كان السؤال الذي حاول المقال الأول الإجابة عنه بحسب كتاب تكوين المفكر هو (من المفكر؟ )، وتحدثنا فيه عن تعريف المفكر وعن صفاته الرئيسة، أما هذا فنتحدث فيه عن التفكير ذاته، وقد طرح المؤلف سؤالا في بداية هذا الفصل هو(ما التفكير)،  وبما أن التفكير  في تعريفه العام يشمل تحريك الهموم والمواجع والمحادثة مع النفس إلا أن المؤلف يؤكد من البداية أن هذا ليس هو ما يقصده بالتفكير، فما الذي يعنبه التفكير هنا؟

يقول المؤلف :” التفكير هو ذلك النوع من عمل الدماغ الذي يستهدف حل مشكلة أو الوصول إلى شيء مجهول أو اكتشاف علاقة ظاهرة”، ثم يورد تعريف ابن سينا للتفكير: “إنه انتقال الذات العارفة مما هو حاضر إلى ما هو ليس بحاضر”ويحاول المؤلف توضح إجابته من خلال جملة من الحيثيات:

التفكير: استقصاء للخبرة

فالإنسان يفكر من خلال تجاربه وخبراته ومعارفه، وكلما كانت أغزر كان تفكيره أرشد، إن الذي يفكر من ذهن فارغ كمن يمخض لبنا لا زبدة فيه، لن يستخرج الزبد مهما طال مخضه للبن لأنه باختصار ليست به زبدة أصلا.

ومن ناحية ثانية إننا حين نبدأ عملية التفكير في أمر ما نقوم باستقصاء خبراتنا وعقد المقارنات بين الحالات المتشابهة أو المتنافرة، ويضرب المؤلف مثالا بقاض احتكم عليه زوجان يريدان الطلاق وأحب الصلح بينهما، إنه يقوم باستعراض تاريخ الحوادث والقضايا التي عرضت عليه، وحينها سيفلح غالبا في إيجاد النصائح المناسبة.

التفكير: بناء النماذج

تعني النماذج عند المؤلف تلك الصور العقلية التي نرى من خلالها الواقع، والتي نبنيها في عقولنا لشخص أو حالة أو وضعية، إنها أشبه بالخريطة المعرفية التي تعصمنا من التيه المطلق، ويتشكل كل نموذج ذهني من ثلاثة عناصر:

ـ ما نلتقطه من الواقع المشاهد

ـ ما نستخرجه من الخبرة الشخصية

ـ ما نحضره عن طريق الخيال

ويقدم المؤلف د. عبدالكريم بكار نموذجا تطبيقيا على (الكذاب)، فهو: كثير الكلام وكثير الأيمان وصاحب مبالغات وغرائب  ويظن نفسه ذكيا ولا يبالي بالعهود، إن بناء النماذج يساعد على الاقتراب من الظاهرة بشكل منهجي، كما هو نفسه فن مكافحة العماء والغموض وفن تسهيل الإدراك والقبض على الحقائق.

التفكير:فن طرح الأسئلة

قديما قيل:السؤال نصف العلم، وكان أحد العلماء يقول: إن الإشكال علم، والتفكير الناضج هو ذلك الذي يفتح طرقا جديدة للفهم والتبصر من خلال الأسئلة المستفزة التي تكسر الاتساق المصطنع للثقافة.

إن الأسئلة تجعلنا نعيد التفكير حول بعض ما كنا نعتبره مكتملا ومنطقيا، لتقول لنا إنه غير مكتمل وغير منطقي، والسؤال الكبير قد يفجر من المعرفة ما لا يفجره ألف جواب.

ويطرح المؤلف عدة أسئلة كأمثلة على الأسئلة الكبيرة المستفزة للذهن، منها:

ـ لماذا نجد أن معظم المسلمين فقراء مع أننا نمتلك أفضل نظرية اقتصادية في العالم؟

ـ لماذا تنفق المرأة المسلمة على الحلي والزينة أضعاف ما تنفقه المرأة الأمريكية، مع أن المسلمة تعتقد أن الآخرة خير من الأولى، وتعتقد بأهمية الزهد وخطورة التبذير؟

التفكير والعواطف

العواطف عنصر أساسي في الإنسان، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن إنسانيتنا تتحدد من خلال المشاعر وليس من خلال التفكير، إنها تشكل البنية العميقة لنا، وكثير من الأذكياء يصدرون أحكاما فورية بناء على عواطفهم ثم يستخدمون عقولهم لتبريرها.

ولكن العواطف تتسم بالغموض وبكثير من عدم العقلانية والمنطق، ويحاول المؤلف أن يرشِّد العلاقة بين العواطف والعقل لأن ذلك الترشيد هو الضامن لمعرفة صوابية الأفكار والأحكام التي نقرر، وذلك من خلال التحري وتغليب المعطيات والمعلومات على الظن والتخمين، ثم ترك المبالغة التي تؤدي إلى الإحباط حين ينكشف زيف الأحكام التي بنيت عليها.

وقد بين القرآن الكريم أهمية التنبه لتأثر الأفكار والأحكام بالعواطف فقال عز وجل:”ولا يجرمنَّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى”، ولذلك نحتاج رقابة مستمرة على مشاعرنا حتى لا تظهر بمظهر الأفكار.

التفكير واللغة

هناك علاقة جدلية لم تحسم بعد، وهي: هل اللغة سابقة على التفكير أم التفكير سابق على اللغة؟ لسنا بصدد نقاشها فلسفيا، ولكنها تفيدنا في دور اللغة في التأثير على التفكير، وقد قال الشافعي:”لا يحيط بلغة العرب إلا نبي”، وهو ليس خاصا باللغة العربية بل كل لغة لا تمكن الإحاطة بها.

قصور فهمنا الضروري للغة يؤثر على تعبيرنا عن الأفكار وفهمنا لها لا محالة، ومن هنا تأتي العلاقة والتأثير المتبادل بين التفكير واللغة، إن اللغة وسيلة لتخزين المعلومات والمفاهيم والأفكار ووسيلة لاسترجاعها أيضا من الذاكرة، كما هي أيضا أداة لصنع الأفكار .

إذا كان هذا مكان اللغة من التفكير فإن علينا أن ننمي لغتنا من أجل تنمية أفكارنا، ومن زاوية ثانية فإن اللغة تقوم بالحد من أفكارنا بالقدر الذي نعرفها به، إنها بمثابة الروح من الجسد، فمهما كانت الروح متوثبة ومشرقة فإنها تظل محصورة في حدود الجسد.

إن علاقة اللغة بالتفكير هي علاقة إنتاج وتحديد واستحضار واستذكار وخيال، ومن ثم فإن أي جهد يبذله المفكر من أجل الرقي بلغته فإنه يطور من خلاله تفكيره وأفكاره ونظرته للكون والحياة.

التفكير والعقل الجمعي

المجتمع هو الذي يمنحنا أسماءنا ويعرفنا بذواتنا ويمنحنا النظارات التي نرى بها العالم، ولذا فإن سطوة العقل الجمعي علينا أكبر من أن توصف. وللمجتمع تصوراته ومفاهيمه وعاداته وتقاليده وتقييماته الخاصة للأشياء والتي تشكل وجدان وروح أفراده.

لكن العقل الجمعي غالبا ما يعاني من السطحية وانخفاض الفهم ولعل من أسباب ذلك حرص الثقافة الجمعية على التلاحم مما يجعل الناس تسير سير أضغفها، وموقف العقل الجمعي من العقل الفردي قائم على الاستحواذ وعلى الخوف من التفلت والابتعاد.

والعقل الجمعي المسيطر على الأمة هو عقل المؤامرة كما أن العقل الجمعي المسيطر على الجماعات الإسلامية ـ حسب المؤلف ـ يميل إلى تقديس العمل الجماعي والاستخفاف بجهود الأفراد التي لا تنسجم مع عقل الجماعة.

ميزة المفكر هو قدرته على تنمية وعي فردي مستقل يمكنه من اتخاذ موقف متمايز عن الموقف الاجتماعي العام، إن عليه أن يخرج من صندوق البيئة والتفكير من خارجه والانفتاح على الخبرات العالمية.

وفي الخلاصة فإن التفكير يلزمه أن يكون حرا ومستقلا ومنطلقا من خبرات كبيرة ومعارف واسعة حتى يستطيح إخراج زبدة صالحة للمجتمع بعد عملية الخض أي عملية التفكير التي يضطلع بها.