القيادة في العلم والتخصص لا تقل أهمية عن غيرها من أنواع القيادة عسكرية أو سياسية أو اقتصادية .. فالمعلمون هم الذين يخرّجون القيادات ويصنعونها ويصيغون بنيتها الأولية لدى النشء ، فلا عجب إذا أن نرى القرآن قد عرض مشهدا يتعلق بنوع من القيادة نادرا ما يُلتفت إليه .
بدأت حكاية موسى مع الخضر عليهما السلام : ( حينما كان موسى عليه الصلاة والسلام يخطب يوماً في بني إسرائيل، فقام أحدهم سائلاً: هل على وجه الأرض أعلم منك؟ فقال موسى: لا، إتكاءً على ظنه أنه لا أحد أعلم منه، فعتب الله عليه في ذلك، لماذا لم يكل العلم إلى الله، وقال له: إنَّ لي عبداً أعلم منك وإنَّه في مجمع البحرين،.. ) البخاري
فمدار القصة كلها على العلم ، وليس أي علم ..بل هو من نوع خاص دقيق.
قال تعالى ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا …فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) الكهف : 60 ، 65 .
لقد ذكرت الآيات صفات القائد المعلم الخضر – عليه السلام – في مطلع القصة منوهة إلى استحقاقها للتأمل والتدبر :
– العبودية ( عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا ) : وتعني الانكسار والخضوع الكامل لله سبحانه والتواضع له ، مع يقين جازم به وإيمان قطعي راسخ . وهي من مفاتيح المعارف وبدونها لا قيمة لأي علم.
– الرحمة ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً ): وهي وإن كانت تعني هنا : النبوة .. لكنها تلقي بظلال جميلة في شأن الرفق بالناس والرأفة بالمتعلمين .( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) الأنبياء : 107 .
– العلم (وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) أي : معرفة دقيقة عميقة لا يسبر غورها إلا من رعاه الله وتولاه .فقد آتى الله الخضرعلما لدنيّا أهلّه لأن يعلّم أنبياء من أولى العزم من الرسل ( موسى عليه السلام ) .
وهذا حال المعلم القدوة القائد مهتم دائما بقضايا الآخرين ومصالحهم ويقدمها على مصلحته ، ويعيش مع الناس ويحمل همومهم .. وهو كذلك عزيز النفس عفيفها له هيبة العلماء وكبريائهم
فالمعلم الناجح المتميز لا بد له من هذه الركائز حتى يكون مؤثرا قائدا وقدوة في مجاله وتخصصه :
– الانكسار لله والتواضع له مهما بلغ من العلم وترقى في الدرجات المعرفية .. ولا يعجب بعلمه وفهمه و يظن أنه بلغ غاية المنتهى . بل ينسب الأمور دائما لله ويشكره على فضله .
– الرحمة بالمتلقين والمتعلمين والرفق بطلبة العلم ..فمع خروج موسى – عليه السلام – عن الشرط الذي التزم به مع الخضر
( قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) الكهف 70 . إلا أن الخضر كان يكتفي بالتذكير فحسب (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) 72 . وقد قال النبي الكريم – عليه السلام -” مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ ” . البخاري ومسلم
– المعرفة الدقيقة بمجال التخصص والحرص الشديد على الاستزادة من العلوم ، وتنمية القدرات والمواهب ..وأن يكون قارئا نهما حتى يظل في المقدمة دوما ويستحق أن يقود الناس ويحركهم نحو الهدف المراد . فالمعلم القدوة لا يكرر نفسه وعلومه ويبقى يراوح مكانه دون تطور نحو المعالي .
ولم يكتف القرآن بعرض هذه الصفات للقائد المعلم الخضر – عليه السلام – بل هناك صفات جليلة تفهم من سياق القصة ..منها :
– اهتمام الخضر بالصالح العام وقضايا مجتمعية ملحة ، ومعرفته بواقع الناس المعيشي والديني ..فكل ما قام به من أعمال كانت لمصالح الآخرين وليس له فيه أي مكسب ، فمن خرق السفينة التي كان الهدف منها الرأفة بالمساكين وحتى لا يأخذها الملك ..إلى قتل الطفل الذي كان مظنة أن يفتن أبويه عن الطريق الحق ..إلى اليتيمين الذين أصلح لهما الجدار فبناه حتى يكبرا ..
– عفة النفس وعزة واستعلاء على لعاعة الدنيا .. وقد ظهر ذلك جليا في قضية الجدار الذي أصلحه بدون مقابل ،علما أن أهل القرية أبوا ضيافتهما وتعاملوا معهما بلؤم .
وهذا حال المعلم القدوة القائد مهتم دائما بقضايا الآخرين ومصالحهم ويقدمها على مصلحته ، ويعيش مع الناس ويحمل همومهم .. وهو كذلك عزيز النفس عفيفها له هيبة العلماء وكبرياؤهم.