جاء في حوار أبي سفيان بن حرب مع هرقل حينما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم وطبيعة الدين الذي يدعو:” “وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ..

 

يبدو هذا الحكم الذي أطلقه هرقل باستحالة الانقلاب العقدي في حياة المؤمن ـ عند أول وهلة ـ عاريا من الصحة، على المستوى النظري، حيث إن القاعدة المطردة أن الحي لا تؤمن عليه فتنة، وعلى المستوى الواقعي، حيث تواجهه حركة الردة في العصر الأول وموجة الإلحاد التي اجتاحت العالم الإسلامي في منتصف القرن العشرين وما تزال آثارها باقية.

 

ولكن عند التدقيق في قولته(وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد) تظهر لنا كلمتان مفتاحيتان هما: تخالط بشاشته القلوب ولا يسخطه أحد، ومن خلالهما يمكن أن نحلل خلفيات الردة والإلحاد في المجتمعات المسلمة.

مخالطة الإيمان بشاشة القلوب ليست حركة وجدانية داخلية فقط، بل هي مزيج من الوعي بالفكرة الإسلامية في تصورها للكون وعالم الغيب أولا، وفهم مقاصد الدين وموقفه من عالم الشهادة ثانيا، ثم بعد ذلك التأسيس الفكري العقدي يأتي الترقي في العبادة الصحيحة وجدانيا.

فمخالطة الإيمان بشاشة القلوب ليست حركة وجدانية داخلية فقط، بل هي مزيج من الوعي بالفكرة الإسلامية في تصورها للكون وعالم الغيب أولا، وفهم مقاصد الدين وموقفه من عالم الشهادة ثانيا، ثم بعد ذلك التأسيس الفكري العقدي يأتي الترقي في العبادة الصحيحة وجدانيا.

 

ونظرا لتحول الشريعة إلى شأن أكاديمي ـ كما يقول محمد أسد ـ يملك حق مباشرة فهمه وتفسيره  فقط متخصصون أو متضلعون علميا، نظرا لذلك حجبت بساطة العقيدة وجمال الشريعة خلف ركام من الآراء والفتاوى التاريخية جعل عامة المسلمين غير قادرة على تصور حقيقة الإسلام أحرى تمثلها.

 

إذن، لم يعد الإيمان  هو تلك الفطرة الكامنة التي تستجيب عند أول  محفز طبيعي، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية:”أين الله؟ قالت في السماء، قال: اعتقها فإنها مؤمنة”، كما لم تعد التكاليف الشرعية هي تلك الأوامر الصريحة الواضحة البسيطة التي يرى فيها المسلم طريقه سالكة إلى الله، بل أصبح الإيمان والتكاليف تراثا معقدا من الفلسفة والمنطق، وشبكة من القواعد والأحكام يحتاج فهمها إلى علم ودراية، لا يملك أدواتهما كثير من الناس.

الحضارة الغربية الغالبة الآن هي حضارة بلا روح، بل هي حضارة تنكر الروح وتعلي عليها شأن المادة، ولها ميزة أخرى وهي قدرتها الفائقة على تجزيء قيمها وحقن الآخرين بها

ثم إن عصور الانحطاط حين عجزت عن إنتاج رؤية شرعية خاصة بها ألبست تاريخ حركة العقل البشري في الوحيين ثوب القداسة، فمنعت مساءلة التراث واعتبرت ذلك زندقة ظاهرة، وقد أدى هذا التقديس إلى إلغاء تدريجي لدور الفكر والعقل، ومن ثم التسليم بتلك الآراء البشرية ظاهريا، رغم سؤال الشك الداخلي الذي لا يهدأ حول حقيقة مطابقة كثير منها لتعاليم الشرع الصحيح.

 

وكما يقول محمد أسد: فـ”حين يأتي زمن يتميز بالعقل النقدي ـ وهذا ينطبق بلا شك على زماننا ـ ويبدأ في كشف عوار كثير من تلك الآراء القديمة، يبدأ العقل العام في الشك في صحة الإسلام نفسه، ورغم مأساوية الحال فإنه أمر طبيعي، فإن المسلم العادي لم يتعلم أن يفكر لنفسه قط، لذا فهو سهل الخداع جدا، فكما يسهل تضليله بخرافات وشعارات زائفة تتمسح بالدين يسهل كذلك دفعه إلى النقيض، فيبدأ الشك في أصل الإسلام بعد زلزلة أي من قناعاته الشخصية القديمة”.

 

تلك الجذور العميقة لسخط البعض على الدين.

ثم إن الحضارة الغربية الغالبة الآن هي حضارة بلا روح، بل هي حضارة تنكر الروح وتعلي عليها شأن المادة، ولها ميزة أخرى وهي قدرتها الفائقة على تجزيء قيمها وحقن الآخرين بها، ولذلك استطاعت تسريب كثير من مفاهيمها المادية إلى العالم الإسلامي دون أن يشعر بأن هناك استهداف مقصود لقيمه.

 

وأضرب مثالا بمصطلح “عصر السرعة”، وهو مفهوم تجاوز حقل التكنلوجيا والصناعة والحياة العادية إلى حقل المعارف الإنسانيىة، فأصبح المرء يريد أن يواكب هذه السرعة باقتناء ساندويتش لا يكلفه وقتا لعملية الطبخ التقليدية ويريد في نفس الوقت أن يواكبها على مستوى تحقيق قناعاته الفكرية والعقدية فيبحث عن مقال مختصر أو تدوينة عابرة ويظن ذلك كافيا لبناء عقله ووعيه، وهو ما يحوله تدريجيا إلى إنسان منهك البدن خاوي الفكر.

الإلحاد كموقف فلسفي نادر الحدوث، أما السائد منه اليوم فهو ـ في نظري ـ حالة مرضية روحية، وليست موقفا فلسفيا كما يزعم أهلها، ذلك بأن الإيمان بوجود إله مركوز بعمق في الفطرة البشرية العادي

إن مواكبة عصر السرعة، كما يفهمه العالم الثالث، تقتضي اعتبار كثير من قيود الشرع وتعاليمه معيقة عن التقدم الذي يجب ـ حسب التقليعة السائدة ـ أن يتم بسرعة هائلة كما تدمر مدن ودفاعات العدو في لعبة إلكترونية، ولذلك يكون الحل لدى كثيرين هو التحرر من القيود أولا.

 

ثم إن الفصام الذي يعيشه العالم الإسلامي اليوم بين تعاليم الدين وواقع الحياة جعل كثيرا من الشباب يقرر الهروب من واقعه البائس، ولكي يتحرر من تأنيب ضميره بالتناقض يعلن كفره أو إلحاده، مع أنه في قرارة نفسه مؤمن، مفضلا صراحة الكفر عن تخليط انتساب لدين لا يفهمه تصورا ولا يراه تمثلا.

 

إن الإلحاد كموقف فلسفي نادر الحدوث، أما السائد منه اليوم فهو ـ في نظري ـ حالة مرضية روحية، وليست موقفا فلسفيا كما يزعم أهلها، ذلك بأن الإيمان بوجود إله مركوز بعمق في الفطرة البشرية العادية، لكن هذه الفطرة قد تمرض فتنتكس أو تتراكم عليها أهواء النفوس وشهوات الأبدان فيظن صاحبها أنه وصل بعقله للإلحاد، وليس ذلك بصحيح.

 

إن ما نراه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من ردة بعض الشباب وإعلانه كفره، ما هو  في غالبه ـ  إلا تعبير غير صريح عن سخط داخلي على تصور خاطئ سائد للدين وعلى أسلوب أعوج في الندب والدعوة إليه.

 

إن من عرف الإسلام لن يرتد عنه سخطة منه؛ ولكن أين هو الإسلام الذي إذا خالط بشاشة القلوب استلذته؟