هناك رحلات ذكرها القرآن وخلدها لحكمة أرادتها الذات العلية، ومن هذه الرحلات رحلات الأنبياء إلى البيت الحرام، وهناك رحلات أخرى لم يأت عليها القرآن، ولكن الوحي أخبر بها الصادق المصدوق لإخبار الأمة وإعلامها. .

لقد خلّد القرآن الكريم رحلة أبينا إبراهيم عليه السلام إلى الأراضي المقدسة عندما ترك زوجه وغلامه في هذا الوادي القاحل، فقال متضرعًا: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: 37].

ثم خلّد القرآن الكريم الرحلة التي كان فيها رفع القواعد من البيت فقال: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: 127].

ولأن هذه الرحلات كانت محورية في حياة أبينا إبراهيم وحياة فرع كبير من بنيه من بعده، ولا نكون مبالغين إن قلنا: في الحياة البشرية قاطبة، فقد خلدها القرآن وذكرها.

ولكن هناك رحلات أخرى للأنبياء للبيت الحرام لم يأت القرآن على ذكرها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها تخليدًا لها.

ومن بين رحلات الأنبياء إلى البيت الحرام، ذكر القرآن الكريم رحلات كثيرة لسيدنا موسى عليه السلام مثل: رحلته إلى مدين، وما حدث بينه وبين تلك السيدتين، وذكر رحلة العودة وتحميله الرسالة، ورحلته للقاء الخضر، ورحلته لميقات ربه، ورحلته بصحبة بني إسرائيل لدخول الأرض المقدسة بفلسطين.

ولكن القرآن لم يذكر رحلة نبي الله موسى إلى البيت الحرام، وذكرها رسول الله، فقال: “وأما موسى فرجل آدم([1]) جعد([2])، على جمل أحمر، مخطوم بخُلبة (3)، كأني أنظر إليه إذ انحدر في الوادي يلبي”(4)

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اسم هذا الوادي الذي كان يلبي فيه نبي الله موسى u، فعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق فقال: “أي واد هذا”؟

فقالوا: هذا وادي الأزرق.

قال: “كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطًا من الثنية وله جؤار إلى الله بالتلبية”(5)..

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، وفصّل القول فيها القاضي عياض -رحمه الله- فقال: “أكثر الروايات في وصفهم تدل على أنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك ليلة أسري به، وقد وقع ذلك مبينًا في رواية أبي العالية عن ابن عباس، وفي رواية ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيها ذكر التلبية.

قال: فإن قيل: كيف يحجون ويلبون وهم أموات، وهم في الدار الآخرة، وليست دار عمل؟

فاعلم أن للمشايخ وفيما ظهر لنا عن هذا أجوبة:

أحدها: أنهم كالشهداء، بل هم أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم، فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا كما ورد في الحديث الآخر، وأن يتقربوا إلى الله -تعالى- بما استطاعوا؛ لأنهم وإن كانوا قد توفوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل، حتى إذا فنيت مدتها وتعقبتها الآخرة التي هي دار الجزاء؛ انقطع العمل.

الوجه الثاني: أن عمل الآخرة ذكر ودعاء، قال الله تعالى: ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ﴾ [يونس: 10].

الوجه الثالث: أن تكون هذه رؤية منام في غير ليلة الإسراء أو في بعض ليلة الإسراء كما قال في رواية ابن عمر -رضي الله عنهما: (بينا أنا نائم رأيتني أطوف الكعبة)، وذكر الحديث في قصة عيسى عليه السلام.

الوجه الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم أُري أحوالهم التي كانت في حياتهم، ومثلوا له في حال حياتهم كيف كانوا، وكيف حجهم وتلبيتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كأني أنظر إلى موسى، وكأني أنظر إلى عيسى، وكأني أنظر إلى يونس -عليهم السلام).

الوجه الخامس: أن يكون أخبر عما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم من أمرهم، وما كان منهم وإن لم يرهم رؤية عين”(6).

وأنا أميل أن رحلات الحج هذه قد وقعت من نبي الله موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء حال حياتهم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أُريها وأَخبر عنها؛ إذ إن أحوال الآخرة لا تحتاج لأسباب الدنيا من إبل وبعير التي ينتقل بها الناس ويحتاجون إليها.

وقد ذكر القرآن الكريم رحلة سيدنا يونس بن متى عليه السلام، والتي ذهب فيها مغاضبًا وتاركًا قومه، فقال -تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ [الصافات: 139-142].

ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رحلة أخرى له قد يمم فيها وجهه شطر البيت العتيق؛ فقد أتى صلى الله عليه وسلم على ثنية هرشى فقال: “أي ثنية هذه”؟

قالوا: ثنية هرشَى.

قال: “كأنى أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام، على ناقة حمراء جعدة، عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة، وهو يلبي”(7).

وقد قال أبو المعالي الجويني -رحمه الله: “ما من نبي إلا وقد حج هذا البيت”(8).

وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله: “مَا مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ حَجَّ الْبَيْتَ، خِلافًا لِمَنْ اسْتَثْنَى هُودًا وَصَالِحًا”(9).

وهما قد اختصرا ما فصّله عروة بن الزبير؛ إذ قال: “ما من نبي إلا وقد حج البيت، إلا ما كان من هود وصالح.

ولقد حجه نوح، فلما كان من الأرض ما كان من الغرق أصاب البيت ما أصاب الأرض، وكان البيت ربوة حمراء، فبعث الله -تعالى- هودًا، فتشاغل بأمر قومه، حتى قبضه الله تعالى إليه، فلم يحجه حتى مات.

ثم بعث الله -تعالى- صالحًا فتشاغل بأمر قومه، فلم يحجه حتى مات.

فلما بوأ الله سبحانه لإبراهيم حجه، لم يبق نبي بعده إلا حجه”(10).

ولكن ابن كثير قد ذكر حجهما -عليهما السلام (11).

وإذا لم يبق من الأنبياء إلا عيسى عليه السلام ينتظر الجميع نزوله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيثْنينهُمَا”(12).

وما الحديث عن هذه الرحلات إلا لتأكيد أن طريق الأنبياء واحدة، وقبلتهم واحدة، ودينهم واحد، وأن مرسلهم ومبتعثهم واحد، هو الله -جلّ جلاله. وأن هذا الركن تهواه الأفئدة، وتسعى إليه النفوس والفطر السليمة. وأن هذا النداء الأزلي الذي ناداه أبونا إبراهيم أولى الناس بإجابته والإسراع لتلبيته هم الأنبياء والمرسلون.


([1]) الآدم: أسمر اللون.

([2]) جعد: منقبض الشعر غير منبسطه.

([3]) الخلبة: الليف والحبل الصلب الرقيق.

([4]) أخرجه البخاري في “اللباس”، باب: “الْجَعْدِ”، ح(5913) من طريق ابن عباس -رضي الله عنهما.

([5]) أخرجه مسلم في “الإيمان”، باب: “الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات”، ح(166) من طريق ابن عباس -رضي الله عنهما.

([6]) شرح النووي على مسلم، (2/228-229).

([7]) أخرجه مسلم في “الإيمان”، باب: “الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات”، ح(166) من طريق ابن عباس -رضي الله عنهما.

([8]) نهاية المطلب، (4/125).

([9]) الفتاوى الفقهية الكبرى، (2/120).

([10]) دلائل النبوة للبيهقي، (2/46).

([11]) السيرة النبوية، (1/272).

([12]) أخرجه مسلم في “الحج”، باب: “إِهْلاَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  وَهَدْيِهِ”، ح(1252) من طريق أبي هريرة رضي الله عنه.