الترفيه من ضرورات الحياة بالنسبة للإنسان لا يستطيع أن يحيا بدونه ولو أراد، فهو يجدد قوى النفس ويمحو آثر الرتابة ويبدد الهم والحزن، والإسلام دين واقعي يقف على أبعاد الطاقة الإنسانية ويقر بالفطرة الميالة إلى الترويح، ولذلك لم يكلف المؤمنين ما لا يطيقونه والانغماس في الجد بل أمرهم بالتوسط والاعتدال في الأمر والتسرية عن أنفسهم بشيء من اللهو المباح. فما هي وسائل الترفيه في العصور الإسلامية وكيف كانت؟
المسلمون والترفيه
كان رسول الله وهو المثل والقدوة يحب السرور وينفر من الحزن ويستعيذ بالله منه، وكان هشا بشا يبتسم لأصحابه ويمازحهم ويشاركهم لهوهم ولعبهم فقد صارع رجلا معروفا بقوته يدعى “ركانة” فصرعه النبي أكثر من مرة، وكان أصحابه يخرجون للعدو على الأقدام فأقرهم على ذلك، وشاركهم حلقات الرمي وشجعهم بقوله “ارموا وأنا معكم.
ولم يعتقد الرسول أن الترفيه حكر على الرجال دون النساء وإنما أقر حاجتهن إليه وأباح غنائهن في الأعراس وسمح لهن بالخروج لصلاة العيد، ولم يحرمهن من حقهن في التريض بل سابق زوجه عائشة رضي الله عنها أكثر من مرة، وقد استنبط الفقهاء من الممارسة النبوية أن الإسلام لا يحرم الترفيه أو اللهو الذي لا تنتهك لله فيه حرمة، ولا يلهي عن الطاعات أو الأعمال الواجبة، ولا يخالطه محرم.
وعلى هذا تفنن المسلمون على مر الأزمان في ابتداع وسائل الترفيه في العصور الإسلامية، فانتشرت على عهد الأمويين والعباسيين مجالس الأدب والشعر والموسيقى، وظهرت الألعاب الترفيهية مثل الشطرنج وهو لعبة فارسية الأصل، وأول من أدخله إلى ديار الإسلام هارون الرشيد ومال إليه ولده المأمون ميلا عظيما، وبرزت حلقات سباق الخيل في عهد الطولونيين وأقيمت لها الزينة، وشغف الفاطميون والأيوبيون بالصيد والمماليك بلعب الكرة والفروسية، وإذا كانت هذه ألعاب النخبة من الحكام والأمراء وفيها شيء من القوة والتدريب على القتال، فإن العامة آثروا مسابقات الحمام، والألعاب البهلوانية كالمشي على الحبال، والفنون السمعية التي تروح عن النفس فظهر الحكواتي الذي يقص السير الشعبية والحكايات الخيالية، والفنون البصرية ومنها مسرح خيال الظل و”القرة كوز” اللذين يُعدان من أشهر وسائل الترفيه في العصور الإسلامية
مسرح خيال الظل
خيال الظل لعبة هندية قديمة انتقلت إلى العرب في العهد العباسي، وكان مجيئه إلى مصر أيام الفاطميين الذين أقاموا لها ملاهي في قصورهم بمصر، وانتقلت معه “البابات” أي النصوص الظلية التي أصبحت فيما بعد تحاكي وتحتذى، ومنها انتشرت إلى أرجاء العالم الإسلامي حيث مثلت أمام السلطان سليمان القانوني العثماني ولاقت نجاحا شعبيا، وصارت تعرف باسم “قرة كوز” في الدولة العثمانية.
ومسرح خيال الظل عبارة عن تمثيلية يمثلها المُخايل على الشاشة أمام النظارة، والشاشة عبارة عن بيت مربع “يتخذون له بيتًا مربعًا يُقام بروافد من الخشب، ويُكسى بالخيش أو نحوه من الجهات الثلاث، ويُسدل على الوجه الرابع ستر أبيض، يشد من جهاته الأربع شدا محكمًا على الأخشاب، وفيه يكون ظهور الشخوص وهم دمى مصنوعة من جلود البقر ومصبوغة بالأصباغ ويصور منها الحيوان والإنسان والأشجار وأي شيء، بحيث إذا عرضت أمام ضوء مشتعل عرضت بهية شفافة”(1). ويقوم المخايل بتحريك الدمى خلف الستار فتنعكس عليه، ويجعلها تنطق وتتصارع وتتمايل في حركات متتابعة فتحدث بذلك أثرها في نفوس النظارة، وخاصة أنها تمثل في ضوء خافت يسمح بانعكاس الدمى على الستار.
والبابة أو النص هو الأصل الذي يحرك المخايل شخوصه على أساسه، ويختلف الموضوع المعالج بين فترة وأخرى حسب ظروف المجتمع وبذلك تعددت الموضوعات وكثرت نصوص البابات، وبعضها بقي حتى يومنا هذا إذ تحتفظ بعض الأرشيفات بنسخ منها وقد طبع بعضها وتم تداوله، وهي تمتد تاريخيا من العصر الفاطمي حتى أوائل القرن الرابع عشر الهجري، أي إلى الفترة التي عاصرها أحمد تيمور وشهد بعض عروضها، وعثر على بعض بابات ابن دانيال الموصلي، وهو رائد هذا الفن في الشرق إذ ارتحل من وطنه بعد اجتياح المغول بغداد وقدم إلى القاهرة حيث أرسى قواعد هذا الفن التمثيلي وأصاب شهرة ونجاحا منقطعين.
هكذا انتشر خيال الظل وأقبل عليه الحكام والعامة على حد سواء، ويروى أن صلاح الدين الأيوبي كان من المولعين به، وأنه أخرج من قصور الفاطميين المشتغلين به ليريه للقاضي الفاضل -الذي صار لاحقا وزيرا له -، وكان حديث عهد بخدمته فتردد، فقال له صلاح الدين “إن كان حراما فما نحضره” فجلس حتى انقضى عرض خيال الظل فسأله كيف رأيت ذلك: فأجابه “فقال: رأيت موعظة عظيمة؛ رأيت دولًا تمضي، ودولًا تأتي، ولما طوى الإزار طي السجل للكتب إذا المحرك واحد”(2).
ويقف ابن الجوزي على ذات المعنى في أبيات له، ذكرها ابن تغري بردي في (النجوم الزاهرة)(3) فيقول:
رأينا خيال الظل أعظم عبرة لمن كان في أوج الحقيقة راقي
شخوص وأشكال تمر وتنقضي وتفنى جميعا والمحرك باقي
وما نقل عن القاضي الفاضل وابن الجوزي وهما من أهل القرن السادس الهجري، يشيران إلى بضع أمور:
الأمر الأول، أن فن خيال الظل بلغ خلال هذا القرن أوج انتشاره، ولم يعد قاصرا على العامة الذين أولعوا بتمثيلياته وإنما أقبل عليه النخبة من العلماء والحكام، وهو يعني مرور زمن طويل على انتقاله من موطنه وتحقيقه هذا الانتشار.
الأمر الثاني، بلوغه مرحلة متقدمة من التطور والنضج حيث وجدت نصوص متقنة ذات حبكة درامية جيدة تم تنفيذها بمهارة؛ فاجتذبت أديبا بارزا كالقاضي الفاضل، وعالما بالشريعة كابن الجوزي.
الأمر الثالث، لم يكن مسرح خيال الظل قاصرا على النصوص الهزلية والمضحكات، بل كانت له أهداف أسمى وأعمق إذ تم تمثيل بعض نصوص أدبية وتاريخية ووظفت خلالها الرموز والقيم الدينية، وفي العصور المتأخرة صار وسيلة من وسائل النقد السياسي ضد المماليك والعثمانيين.
الأمر الرابع، تحملنا أبيات ابن الجوزي على الاعتقاد أن العلماء لم يروا في هذا الفن ما ينافي الأخلاق والآداب لذا اعتبروه مباحا ضمن المباحات، رغم ذكر المصادر التاريخية أن بعض تمثيلياته اتسمت بالمجون، لكن يخيل لنا أن هذا كان في مرحلة متأخرة زمنيا، وأنه لم يدفع العلماء للقول بتحريم خيال الظل.
عروض “القرة كوز“
تزامن مع خيال الظل فن آخر هو “القرة كوز” أو” الأراجوز” -وهو غير “القرة كوز” أو خيال الظل العثماني-، والراجح أنه نشأ متأخر زمنيا عن خيال الظل، وهو يمثل بواسطة دمى من الخشب أو الجص متحركة الأعضاء، وهي تتحرك بواسطة خيوط تشد إلى أسفل منضدة توضع عليها الدمى، ويجلس لاعب “القرة كوز” الذي يقوم بالتحريك متخفيا أسفلها، ويصاحب حركاتها حوار يلقيه صاحب “القرة كوز”.
وتختلف الدمى المستخدمة في “القرة كوز” عن مثيلاتها في خيال الظل فهي تصنع على شكل مماثل لجسم الإنسان خلافا لدمى خيال الظل المسطحة، كما أن دمى “القرة كوز” ترتدي ملابس تماثل الملابس الإنسانية لكنها أميل إلى الزركشة والألوان الصارخة لتلائم المواقف الضاحكة التي تؤديها، وأما وجوه الدمى فتصمم في وضع تعبيري يعبر عن الشخصية التي تؤديها، وأيا ما كانت الشخصية فإن تصميم الوجه عادة ما يكون مضحكا ومدعاة للسخرية ذا منخار طويل أو قفا عريض أو ما شابه ذلك، وصوت “القرة كوز “رفيع ومميز حيث يضع لاعب “القرة كوز” صافرة حديدية في فمه تكسب صوته نغمًا مميزا.
وفن “القرة كوز” أقرب إلى التهريج الشعبي من خيال الظل، وتمثيلياته مرتجلة ربما انخرط فيها النظارة، ويبعثها الموقف وهي ليست نصوصا معدة سلفا، والمواقف ذاتها يحفظها “القرة كوز” شفاهة وينقلها للآخرين شفاهة، ولم يُقصد القائمون عليه سوى التسلية والترفيه ولذلك لا يظن أن تمثيلياته دونت، أو وضعت فيه تمثيليات متكاملة كما هو الحال مع بابات خيال الظل، ونظرا لبساطته أقبل عليه الأطفال إقبالا عظيما وخصوصا في الأعياد حين كانوا يخرجون إلى المتنزهات ويشاهدون عروض “القرة كوز ” فكان مصدرا للبهجة ومظهرا من مظاهر فرحة العيد (4).
الخلاصة؛ أن العصور الإسلامية عرفت عدة وسائل من وسائل الترفيه في العصور الإسلامية، وعرفت ألوانا من الفنون التمثيلية والبصرية، وهي وإن لم ترق إلى ما وصل إليه فن المسرح الغربي الذي نشأ في اليونان القديمة إلا أنها كانت وثيقة الصلة بالمجتمع وقضاياه، ولم تكن أدوات للترفيه والتسلية وحسب وإنما كان له غايات نقدية وتهذيبية.
1- أحمد تيمور، خيال الظل واللعب والتماثيل المصورة عند العرب، القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2019.
2- عبد الحليم أحمد سلطان، أضواء على المسرح المصري الوسيط، أسيوط: مجلة كلية اللغة العربية، 1990، ع 10، ص 265.
3- ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، القاهرة: دار الكتب، 6/176.
4- لطفي أحمد نصار، وسائل الترفيه في عصر سلاطين المماليك، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 352-353.