قال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ ولا يزالون مختلفين } (هود: 118)
لو أن أحدنا على سبيل الافتراض، امتلك بقدرة قادر، أدوات لازمة للاطلاع على عقول ألف شخص في نفس اللحظة. فماذا سيجد؟ لا شك سيجد الكثير من الأفكار التي تدور في عقول أولئك الألف في اللحظة ذاتها. ولا شك كذلك أنها مختلفة، ولكن لا يمنع أن يحدث تشابه وتوافق بين تفكير عشرة أو عشرين أو مائة في اللحظة ذاتها. لكن بشكل عام، لا يمكن أن يكون الجميع في اللحظة ذاتها تدور فكرة واحدة بذاتها في أذهانهم.
ما قصة اليوم؟
الأصل في التكوين البشري أو كما خلق الله سبحانه البشر أنهم مختلفون، ليس في المظاهر الخارجية من أحجام وأشكال وألوان فحسب، بل حتى الداخلية، وأقصد الصفات والطباع والأخلاقيات والعقائد والتوجهات والأفكار والرؤى والطموحات..
أحد أولئك الألف إنسان، إن أحببنا الرجوع إليهم مرة أخرى، سنجده وقد شغل باله أمر وظيفته، وكيف يحافظ عليها بعد تلقيه تهديداً من مديره المباشر بالفصل خلال أسبوع، إن لم يقم بكذا وكذا.. فيما آخر تراه في اللحظة ذاتها وقد انشغل بأمر طفل له مصاب بمرض عضال، لا يدري كيف يخرجه من ذلكم المرض بعد أن أخبره الأطباء عن تقديمهم أقصى ما يمكن تقديمه له.. وقد تجد ثالثاً انشغل تفكيره بكيفية تدبير بعض طعام لأهله الجياع منذ أمس الأول، ورابع يعمل عقله في الانتقام من شخص أساء له وسلب أمواله بالاحتيال، فيما خامس قد تجده في اللحظة ذاتها يعيد شريط أيامه، وكيف ظلم نفسه بالبعد عن الله، وسادس وسابع وألف وهكذا.
كل أحد من أولئك الألف تجده وقد انشغل بهمه أو قضيته أو مسألته.. قد يتوافق بعض منهم في التفكير بنفس الأمر وفي اللحظة ذاتها دون اتفاق أو معرفة سابقة، بل ربما تفصلهما مساحات جغرافية شاسعة. لكن الشاهد من كل هذا أن الأصل في البشر أنهم مختلفون في كثير من الأشياء، أو هكذا خلقهم الله عز وجل.
أحدنا عالم بذاته
المثال الافتراضي أعلاه، يمكن أن يكون نموذجاً لبيان حقيقة حياتية مهمة مفادها أن كل أحد منا له نظرته الخاصة للأمور والأشياء. كل واحد منا يختلف عن الآخر في التفكير، التخطيط، التعامل مع الناس والأشياء، ويختلف في الفهم والإدراك، وكذلك في النظرة للحياة وغيرها كثير كثير.. وهذا الاختلاف أو هذا التباين بين البشر رحمة، بل هو سر من أسرار جماليات الحياة.
كل واحد منا عالم بذاته.. له شخصيته المتفردة ونكهته وذوقه وصفاته وغيرها من أمور لا تتشابه مع أحد، وقد تتقاطع مع آخرين في أمور متشابهات، لكن مع ذلك سيظل كل واحد منا يختلف عن الآخر.. فكل واحد منا، كما أنه خلقه الخالق متفرداً ومتميزاً عن غيره في كثير من النواحي الفسيولوجية أو التكوين الحيوي له، فكذلك يتميز بآرائه ونظراته، فأنت لك نظرة تجاه أمر ما تختلف عن نظرة الآخر، حتى لو كان هذا الآخر من أقرب المقربين إليك. أخ أو أخت أو زوجة أو حتى أحد أبنائك. لكن الأهم من كل هذه الاختلافات مسألة العقيدة.
وهديناه النجدين
الله سبحانه قادر على أن يجعل كل عباده على ملة واحدة أو دين واحد، لا يعجزه شيء سبحانه { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَٰحِدَةً } (هود : 118 ) لكن ليست هذه هي الحكمة من خلق البشر، بل خلق الله الإنسان وهداه النجدين، نجد الخير ونجد الشر، وترك له الاختيار ليقرر مصيره الأخروي.
الحكمة التي أقيم عليها نظامُ هذا العالم، كما يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير، اقتضت أن يكون نظام عقول البشر قابلاً للتطوّح بهم في مسلك الضّلالة أو في مسلك الهدى على مبلغ استقامة التفكير والنظر، والسلامة من حجب الضلال، فلا شكّ أن حكمة الله اقتضت هذا النظام في العقل الإنساني، لأنّ ذلك أوفى بإقامة مراد الله تعالى من مساعي البشر في هذه الحياة الدنيا الزائلة المخلوطة، لينتقلوا منها إلى عالم الحياة الأبديّة الخالصة. إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فلو خلق الإنسان كذلك لما كان العمل الصالح مقتضياً ثواب النعيم، ولا كان الفساد مقتضياً عقاب الجحيم.
يأتي الإنسان إلى هذه العاجلة وفطرته سليمة، أو على الإعداد الرباني، مسلماً موحداً وعلى العهد الذي قطعه على نفسه في عالم الذر ألا يعبد إلا الله، لا يشرك به شيئا. حتى إذا ما بدأ يعي ما حوله ويدرك، تراه يسير وفق أمه وأبيه، إما على دين الفطرة، أو يتهوّد أو يتنصّر أو إلى غير ذلك من معتقدات فاسدة. وهذا قوله تعالى { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } يعني في الأديان والملل والمذاهب.
لبّ الحديث
البشر مختلفون في أشياء كثيرة، مثلما يتفقون في أشياء أخرى، لكن المهم أن يفهم كل منا الآخر، وأنه لا يمكن دفع الناس لأن يكونوا نسخاً من بعض. لكن النقطة الأهم من كل هذا الحديث ألا يختلف الناس على حقيقة كونية واحدة لا ثاني لها، مفادها أن هناك إلها وربا واحدا لا شريك له، وأنه خلقهم لعبادته هو لا غيره، والعمل لأجل نيل مرضاته والفوز بجناته. هذه هي الحقيقة التي يجب ألا يختلف البشر حولها، وهذا سر وجودهم في هذه الحياة. ولأنهم اختلفوا لسبب وآخر، ظهرت ملل ونحل، ومذاهب وعقائد ما أنزل الله بها من سلطان. نسأل الله ختاماً أن يثبت قلوبنا على دينه وطاعته، فلا حول لنا ولا قوة إلا به.