بيْن إنزال القرآن وتنزيله تعددت آيات القرآن، فمرة يوصف القرآن بالنزول[1]، ومرة يوصف بالتنزل[2].

فمن النزول جاء قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } [البقرة: 185]

وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]

وتجد وصف القرآن بالتنزل في مثل قوله تعالى : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران: 3]

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ } [النساء: 136]

وقوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا } [الإسراء: 106]

فما الفرق بين التعبيرين؟

يمكننا رد آراء العلماء في إجابة هذا السؤال إلى اتجاهات ثلاثة:

الاتجاه الأول : يرى أن التنزل، هو نزول القرآن مرة بعد مرة، مفرَّقًا على الزمان، وبما أن القرآن وحده من بين الكتب السماوية، هو الذي نزل مفرقًا طوال عمر البعثة النبوية ( ثلاث وعشرين سنة) فإنه هو وحده، الذي وُصِف بالتنزل، وجاء التعبير عنه بمادة ( نزَّل).

بينما النزول المعبر عنه بمادة ( أنزل) يكون بنزوله مرة واحدة دون تفريق، وعلى هذا ، فإذا  وُصِف القرآن بالنزول، كان ذلك مرده إلى نزول القرآن إلى السماء الدنيا مرة واحدة. وممن تبنى ذلك : الزمخشري، والقرطبي، والرازي، والثعلبي، والآلوسي  وآخرون.

الاتجاه الثاني : ذهب أصحابه إلى أن التنزيل أقوى من الإنزال، ومن ثَمَّ فإنه يدل على  فضل القرآن وهيمنته على باقي الكتب المنزلة؛ لأنه هو وحده الموصوف بوصف التنزل، وأما باقي الكتب فقد وصفت بالنزول،  قال تعالى : ” {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]

الاتجاه الثالث :  أن  التبديل بين اللفظين من باب التفنن اللفظي، لا يدل على وجود فرق بينهما.

قال أبو حيان: ” وغاير بين نزل وأنزل وإن كانا بمعنى واحد” .

وقال الزمخشري فإن قلت لِمَ قيل: نزل الكتاب وأنزل التوراة والإنجيل؟

قلتُ: لأن القرآن نزل منجماً ونزل الكتابان جملة.. وقد تقدم الرد على هذا القول، وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير ولا التنجيم، وقد جاء في القرآن: نزل وأنزل، قال تعالى: { وأنزلنا إليك الذكر } و { وأنزل عليك الكتاب } ويدل على أنهما بمعنى واحد قراءة من قرأ ما كان : ممن ينزل ، مشدداً بالتخفيف، إلاَّ ما استثني، فلو كان أحدهما يدل على التنجيم ، والآخر يدل على النزول دفعة واحدة ، لتناقض الإخبار . وهو محال .[3]

رؤية معاصرة في معنى التنزيل

إلى هنا توقف الإسهام العلمي لعلمائنا القدامى في الفرق بين الصيغتين، لكن الإسهام لم يتوقف مع مرور الزمان، فقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى رفض هذه الاجتهادات التراثية، واتجه إلى معنى جديد.[4]

يرى فيه أن النزول مرحلة زمنية انتهت بنزول ألفاظ القرآن حرفًا حرفًا ، طوال عمر بعثة النبي  صلى الله عليه وسلم .

وأما التنزيل فهو إشعاع هداياته للبشر، وهذه مرحلة بدأت مع نزول القرآن، ولم تتوقف بتوقف نزوله أو موته صلى الله عليه وسلم، بل هي مستمرة إلى قيام الساعة، يقول صاحب هذا الاتجاه:

استخدام المصطلحين يعبِّر عن حالتين للقرآن ومرحلتين له في علاقته مع المخاطبين: بين مرحلة النُّزول الأوَّل التي انتهت باكتمال القرآن حرفاً وجزءاً من المعنى.

ومرحلة التنزيل بالمعنى التي ما تزال إلى هذا اليوم وستبقى إلى قيام الساعة. {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]

فهو ما يزال يتنزَّل بمعانيه مفرقاً على مكوث عمر أمِّة الإسلام بحركة تنزيل مستمر.

ويستدل على ذلك بأن الله تعالى قال : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101] فكما أفاد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من تنزل القرآن، وإظهاره لهم ما كان خافيا عنهم، فإن من حق المؤمنين إلى يوم القيامة أن يفيدوا منه نفس الإفادة.لكنَّ الكشف عن الجواب مرتبطٌ بالحاجة له وبحركة التنزيل، لأنَّ حركة التنزيل متصلة بالواقع.

شفاء القرآن لم يتوقف

ولأنَّ الشفاء في القرآن حالة مستمرَّة باقية إلى يوم الدين، عبر عنها بالتنزيل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } [الإسراء: 82]

ولأنَّ التنزيل له دلالة التفريق والاستمرار، فغالباً ما ترتبط خصائص القرآن المستمرَّة التي تعبِّر عن حركيَّته بمصطلح التنزيل، فما نريد الوصول إليه أنَّ النُّزول هو الصفَّة العامَّة في مرحلة التشريع الأوَّل التي نزل فيها القرآن واكتمل بعد التفريق.  والتنزيل هو منهجيَّة اتصال القرآن بالواقع بعد اكتمال النزول الأول، وهي تنزُّل المعاني.

والنصوص الإخباريَّة التي نزلت ولم تتنزَّل كثيرة؛ لذلك فإن من القرآن آيات نزل تأويلها قبل أن تنزل، ومنه آيات نزل تأويلها حينما نزلت، ومنه آيات نزل تأويلها بعد ما نزلت، ومنه آيات لم ينزل تأويلها بعد. أي لم تتنزل بعد.

آيات نزل تأويلها حينما نزلت، ومنه آيات نزل تأويلها بعد ما نزلت، ومنه آيات لم ينزل تأويلها بعد.

ضوابط وتحذيرات

ومع هذا، فيحذر صاحب هذا القول من المضي في هذا الاتجاه دون ضوابط، فيقول :

لا شكَّ أنَّ لمثل هذا التنزيل ضوابط، حتى لا يقع الباحث في إشكاليَّة كبيرة، تتمثَّل في تنزيل النصوص على غير مواضعها، وفهمها بصورة مغايرة للمقصود الشرعي، ناتجة عن عدم ضبط تامٍّ لمعطيات الواقع. [5]


[1] – النزول والإنزال واحد، فالنزول وصف للقرآن، والإنزال مسند إلى الله الذي أنزله.

[2]  التنزل والتنزيل واحد، فالتنزل وصف للقرآن، والتنزيل مسند إلى الله الذي نزّله.

[3] –  البحر المحيط في التفسير (3/ 16)

[4] – الباحث : محمد مصطفى النوباني

[5] – النظرية الحركية، ص 117