قال تعالى : { ومن شر حاسد إذا حسد } (الفلق : 5)
الأقربون أولى بالمعروف.. أو هكذا هي العبارة المشهورة عند العامة، وإن ظن البعض أنها جزء من حديث نبوي، وهي غير ذلك، لكن معنى العبارة صحيح. وليس موضوعنا اليوم البحث عن أصل العبارة، بقدر التوقف عند موضوع الأقربين، المتعارف بين الناس شيوع التآلف والتعاون بينهم.
لكن ماذا لو فقد الأقربون تلك المزايا، وصار بعضهم والعقارب سواء، كما تقول العامة؟
سؤال نحاول أن ندندن بعض الشيء حوله.
إن فتحت مسألة الأقربين، فلابد من التطرق إلى أمثلة من التاريخ بارزة، تتكرر في كل زمان ومكان، وكيف وصل بعضهم إلى درجة من السوء بحيث يبدأ بفعل الحسد وينتهي بما هو أشنع وهو الحقد، فلا تكاد تجد تفسيراً منطقياً لها.
كان قابيل أبرز الأمثلة منذ بدء الخليقة، والذي سن سنّة سيئة سيتحمل وزرها ووزر من عمل بها من بعده، لا ينقص من أوزارهم شيئاً، كما جاء في الحديث الشريف، فإن الإقدام على جريمة مثل القتل، لم يكن يدور بخلد أي أحد حينذاك وهم قلة يومئذ. فالمتعارف عليه حال القلة أن يكون التعاضد والتآزر هما الأصل في العلاقة بين تلك القلة من الناس.
لكن قابيل خالف كل تلك المفاهيم، فكان العقرب الأول في تاريخ البشرية. العقرب الذي لم يجد عدواً يلدغه سوى أقرب المقربين إليه، أخيه هابيل. حيث بدأ بحسد أخيه إلى أن فاض الكيل به ويصل إلى الحقد عليه، فيدفعه دفعاً لجريمة قتل في وسط عائلي، يعرف بعضه بعضا. لتستمر هذه الجريمة بعد ذلك إلى يوم الناس هذا، وإلى ما شاء الله لها أن تستمر، وليكسب في الوقت ذاته قابيل، إثم كل قاتل إلى يوم الدين.
نموذج آخر هو عم النبي الكريم – ﷺ – المُكَنى بأبي لهب، وكان من أكثر المحبين لأخيه عبدالله الذبيح، والد نبينا الكريم – ﷺ – حتى إذا ما رزقه الله بولد وحيد هو نبينا الكريم ويتوفى بعدها، يُظهر أبولهب محبته لابن أخيه بعتق جاريته التي زفت إليه خبر الولادة. ثم بعد سنوات يختار اثنتين من بناته – ﷺ – لأولاده. رقية لعتبة، وأم كلثوم لعتيبة، رغم أنهما كانا على الشرك فيما كانت رقية وأم كلثوم مسلمتين، حيث لم تكن آية تحريم تزويج المسلمات للمشركين قد نزلت بعد. لكن ما إن انتشر خبر الدعوة والرسالة، حتى انقلبت قريش على الصادق الأمين، وكان من ضمن المنقلبين معهم أبو لهب الهاشمي، الذي كان أول من جاهر بعداوته له – ﷺ – في خطوة غير مفهومة ولا مقبولة عند العرب حينذاك. انقلب هذا العم، المفترض فيه أن يكون كبقية إخوانه مع ابن أخيهم، يدافعون عنه حين بدأت قريش تؤذيه، ولو من باب العصبية القبلية كعادة العرب في الجاهلية.
لم يفعل ذلك، بل خالف توجهات بني هاشم واصطف مع كبار مجرمي قريش أمثال أبي جهل وعقبة وأمية، حسداً من عند نفسه على ما تفضل الله به على نبيه بالرسالة دون سائر بني هاشم. ليتطور ذلك الحسد إلى حقد ظهر على شكل عداوة، تزداد يوماً بعد آخر، حتى التهبت وصارت ناراً معنوية تأكله هو وزوجته حمالة الحطب، ولم تردعهما السورة التي نزلت وفيها وعيد شديد لهما، إلى أن هلكا وختم كل منهما حياته بشقاء أبدي في نار ذات لهب. لم ينتفع أبو لهب بعلاقة القرابة مع خير البشر كما إخوته، سيد الشهداء حمزة، وجعفر الطيار، والعباس وعقيل وغيرهم. فلا هو أغدق خيراته على ابن أخيه ودينه مثل أولئكم العظماء، ولا كف شره وناصره كأضعف الإيمان مثل أخيه أبي طالب، لكنه أبى إلا أن يكون عقرباً لئيماً عنيداً حسوداً حقوداً، أنهى حياته بنهاية لن تسره لا في قبره ولا آخرته.
لماذا حقد الأقربين؟
قد نتساءل عن سبب مثل تلك العداوات والأحقاد بين الأقارب. والإجابة قد لا تحتاج كثير تحليل، فإن أشد أمراض القلوب وهو الحسد، ما إن يبدأ يسيطر على القلب واللب، فإنه يحوّل صاحب ذلك القلب واللب من حاسد سلبي، إلى حاسد إيجابي حقود، لا يرى مكانة ولا يأبه لمشاعر أو أحاسيس تجاه أقرب الناس إليه. الأخ قد يقتل أخاه والعم يعادي ابن أخيه، بل ويساهم في مشاريع اغتياله والتخلص منه، وغيرهما من أمثلة قد تزيد في السوء أو تقل !
حين يتعمق داء الحسد لمال أو جاه أو زعامة أو غير ذلك من زخرف الدنيا تدريجياً، ويصل إلى درجة الحقد، فإنه يدفع بصاحبه لارتكاب حماقات كارثية، كما في الحديث (سيصيب أمتي داء الأمم، قالوا: يا نبي الله، وما داء الأمم؟ قال: الأشَرُ والبَطَرُ، والتكاثر والتشاحن في الدنيا، والتباغض، والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهَرْج). والأشر هو كفر النعمة، والبطر هو الطغيان عند النعمة.
القصتان أعلاه ما هما سوى غيض من فيض. وأكاد أجزم بأن كل واحد منا لديه قصص ربما شبيهة، وربما يجد من أهله وأقاربه وأصدقائه من هم على شاكلة قابيل أو أبي لهب. يتمنى الحاسد منهم زوال النعمة عن المحسود بادئ الأمر وبأي وسيلة، أو المساهمة بنفسه في كل ما من شأنه أن يزيل النعمة عن المحسود !
هكذا يفعل الحسد في القلوب، وهكذا يفعل في تفتيت العلاقات وتفكيك الروابط العائلية والأخوية وغيرها من روابط بين البشر. الحسد يغلف القلب بغلاف صلب يقطع صلته بالواقع، ويمنعه صناعة مشاعر الود والألفة والمحبة تجاه الآخرين ولو كانوا من الأقربين. والحسد كذلك يصنع غشاوة على الأبصار، لا يرى بسببها الحاسد أحداً أمامه يستحق الرأفة والرحمة. من أصابه هذا الداء ولم يجتهد للتخلص منه ومعالجة نفسه، فقد أعلن عن نهاية غير سعيدة له، لا في عاجلته ولا آخرته.
ليس هناك من علاج لهذا الداء أنجع وأنفع من تقوية الإيمان بالله، والتقرب منه واللجوء إليه، فإن بغير ذلك، لا أحد ينجو من قلب حاسد، ولو كان أخاً أو أختاً أو أحداً من أقرب المقربين. ولنسأل الله سلامة الصدور من تلك الأمراض المعنوية قبل العضوية، فإنها تُعمي القلوب التي في الصدور. وقد قيل قديماً بأن لكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته؛ فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه، لم يضره عماه شيئا. وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه، لم ينفعه نظره شيئا..