تُعدُّ الخلافات من الأمور المُقلقة لكل الناس سواء كانت في ميدان العمل أو الدراسة أو الصداقة أو داخل المنزل، ولهذا فإن الناس يبحثون بشكل مستمر عن الحلول الناجعة لحل الخلافات في جوانب الحياة المتعددة، بحثاً عن حياة سعيدة خالية من الخلافات والصراعات. وإذا كنت -أيها القارئ الكريم- من الذين قد وجدوا صعوبة في حل الخلافات التي تنشب من حين لآخر، فإن كتاب ” كيف تحل الخلافات ؟ ” لبراميلا أهوجا يُقدّم منهجاً جيداً لإدارة الخلافات، حيث يقيّم دور الإنصات البنَّاء في حل الخلافات، ويساعد على تطوير عادات الإنصات الفعال، ويلقي الضوء على أساليب معينة للتغلب على عوائق التواصل الشخصي.
ولأن الحاجة إلى الحلول الناجعة للخلافات والصراعات تزداد يوماً بعد يوم، فإننا سنتوقف في هذه المقالة مع الإنصات الفعَّال باعتباره يمثّل قوام الحياة في العلاقات، ويساهم بشكل كبير في حل الخلافات والقضاء على الصراعات، فقد صمّم براميلا أهوجا كتابه “كيف تحل الخلافات؟” ليكون بمثابة خريطة في ميدان الإنصات الفعَّال، ومن هنا يمكن القول إن أهمية هذا الكتاب تكمن في كونه يقدم أفكاراً ومعلومات متنوعة ومفيدة لكل شخص يعاني من كابوس الخلافات والصراعات، وخاصة إذا تعلق الأمر بالمديرين والأطباء والمحامين والرؤساء التنفيذيين والمهندسين والموظفين الحكوميين والأشخاص المشتركين في العمل والأزواج الحالمين بحياة زوجية خالية من الخلافات المدمّرة للأسرة.
الإنصات قوام الحياة
ينطلق براميلا أهوجا من فرضية مهمة تتمثل في أن الإنصات يُعدُّ قوام الحياة في العلاقات، ولهذا فإنه يؤكد أن “حل الخلافات بطريقة بناءة يتطلب أن تنصت لأفكار ومشاعر ومتطلبات الشخص الآخر من زاوية رؤيته، فلا يوجد شيء في حل الخلافات أهم من فهم كيفية رؤية الشخص الآخر للخلاف”، وانطلاقاً من هذه الفرضية يودُّ براميلا أهوجا أن يقول إن الإنسان كلما كان أكثر مهارة في الإنصات لوجهة نظر الشخص الآخر كان أكثر مهارة في تسوية الخلافات بشكل بناء.
وفي هذا المضمار، لفت براميلا أهوجا انتباه القارئ إلى حداثة الوعي بضرورة الإنصات في الحياة، فأشار إلى أن الوضع السائد في المجتمعات يتمثل في التركيز على التعبير اللفظي وليس الاستماع، ومن الأدلة على هذا الأمر أن “طلاقة اللسان والحمل على الاستماع هما السمتان اللتان ستحوذان على التقدير والمكافأة من بداية أيامنا الأولى في المدرسة”، ولكن مؤخراً بدأ الاهتمام بمفهوم الإنصات كقوام للحياة، فأصبح من الواضح أن الإنصات الحقيقي ليس أمراً سلبياً ولا ينبغي تجاهل قيمته ودوره في حياتنا، لأنه يمثل عملية عطاء نشطة لمحاولة الفهم ومعرفة كيفية شعور الآخر.
كما توقف براميلا أهوجا مع الأهمية العاطفية للإنصات، فذهب إلى أنه لا يوجد إطراء أعظم من الإنصات الكامل المعبر عن الاهتمام، وهذا النوع من الإنصات يتضمن الإنصات للشخص بشكل كامل: تعبيراته الجسدية وكلماته ومشاعره، وتكمن أهميته في كونه بمثابة مهدئ بين المتحدث والمستمع، كما أنه يتحكم في تدفق المعلومات بأكثر من طريقة، وهكذا فإن “المستمع الجيد يلعب دور كل من المرآة ولوحة التقييم التي تلقي انعكاساً على المتحدث، مانحة إياه فرصة ليرى ويسمع بطريقة ربما لا تكون ممكنة بشكل آخر”.
ومن الأمور التي تؤكد مركزية الإنصات في الحياة أن معظم الوظائف تتطلب الإنصات، فقد توصلت الأبحاث في هذا الموضوع إلى أن الأطباء ورجال الدين -على سبيل المثال- يقضون 80-85 % من وقت عملهم في الإنصات، في حين يمكن أن يقضي المعلمون والمهندسون والمشرفون ورجال المبيعات نسبة تتراوح ما بين 40-60 % من وقت عملهم في الإنصات، ومنذ ممارسة علم الطب كان الأطباء ولا يزالون يؤمنون بأنه بإمكانهم أن يتعرفوا على الحالة الصحية للإنسان عن طريق الإنصات لجسمه وهو يعمل.
وتؤكد هذه الأمور وغيرها أهمية الإنصات في مختلف جوانب الحياة، كما تؤكد أن سوء الإنصات يؤدي إلى أخطاء باهظة الثمن، ولهذا فقد كتب “لي إياكوكا” في كتاب سيرته الذاتية قائلاً: “كنت أتمنى أن أجد معهداً واحداً يعلم الناس كيفية الإنصات، فرغم كل شيء يحتاج المدير الجيد أن ينصت على الأقل بقدر حاجته للتحدث”، أما “لينكلتر” فيرى أن “الأخطاء باهظة الثمن التي تحدث بسبب سوء الإنصات جعلت الكثير من المدراء التنفيذيين يخشون التواصل اللفظي”، رغم أنه قد يكون من السهل علينا أن نسيء فهم الرسالة المكتوبة أكثر من المنطوقة.
لماذا نحتاج للإنصات؟
عرفنا الآن أن الإنصات يمثل قوام الحياة في العلاقات، ولكن هل يكفي أن ننصت بغض النظر عن نوع ذلك الإنصات أم لا بد من أن نمارس الإنصات الفعًّال؟ ولماذا نحتاج إلى الإنصات الفعّال؟ الحقيقة أنه لا يكفي أن ننصت فقط، بل بلا بد من أن ننصت بطريقة فعّالة وأن نعوِّد أنفسنا على الإنصات الفعَّال، ولعل من المهم في هذا السياق أن نتذكر وصية ويليام شكسبير التي يقول فيها: “امنح كل شخص أذنيك كلتيهما، لكن قليلاً من صوتك. تقبل نقد كل شخص، لكن احتفظ بحكمك لنفسك”.
إن هذه النصيحة تدعونا إلى ممارسة الإنصات بطريقة فعَّالة وناجعة، وتدفعنا إلى البحث عن فوائد الإنصات الفعَّال وتأثيراته المفيدة، لأن عدم ممارسة الإنصات الفعَّال يمثل تعطيلاً غير مباشر للأذن كحاسة مهمة في جسم الإنسان، فيصبح الإنسان كالأصم رغم أنه في الحقيقة يسمع، ولهذا فقد وصف أحد المعلمين قديماً قومه بأنهم “لهم آذان ولكن لا ينصتون”، ومن هنا فكلما كان الشخص ينصت بطريقة جيدة يكون أكثر نجاحاً في عمله وتعامله مع الناس.
لقد أشار براميلا أهوجا إلى أن التاريخ مليء بالأشخاص الناجحين في الأعمال والحكومات بسبب اهتمامهم وقدرتهم على الإنصات الفعَّال، وقدم “تشارلز شواب” كمثال، فقد قيل عنه: “كان الإنصات بالنسبة له سحر نادر. كان كل من يتحدث معه، بصرف النظر عن مكانه في هذا العالم، يرى رجلاً يصغي بجد وانتباه، وينظر لعيني محدثه، حتى ينتهي المتحدث تماما”. والظاهر أن “تشارلز شواب” كان يعي جيداً أن الإنصات غير الفعَّال يكلفنا خسائر على جميع المستويات، ولكنه بالطبع ليس وحده من يعي سلبيات الإنصات غير الفعَّال، فهناك أشخاص آخرون آمنوا بضرورة الإنصات الفعَّال، نذكر منهم على سبيل المثال “ديوجنيس لارشيس” الذي يقول: “لدينا أذنان ولسان واحد فحسب لكي ننصت أكثر مما نتكلم”.
وهكذا يبدو جلياً أن الإنصات الفعَّال ضرورة ملحة خاصة في حياتنا اليوم التي تتزاحم فيها الأدوار وتتنوع المهام والضغوط النفسية والعملية، ولهذا فقد قدم “كيث دافيز” عشر وصايا للإنصات الفعَّال، تتمثل في: التوقف عن التحدث، والتيسير على المتحدث، وأن تؤكد للمتحدث أنك تريد أن تنصت، وأن تقوم بإبعاد المشتتات، وأن تتعاطف مع المتحدث وتضع نفسك مكانه، وأن تكون صبوراً وتمنحه فسحة من الوقت ولا تقاطعه، وأن تتمالك أعصابك لأن الشخص الغاضب يفهم دائماً معنًى خاطئاً من الكلمات، وأن تكون متسامحاً في المجادلات والنقد فهذا يجعله في وضع دفاعي، ثم قم بطرح أسئلة لأن ذلك يشجعه ويظهر أنك تنصت له.
كيفية حل الخلافات
لعلّنا لا نُبالغ إذا قلنا إن الحالة العامة تكشف لنا أن النسبة الكبيرة من الناس غير معتادة على الإنصات الفعَّال رغم أهميته في مختلف المجالات الحياتية، وخاصة في هذا الزمن المتلاطم الأمواج؛ زمن الصراع والسرعة والرأي والرأي الآخر، وهذا يدفعنا إلى طرح سؤال: ما الذي يتسبب في وجود الخلافات والصراعات؟ هل هو عدم الإنصات فقط أم أن هناك أسباباً أخرى؟
يبدو لنا أن الإجابة الموضوعية على هذا السؤال ينبغي أن تقول بكل صراحة إن هناك العديد من أسباب الخلافات والصراعات، ولكن نسبة معتبرة من تلك الخلافات والصراعات تنشأ بسبب سوء الفهم أو غياب الإنصات الفعَّال، وبالتالي سهولة الانتقال إلى مرحلة التصادم والاقتتال دون مناقشة الأسباب المؤدية إلى الاختلافات والصراعات والبحث عن حلول لها ترضي الطرفين، وهذا ما أشار إلهي “بول هارفي” حين قال: “إذا كنت تكره الحرب فأنت تشاركنا الأمل أن تكون مناقشة الاختلافات بدلاً من القتال بسببها هي الطريقة السائدة في المستقبل”.
وهكذا فإن غياب الإنصات الفعَّال وعدم مناقشة أسباب الخلافات والصراعات غالباً ما تضيّع على الإنسان فرصة اكتشاف الصواب وتصحيح الأخطاء وتحرمه من النجاح في حل الخلافات وتفادي المشكلات، فيظل ينتقل من خطأ إلى خطأ ومن صراع إلى صراع ومشكلة إلى مشكلة، ولعل “كونفوشيوس” كان محقاً حين قال إن “الشخص الذي يرتكب خطأً ولا يقوم بتصحيحه، فإنه يرتكب خطاً آخر”، والتمادي في الأخطاء وعدم تصحيحها قد ينتج عن التكبر وعدم الإنصات الفعّال للنصائح المفيدة من الآخرين.
وفي هذا الإطار، أشار براميلا أهوجا إلى مجموعة متعددة من الصراعات تساعدنا في الإجابة على السؤال السابق (ما الذي يتسبب في وجود الخلافات والصراعات؟)، وتؤكد لنا دور الإنصات الفعَّال في حل الخلافات والصراعات، حيث ذكر أن هناك صراعات القيمة وصراعات المصالح، وهناك الصراع اللفظي – المفاهيمي أو صراع الألفاظ، وهناك الصراع الجلي والصراع الخفي، بالإضافة إلى الصراعات الحقيقية والصراعات الزائفة، والصراعات البنَّاءة والصراعات الهدَّامة.
والحقيقة أن المهم هنا ليس تقديم قائمة بأشكال الصراعات، وإنما البحث عن الطرق المناسبة لحل الصراعات بطريقة فعَّالة تُؤدي إلى الخروج من نفقها المظلم، ومحاولةً لتحقيق هذا الهدف نقول إن هناك دراسات توصلت إلى أن التواصل بين الأطراف يساهم في تسوية الصراعات، ولا شك أن كل عملية تواصل ناجحة لا بد أن تقوم على عنصر الإنصات الفعَّال، فبدونه ستنشأ ظاهرة سوء الفهم لوجهات النظر المختلفة، وبالتالي لن يتوصل الأطراف إلى حل ناجع لتلك الصراعات التي تهدّد حاضرهم ومستقبلهم.
ويبدو أن غياب الإنصات الفعَّال ليس العائق الوحيد دون تسوية الصراعات، بل هناك عوائق أخرى أشار إليها براميلا أهوجا، من بينها: التوجهات الذهنية المتعنتة بدلاً من المتعاونة، ومهارات المواجهة الهزيلة التي تتضمن تجنب القبول والاحتفاظ باختلافات مع شخص ما، هذا بالإضافة إلى اختيار الوقت غير المناسب للأطراف عند إدارة الصراعات، والتواصل الجسدي – اللفظي المهدِّد، مثل الإشارات بالأصابع وتحريك القبضة والحملقة في غضب.