في القرآن حديث طويل عن أسباب السقوط في الشهوات، والارتكاسة في الضلالات، بأنها بفعل الله وتقديره، ما أورث شبهة عبر التاريخ بجبرية الإنسان على طريق الضلال، من هذه الآيات:
قوله تعالى : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7]، و قوله تعالى : {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء: 155]، و قوله تعالى : {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } [الإسراء: 45]، و قوله تعالى : {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 7 – 9]، و قوله تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد: 24]، و قوله تعالى : {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7]، و قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23]، و قوله تعالى :{ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ } [غافر: 37]، و قوله تعالى : { صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127]، و قوله تعالى : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، و قوله تعالى : {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28]، و قوله تعالى :{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، و قوله تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، و قوله تعالى :{وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]، و قوله تعالى : {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ } [التوبة: 46]، و قوله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41]، و قوله تعالى :{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108]، و قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } [المائدة: 13].
فقد نسبت الآيات ( الختم، والطبع، والغطاء، والتغليف، والوقر، والغشاوة، والسد، والقفل) وأمثال ذلك إلى الله تعالى.
التغاضي ليس حلًّا
قَنَعَت بعض الفرق الإسلامية، مثل ( المعتزلة) بإجابة لا تقنع طفلا، فضلا عن أن تكون إجابة علمية تدحض شبهات المشككين، وتثبت قلوب المترددين، ومؤدى إجابتهم، أنها أوصاف لا أفعال على الحقيقة، فمثلا قوله تعالى : {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ } [الروم: 29] معنى : أضله الله، أي سماه ضالا!
وإذا كان من هدي جبريل أنه كان يدارس النبي ﷺ القرآن في رمضان، وإذا كنا مدعوين إلى هذا الهدي، فإن المدارسة ليست مجرد التلاوة، ولكنها مناقشة وتعلم، وعمل للوصول إلى هدايات القرآن.
فالمسلم الذي يتلو القرآن في رمضان، وفي غيره، ليس مطلوبا منه أن يمر على هذه الآيات، غاضا طرفه عن أغوارها، أو مارا عليها مرور الكرام.
ومن هنا رأينا أن نساعد على بيان وجه الحق في هذه الآيات، كما بينها التصور السني عبر الزمان.
وهذا التصور يقوم على المعالم التالية :
1-الفهم الذي يرى أن هذا الإضلال من الله ببعض عباده، إنما هو اختيار عشوائي، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء دون جريرة ممن يضلهم، وأنه سد عليهم طريق الهداية دون ذنب فعلوه…هذا الفهم، مما ننزه الله سبحانه وتعالى عنه؛ لأنه يتنافى مع العدل الذي نؤمن باتصاف الله سبحانه به.
2- الفهم الذي يؤول الإضلال من الله ببعض عباده، بأنه ليس الإضلال المانع من الهداية كما سبق وصفه عن بعض الفرق…. هذا الفهم مما ننزه لغة القرآن منه، كما ننزه عقولنا عن الاقتناع به. انظر هنا : [شفاء العليل لابن القيم ، ص182، دار الحديث].
3- الفهم السني المقبول أن هذا الإضلال، ومثله ( المفاهيم المماثلة ، مثل الختم، والطبع، والتغطية، والتغليف) واقعة في معناها دون تأويل، لكن الله ينزلها ويفعلها ببعض عباده، جزاء وفاقا ببعض ما جنوه.
لم يستحقوا المعونة الإلهية
فالطبع والختم والتغشية لم يفعلها الله سبحانه بهؤلاء من أول وهلة حين أمرهم بالإيمان أو حينما بينه لهم، وإنما فعل الله ذلك بهم بعد تكرار الدعوة منه سبحانه، والتأكيد في البيان والإرشاد، وتكرار الإعراض منهم، والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع على قلوبهم ويختم عليها فلا تقبل الهدى بعد ذلك.
والإعراض والكفر الذي وقع منهم في أول الأمر لم يكن مصحوبًا بالختم والطبع، بل كان اختيارا منهم، فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية؛ فتأمل هذا المعنى في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6، 7] فإنه من المعلوم أن هذا ليس حكما يعم جميع الكفار، فإن الله لم يختم على قلوب جميع الكفار، ولم يُغش أبصارهم جميعًا؛ بدليل أن الذين آمنوا وصدقوا الرسل كان أكثرهم كفارا قبل ذلك، ولم يختم على قلوبهم وعلى أسماعهم، فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين من الكفار، فَعَل الله بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة، كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير، وبعضهم بالطمس على أعينهم، فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب كما يعاقب بالطمس على الأعين، وهو سبحانه قد يعاقب بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة، وقد يعاقب به إلى وقت ثم يعافي عبده ويهديه كما يعاقب بالعذاب كذلك.[ شفاء العليل، ص199]
وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا
4-قال تعالى : {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 125] تبين هذه الآية أن هناك من يريد الله هدايته، فيساعده بشرح صدره، بأن يقذف فيه نورا من لدنه، ويوجد في نفسه الرغبة إليه، والرهبة منه.
وهناك من لا يريد الله هدايته- أعاذنا الله من مصيرهم- وهنا قد يثور الإشكال : ما ذنب الطائفة الثانية، أن الله لم يرد هدايتهم فلم يساعدهم، فجعل صدورهم ضيقة حرجة، وجعلها غير صالحة للإيمان ؟
يجيب ابن القيم إجابة بليغة موجزة مقنعة، يقول : ” فإن قلت فما ذنب من لا يصلح؟ قلت: أكثر ذنوبه أنه لا يصلح؛ لأن صلاحيته بما اختاره لنفسه وآثره وأحبه من الضلال والغي على بصيرة من أمره، فآثر هواه على حق ربه ومرضاته، واستحب العمى على الهدى.” أي أن عدم صلاحيته للمساعدة الإلهية كانت بسبب منه ابتداء، فليست هداية أقوام وإضلال آخرين اختيارا عشوائيا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.