كثيرا ما تتملكنا الحيرة حين نتدبر حال عالمنا العربي الذي تلعب به القوى الدولية وفق مصالحها واستراتيجياتها، فإذا أرادته سلما كان سلما ولو على حساب قيمه الثقافية وسيادته السياسية، وإذا أرادت حربا أشعل لها النار في أرجائه حتى تحقق مآربها، بعضنا يعزو الأمر إلى التفوق الاقتصادي والعسكري؛ والحقيقة أنه تفصل بيننا وبين الغرب عسكريا واقتصاديا جبال من تهامة تطول ولا تقصر، ولكن القوة العسكرية ـ رغم أهميتها ـ لا تحقق كل هذا التفوق.

في نظري أن أزمتنا المستحكمة ذات طابع ثقافي فكري أول ما تكون؛ ذلك أن الأمة الناهضة ثقافيا وفكريا لا يهزمها التفوق العسكري والصناعي، كما أن جذور هذه الأزمة ـ في نظري ـ تعود لأكثر من قرن كامل. لقد بدأ العد التنازلي السريع للأمة منذ بدايات ما يسمى بمرحلة الاستعمار الغربي، وذلك حين قررت أوروبا وأمريكا السيطرة على الدول العربية والإسلامية.

كانت الخطة الاستعمارية مكونة من هدفين كبيرين، هما: الإخضاع المادي عن طريق التقسيم التعسفي للمستعمرات، أما الهدث الثاني فمعني بالإخضاع المعنوي وقد ركز على استراتيجية مشهورة، هي(التعليم من غير تثقيف)، ويعني تعليم أبناء المستعمرات ما يجعلهم آلات صالحة في المعامل والمتاجر والحقول من غير أن تتسع آفاق النظر عندهم ما وراء الأعمال المطلوبة منهم.

وقد نجحت الخطة بفرعيها.

إن الذي يريد أن يقيس مدى تقدم أمة عليه أن ينظر إلى عدة أمور في أولها حال كليات الآداب والحقوق فيها، ذلك أن تلك الكليات هي التي تحفظ دين وقيم وتقاليد وتاريخ أي أمة، وما هي الأمة بدون الدين والقيم والتقاليد والتاريخ!.

إن سياسة التشجيع للتخصصات المهنية والتقنية التي تعتمدها الدول العربية تعبر عن انعدام التفكير الاستيراتيجي وعن الجهل التام بكيفية تحريك التاريخ وتطوير الأمم، وهي سياسة جعلت النابغين والنابهين من الطلاب يتوجهون نحو الشعب التقنية والفنية تاركين شعب اللغة والتاريخ والفلسفة والحقوق للفشلة ضعيفي الذكاء والهمم.

كثيرون يجهلون اهتمام الغرب بالعلوم الإنسانية وازدهارها فيه، وأن نهضته الاقتصادية والصناعية والعسكرية كانت نتاجا لنهضة فكرية وثقافية وحقوقية قبل ذلك بعقود. لكن ساستنا البائسين ما يزالون يعتبرون الرواية والقصة والمقال الفلسفي والبيان الحقوقي والقصيدة الشعرية أشياء (غير عملية) ولا تفيد في حاضر ولا مستقبل.

ولو لعلموا أن كل أم أمريكية في غرفة نومها مكتبة أدبية منتقاة، وأنها تُهدهد أطفالها عند النوم بقراءة ما في تلك المكتبة من قصص وروايات أدبية انكليزية تروي تاريخ وثقافة وحضارة وأساطير المجتمع الأمريكي والعالم وتتوغل في دراسة النفس البشرية، وهي تعرف أنها بذلك لا تعلمهم التعلق بالخيال والأساطير، وإنما تخصب أخيلتهم ليكونوا مبدعين في مستقبلهم، ومنتمين لحضارتهم بعدما يكبرون.

إنها تريدهم مثقفين لا متعلمين فقط، والفرق كبير بين المتعلم والمثقف، فالأول آلة من لحم ودم أما الثاني فإنسان من عقل وفكر وموقف. إنها تعلم أن اللغة ليست وسيلة تواصل محايدة، وإنما هي فكر وتاريخ وثقافة وفلسفة، وإن إتقانها يعني قوة الانتماء لتلك الثقافة والوعي الحضاري الراشد.

إن صراع الحضارات والأمم لن يستغني عن العقل والفكر في أي يوم، ولن يعتمد على التقنية وحدها أبدا، فالأسلحة النوعية المتفوقة هي هباء إذا لم تمتلكها دولة ذات سيادة وفكر وثقافة وفلسفة ودين وتاريخ، والدولة التي تملك سيادتها الثقافية والفكرية لن تتخلف عن ركب الأمم بحال من الأحوال.

إن ساسة ونخب العالم العربي اليوم مطالبون ـ والأمة تمر بمنعطف تاريخي ـ أن يتحملوا مسؤولية الرفع من شأن العلوم الإنسانية واللغة العربية عن طريق تشجيع طلاب شعبها وكلياتها، فبذلك ستنهض الأمة حضاريا وذلك أزكى وأقوم.