يذكرون أن ملكة فرنسا قبل الثورة (ماري انطوانيت) كانت تحيا حياة مترفة ومعزولة تماما عن الواقع الخارجي، وقد حدث أن وجد بعض الحراس فلاحا مغمى عليه من شدة الجوع، فأتوا به إليها، فأشفقت عليه، وقالت لا يصح لك أن تتبع هذا (الريجيم) القاسي!. كما أخبروها مرة بأن بعض الفلاحين مضى عليهم أسبوع دون أن يتناولوا شيئا من الخبز، فقالت: لماذا لا يأكلون (الجاتو).
تتشكل لدى كل واحد منا خريطة إدراكية يفهم من خلالها كل ما يسمع أو يرى، وهي التي توجهه للتركيز على بعض التفاصيل وترك تفاصيل أخرى ربما هي أكثر أهمية في الواقع، لذلك يلزم المفكر الحر مساءلة خريطته الإدراكية وعدم السماح لها بالتحكم فيه وتوجيهه.
يختم المؤلف كتابه بالتنبيه لبعض الأمور التي يلزم المفكر الموضوعي أن يحذر منها حت لا يقع في المصيدة التي وقع فيها الخرافيون وأهل الأهواء والجاهلون، وهي عقبات تقف في وجه العقل وتمنعه من رؤية الأشياء على حقيقتها، وفي مقدمتها التسليم للخريطة الإدراكية لنا، التي تتحكم في نظرتنا وحكمنا على الأشياء. ومن تلك الأمور التي يلزم الحذر منها:
ـ الجزم حيث ينبغي التوقف
يلزم المفكر الموضوعي أن يدقق في ما يتوصل إليه من معلومات، وأن يضعها أمام سؤال الشك، حتى يختبر صحتها، وينبه المؤلف إلى غريزة كره الفراغ التي تجعل كثيرا من رواة الأحداث يحرصون على ملء فراغات مروياتهم من بنات أفكارهم.
ويروي المؤلف قصة حدثت له تبين عدم تثبت الناقلين، ذلك بأن الطائرة التي كان يستقلها انفجر أحد إطاراتها وهي تدرج بسرعة على مدرج المطار مما اضطر السائق للتوقف وإنزال الركاب، لكن المواقع الإلكترونية والصحف سارعت بالقول (هبوط اضطراري لإحدى الطائرات) مع أن الطائرة لم تقلع حتى تهبط.
2 ـ المجاملة على حساب الحقيقة
احترام الحقيقة سمة المفكر الحر الصادق، وكثير من الناس يجانب الحقيقة خوفا السلطة السياسية أو من سلطان المجتمع، فيؤدي به ذلك إلى تحريف الحقائق أو طمسها، وهنا يقول المؤلف إنه إذا كان الإنسان في وضع حرج لا يسمح له بقول الحقيقة فإن عليه أن لا يقول الباطل، فإنه لا ينسب لساكت قول.
كما أنه من تحريف الحقائق مجاملة الناس ومدحهم بأشياء يعلم القائل أن فيهم ضدها، فإن في ذلك تكريسا للأخطاء والاختلالات الاجتماعية، مما يجعلهم يستمرؤونها ولا يفكرون في تغييرها ما دامت مثار مدح وثناء، ولا يتعارض هذا مع الكذب للصلح بين الناس، فإن هذا في سياق فردي وذلك في سياق جماعي.
3 ـ تحجيم الخيارات
وهو من الأخطاء الفكرية التي تكبل مسيرة تقدم العالم الإسلامي، وهو تلك النظرة الضيقة التي لا ترى إلا هذا أو ذاك، ومع أن القرآن يفتح أذهاننا على التوسع الذي يشهده الكون والحياة بشكل مطرد، (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون)، فإننا ما زلنا نحصر أنفسنا في سجن الخيارات المحدودة.
فمثلا حصر خيارات الأمة بين التمزق والتشتت وبين نظام الخلافة الذي لم يعد ممكنا ولا عمليا، أعاق تفكيرنا في خيارات أخرى فترة طويلة من الزمن، مع أن هناك عشرات الخيارات البديلة عن التمزق والانقسام غير نظام الخلافة.
هناك خيار إقامة تجمعات إقليمية(مجلس التعاون الخليجي)(اتحاد المغرب العربي)، هناك خيار إقامة اتحادات نشطة بين الصناع والتجار وأصحاب المهن العلمية، وهناك خيار بناء السياسات الاقتصادية لإنشاء السوق الإسلامية المشتركة إلخ.
4 ـ سطوة الانتشار
الاعتقاد السائد بأن الأشياء الصحيحة هي التي تحظى بانتشار كبير غير صحيح، بل تشير الدلائل الكثيرة على أن الأشياء الضحلة والسطحية هي التي تنتشر وتتوسع بسرعة، الكتاب مثلا أكثر مصداقية من الفضائية ولكنها أكثر انتشارا منه.
إن هناك عوامل تساعد في الانتشار الكبير غير المصداقية والقيمة، هناك سلطة الجمهور الذي يجذب غيره، وهناك ما يسمى بـ”تأثير الهالة”، حيث إن من اكتسب شهرة في المال أو الرياضة أو العلم يظن الناس أن كل ما يصدر عنه مفيد وأنه يحسن كل شيء، وبعد فترة من الدعاية يظن المرء بنفسه ما تقوله عنه الناس، وهذه إحدى مخاطر الشهرة والانتشار.
5 ـ ثقافة التحيز
التحيز هو اتخاذ المرء مواقف منسجمة مع مسبقاته ولكنها غير منسجمة مع الواقع أو مع التجربة الناجزة، إنه الرؤية الزائفة للذات والرؤية الجائرة للآخرين، إن المتحيز يقف مع الظلم لأنه صدر من حليفه ويقف ضده لأنه صدر من عدوه.
وكثير من الصراعات والحروب في التاريخ والحاضر سببها الرئيسي هو سيادة ثقافة التحيز ، التحيز يقوم بتنميط الناس وتكوين انطباعات جامدة عنهم، وذلك لأن التنميط يريح العقل من التفكير، ويمكنه من تجهيز الأحكام وتعليبها والبناء عليها من غير جهد يذكر.
6 ـ الانسياق خلف الخرافة
يرى المؤلف أن عصر الخرافة لم ينته بعد، وأن الخرافة أعمق وأسبق وجودا من أن يزيحها أي تطور علمي عن مسرح الحياة، إن وجودها سبق العلم والفلسفة، كما أن البنية العميقة لبني الإنسان ـ حسب المؤلف ـ هي بنية خرافية.
ويعرف المؤلف الخرافة بما ينسجم مع رأيه عنها فيقول إنها هي الأفكار والممارسات والعادات التي لا تستند إلى مسوغ عقلي ولا تخضع لأي مفهوم علمي، لا على مستوى النظرية ولا على مستوى التطبيق.
ولكل عصر خرافاته، وخرافات اليوم منها ما ينشر عبر المواقع والمنصات الافتراضية حول فوائد بعض الأعشاب والأطعمة وحول مظاهر لقدرة الخالق وغير ذلك مما يحتاج إثباتا عليما حقيقيا.
ودور المفكر هو تحصين المجتمع من الخرافة بالعلم، أما أن يكون جزءا من مروجيها أو أن يبني عليها بعض آرائه ومواقفه فذلك ما ينقل من مفكر حر إلى خرافي عتيد.
تلك محاذير يلزم التنبه لها عند ممارسة عملية التفكير، ذلك بأن الوقوع فيها يمثل جناية على الحقيقة ويضرب آراء المفكر ونظرياته في الصميم، حيث تتحول من الموضوعية إلى الذاتية ومن العلمية إلى الخرافية، والمفكر الحر يريد بناء مجتمع الحق والخير والجمال