنفسي وقد يكون معطرا بالألم الروحي، فلا يعني الألم الروحي أن هذا أقل تدينا وصلاحا ، وإنما هناك اختلاف في البعد المعرفي حتى في التعاطي مع الدين في لحظات الضعف حتى يعد نفسه لفن التعامل معها. فقد يأتيك ألم مفاجئ وأنت في مناسبة ما، فعليك أن توظف مهاراتك النفسية للتعامل مع هذا الألم حتى تستطيع تجاوز بعض المحن المؤقتة التي لا تستطيع أن تمنع حدوثها، لكنك مؤهل جدا إن تدربت على مهارة إدارتها لكي تتجاوزها.

فالتعامل مع الألم هو خبرة إنسانية، فكل إنسان حسب سماته الشخصية وحسب خبراته السابقة. لكن إذا جئنا إلى الثقافات المختلفة نجد أن كل ثقافة تختلف في طريقة تعاملها مع الألم، و من الثقافات من يعتبر التعبير عن الألم ضعفا ولربما فشلا في الرجولة، ومن الثقافات من يعتبر التعبير عن الألم هي تقدير للحاجات و لذلك يعبر عن الشيء بمقدار حاجته له.

فالنفس الإنسانية عندما تشعر بالألم قد تضخم ذلك الألم النفسي إذا كانت نفسا مرهفة أو ربما قد تخفضه إذا كانت تتعامل بإدارة جيدة مع ذلك الألم.

حمدا للآلام …

إن الألم لا يمكن وصفه في كلمات ، ولكنه شعور بالمضض لا يدركه إلا من يكابده ولا يشعر به إلا من يعانيه . فمهما حاولت أن تصف آلام قرحة المعدة لمن لم يجربها فانك لن تفلح في ذلك بأي حال من الأحوال … وهل تستطيع أن تصف نور الشمس لمن فقد نعمة الإبصار؟

قد يصاب الإنسان منا بالتهاب في مصرانه الأعور فيكون الألم هو النذير بالخطر ، ولولا نعمة الألم لانفجر المصران في بطنك دون أن تدري ولأوردك موارد التهلكة دون أن تعرف مصدر الهلاك ، ولكن الألم يدلنا علي موضع الداء ويجعلنا نتدخل بالمشرط في الوقت المناسب قبل حدوث مالا يحمد عقباه.

فالألم صفارة الإنذار يحميك من غارات المغيرين ، فإذا مالاح الخطر من بعيد فانه يجلجل بقوة ويدق نواقيسه بعزم من حديد ويفصح عن مكان العلة والداء بلا توقف أو إبطاء ، ولولاه لاغتالتنا الآفات والأمراض … وهذا هو سر انتشار الأمراض الخبيثة التي لا تنذر صاحبها بالألم… عندئذ لا تنفع مهارة الجراح ولا فنه ويصير الإنسان إلي الهلاك لا محالة.

فحمدا للآلام وخالق الآلام وهنيئا للجراح المحنك الذي يتدخل بمشرطه في الوقت المناسب وينهي تلك الآلام التي طالما أرقت صاحبها وحرمته لذة المأكل والمشرب.

إن الألم تربية للنفس وصقل للمشاعر وتعميق للإنسانية ومن لا يعرف الألم لا يدرك خفايا النفس ولا يحيط بجوانب الحياة ، ومن سحقه الألم يدرك صنوف الآلام الخارجية والنفسية وهم أكثر رهفا وأعمق فهما للحياة بشموليتها وألوان طيفها.

 ان الألم نعمة تستوجب الشكر، فلولا الألم لما علم المرضى بمرضهم، ولربما فقدوا حياتهم نتيجة لدائهم الصامت!. ومن الناحية المعنوية أيضاً فلو لم نذق مرارة الألم لما علمنا حلاوة الراحة، ولباتت حياتنا لوحة باهتة، ولفقدنا عبادة الشكر لعدم شعورنا بالنعم التي أكرمنا الله بها، فالحمد لله دائماً وأبداً.