هذه الآية تمثل إحدى المعاني الجامعة، والقواعد المقاصدية السّاطعة التي تقررها جوامع الكلم الإلهي والنبوي،  وقد رأيت أن أغوص فيها للوقوف على بعض الدرر والمعاني التي اشتملت عليها، وأحاول معالجة بعض الإشكاليات التي قد تحوم حولها، فنقول:

أولا: إن الشرع الذي ثبت بالنصوص من الكتاب والسنة الصحيحة لا يمكن أبدا أن يوصف بشيء من حرج وتشدد، فالآية تدل على أن الحرج لا يقع من حيث الأساس في التشريع، ولذلك أي شخص قام بتطبيق الثابت الصحيح من الكتاب والسنة في زمانه ومكانه الصحيحين فلا يجوز لأي واحد أي يصفه بالمتشدد والغالي والمتطرف، بل إن هذا الوصف في مثل هذه المواقف لا يصدر إلا عن جهل أو إرادة تمييع الدين، وإخضاعه حسب الأهواء والرغبات. وهذا يرد على المتنطعين الملصقين التهم الجزاف بالإسلام وتشريعاته من المستشرقين الحاقدين، والشرقيين الجاهلين والغربيين المغرضين.

ثانيا: إذا كان الشارع لم يرم إلى الحرج، ولم يجعله في تشريعاته، فإن على المجتهدين أن يراعوا هذا الجانب في اجتهاداتهم عند الحكم في النوازل، فالأصل هو رفع الحرج والمشقة والتشدد، والأصل هو التحليل وليس التحريم، والأصل هو التيسير وليس التشديد (وما اختير النبي  صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار ايسرهما ما لم يكن اثما)

ومن هنا أي اجتهاد صدر من أي واحد وكان يوقع الناس في الحرج والمشقة فإنه تجب إزالته ورفعه. وهذا تذكير لبعض المتفقّهين الذين يخيل إلى بعضهم أحيانا أن القاعدة هي “فحيثما التشدد فثمّ شرع الله” ويعتقدون وهمًا أن وقوع التشدد والحرج والمشقة هو معيار كثرة الثواب والأجور، وأن الانكفاف على السهل واليسر يجرّ الناس إلى تمييع الدين والاستهتار به، فبينت الآية أن هذا المنظور لا يتفق ودين الله.

ثالثا: حتى التشريعات والأحكام الأصلية في الإسلام إذا أخضعت المكلف في بعض الظروف والأحوال الطارئة لحالات الحرج والمشقة، فإن تلك التشريعات والأحكام ترتفع في تلك الحالة الطارئة، والسبب في ذلك أن الدين ليس فيه حرج، فمتى ما وقع الحرج يرتفع حتى لو كان ذلك التشريع أساسا وأصيلا، فمن هنا نرى القرآن يتحدث عن إباحة الميتة وغيرها في حالات المخمصة، ونراه يجيز النطق بالكفر في حالات الإكراه.

رابعا: أن هذه الآية قد تكون عاما مخصوصا تارة، وعاما أريد به الخصوص تارة أخرى، وذلك حسب الأحوال والأشخاص، وبيانه كالتالي: أن الحرج نوعان: حرج شديد، وحرج خفيف، فالأول تنزه الشريعة عنه، لأنه مؤذ للمكلفين، والثاني: لا تنزه عنه الشريعة لأن ذلك لا يتصور عقلا، وبهذا نعرف ان الحرج المنفي في الآية تكون عاما مخصوصا إذا اعتبرنا جانب الحرج الشديد، وهو نفي  الحرج الشديد وليس كل الحرج، فلا يدخل في عمومه الحرج الخفيف. أما كون الآية تشتمل على عام أريد به الخصوص، فهي تقع في حالات المسافر، والمريض، وصاحب المخصمصة وغيرهم من أهل الأعذار، فالواقعين في مثل هذه الأحوال ترتفع عنهم الحرج الخفيف الذي يصبح في حقهم حرجا شديدا،   فمن هنا يتبين أن في المرتبة الأولى يكون الحرج المرتفع هو الحرج الشديد ويكون لجميع المكلفين، وفي المرتبة الثانية يكون الحرج المنفي هو ذلك الحرج الخفيف الذي كان واقعا على جميع المكلفين في المرتبة الأولى إضافة إلى الحرج الشديد الذي كان أيضا منفيا عن جميع المكلفين في المرتبتين.

خامسا: السؤال الذي يطرح نفسه بعد تقرير النقاط السابقة هو: كيف يصمد دعوى رفع الحرج الشديد عن المكلفين مع صدور الأمر لهم بالجهاد والقتال، فهل هناك حرج أكبر من الانخراط في نشاط يؤدي إلى  إزهاق الروح وتوقف الحياة؟

قبل الإجابة على هذا السؤال سأضع الخطوط العامة الإجماعية حول الجهاد الإسلامي الذي هو القتال،  يقول لنا الشرع:  لا يجوز مشاركة الأطفال في القتال، لا تشارك النساء في القتال إلا في الأعمال اللوجستية، لا يخرج المرضى والأعمى والأعرج وجميع من يلحق بهم، وإنما يخرج البالغين الأصحاء جسما وعقلا، وبعد وضع هذه الخطوط العامة، فيبقى السؤال السابق، أليس إخراج الأصحاء البالغين نوعا من الحرج الشديد عليهم؟ نقول كلا، فهذا لا يعتبر حرجا شديدا وذلك اعتمادا على فلسفة الجهاد والرؤى التي نتبناها في هذه المسألة:

فنحن نعتقد أن العالم مبني على الصراع بين الحق والباطل، وهما في دوامة التعارك والتنازع المستمر، أحيانا ترتفع الوتيرة وأحيانا تنخفض، لكن لا يمكن أبدا أن تنطفأ وتخمد، وإذا كان ذلك كذلك، فإن العمل على حماية المشروع الإسلامي والدعوي ومشروع الحق والهدى واجب إلى قيام الساعة، ومن المعروف أن الأعداء لن يولوا جهدا للمؤامرة والسعي للقضاء على الحق وأهله، تارة بالسياسة والدهاء، وتارة أخرى بمحاولة إزهاق نفوس أهل الحق والقضاء عليهم، وإذا كان ذلك كذلك، فإن من الواجب على أهل الحق العمل على حماية مشروعهم، وحماية أهلهم وأسرهم ودولهم، وفي سبيل هذا قد يستشهد البعض ويقتل وتزهق روحه بحكم ضرورة حماية المشروع التي تعتبر كشرط مسبق لاعتناق الدين والمشروع الايدلوجي والفلسفي، بل هو ضروري لحماية أي منظور يتبناه الناس حول الحياة والكون والمآل، فهو شرط يفرض نفسه على المعتنق وليس نابعا من المعتقد نفسه، وإنما هو شرط أسبقي عليه،  ومن هنا نفهم أن الجهاد والقتال في حماية المشروع الإسلامي لا يقع في دائرة الحرج الشديد من هذا المنظور، لأنه ضروري ولا بد منه، فهو واقع بالضرورة اللزومية.