ثانيا: الأصول التاريخية للعلاقات مع “الأقليات الدينية”
يؤكد البعد التاريخي للعلاقات الإسلامية مع “الأقليات” في المجتمع ما تضمنته “الاستراتتيجية الإسلامية” الكبرى للمجتمع الإنساني، وكانت هذه البدايات الباكرة، بعد “الصحيفة”، في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى أهل إيلياء والذي قدم نصاً واقعياً واضحاً لا لبس في بنوده، أكد فيه على حريتهم الدينية وحرمة معابدهم وشعائرهم، وقد جاء في هذا العهد: “هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملتها، لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها ولا من صليبها، ولا من شيئ من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود..”. [1]
ونحاول فيما يلي الوقوف على بعض الملامح العامة لأوضاع “الأقليات الدينية” في الدولة الإسلامية عبر التاريخ، ومن هذه الملامح:
1- الحرية الدينية والمدنية
تمتعت “الأقليات الدينية” بالحريات الدينية وممارسة الشعائر والطقوس وبناء دور العبادة وعدم الإساءة إليهم، وتقدير رهبانهم في ظل الدولة الإسلامية، ويذكر ذلك “ول ديورانت” الذي أكد على أن “أهل الذمة المسيحيون، والزرادشتيون، واليهود، والصابئون – يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم و معابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كل شخص، تختلف باختلاف دخله وتترواح بين دينار وأربعة دنانير (من 4.75 إلى 19 دولاراً أمريكياً)، ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ، والأرقاء، والشيوخ والعجزة، والعمى الشديد والفقر، وكان الذميون يعفون في نظير هذه الضريبة من الخدمة العسكرية أو إن شئت فقل لا يقبلون فيها – ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها 2.5% من الدخل القومي، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم، ولم تكن شهادتهم تقبل في المحاكم الإسلامية، ولكنهم كانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم، وقضاتهم، وقوانينهم”.[2]
ويؤكد هذا المعنى – أيضاً – جوستاف لوبون فيقول “رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آنفاً أن مسامحة محمد -ﷺ- لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته، وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوروبا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين أمعنوا النظر في تاريخ العرب…
قال روبرتسون في كتابه (تاريخ شارلكن): “إن المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وإنهم مع امتشاقهم الحسام نشراً لدينهم، تركوا من لم يرغبوا فيه أحراراً في التمسك بتعاليمهم الدينية”.
وقال ميشود في كتابه (تاريخ الحروب الصليبية): “إن القرآن الذي أمر بالجهاد متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وقد أعفى البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب، وحرم محمد -ﷺ- قتل الرهبان لعكوفهم على العبادات، ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس”.
المجتمع الذي يريده الإسلام إنما هو مجتمع إنساني في المقام الأول لذا جاءت “الآيات” و “البينات” القرآنية و”الرسولية” و”التاريخية” تؤكد حقيقة هذا المجتمع
وقال الراهب ميشود في كتابه (رحلة دينية في الشرق): ومن المؤسف أن تقتبس الشعوب النصرانية من المسلمين التسامح الذي هو آية الإحسان بين الأمم واحترام عقائد الآخرين وعدم فرض أي معتقد عليهم بالقوة”.[3]
2 – الخصوصية الثقافية
عللى الرغم من حالة “التعايش الكامل” بين الأقليات والمسلمين، إلا أن ذلك لم يؤد إلى فقدان هذه الأقليات لخصوصيتهم الثقافية، ولم يتم إنكارها عليهم، بل ظلت هذه الأقليات محتفظة بعاداتها، وتراثها وثقافتها في البلاد الإسلامية دون ضغوط “للذوبان” أو “التخلي عن الهوية الثقافية الخاصة” بهم، بل ربما حدث العكس وهو تأثر المسلمين بهذه الثقافة في بعض أنماط سلوكهم.
ومن مظاهر المحافظة على “الهوية الثقافية”: الأعياد والمحافظة على ممارستها بشكل منتظم بحرية تامة، “فقد مارس أهل الذمة الحرية التامة في الاحتفال بالأعياد، ومن الثابت أن عهود الأمان المبكرة قد خولت لهم حرية الاحتفال ومنها عهد أبي عبيد الله بن الجراح مع أهل الشام، فقالوا له: “اجعل لنا يوماً في السنة نخرج فيه صلباننا بلا رايات، وهو يوم عيدنا الأكبر، فأجابهم إلى ذلك، كما أكد الخليفة عمر بن الخطاب هذا الأمر، وكذلك ما عاهد به خالد بن الوليد أهل الحيرة، فأطلق لهم الحرية- أيضاً- في إخراج النواقيس وضربها في يوم عيدهم.[4]
وفيما يتعلق بالتعليم- وهو من الأدوات المهمة في تشكيل الهوية الثقافية فقد “وجدنا نصارى بغداد يتمتعون بحرية التعليم داخل مدارسهم التي ازدهرت ازدهاراً لا نظير له، كما كانت لديهم مكاتب البيع فضلاً عن ذلك مدارس الديارات التي ضمت آلافاً من الدارسين والمعلمين، فدرسوا كثيراً من العلوم العقلية إلى جانب العلوم الدينية، وقد ألحق بهذه المدارس خزائن للكتب، ومن أشهرها مدرسة الشماسية، ودار الروم، ومدرسة كليشوع، ومدرسة دير مارمينو.[5]
وفي مصر العثمانية “عني اليهود بتعليم أطفالهم بهدف تنشئتهم تنشئة دينية، فعرفت الجماعة منذ وقت مبكر “الكتَّاب” متأثرين في ذلك بالبيئة الإسلامية المحيطة، كما لعب “مكتب اليهود” نفس الدور تقريباً، مع وجود مؤدبين كان يتردد عليهم الأطفال نظير أجور يتقاضونها، وانعكس هذا التنوع على لغة الحديث، والكتابة لدى الكثير من الوافدين من يهود تركيا وأوروبا ممن يتقنون التركية، والإيطالية والفرنسية وغيرها، ويهود الولايات العربية الذين يقرأون ويكتبون، ويتحدثون العربية، دون أن يهملوا العبرية لغة كتابهم المقدس.[6]
كما احتفظ أهل الذمة بأسمائهم الدينية- تأكيداً على الهوية- ففي مصر احتفى اليهود بالطفولة والأطفال واتخذوا لأبنائهم أسماء دينية -تورانية الأصل في الغالب- وسرت بينهم ظاهرة تسمية المولود على اسم أبيه، أو جده لأبيه، والأنثى على اسم أمها، أو جدتها لأمها.
إن هذا وغيره يؤكد أنه بالرغم من حالات “الاندماج الكامل” لجماعة “أهل الذمة” في المجتمع المسلم، إلا أن هذا المجتمع لم ينكر عليهم خصوصيتهم الثقافية- التي تشكل شخصية الإنسان- بل ساعد علي تكوينها وهيئ العوامل ولو بطريق غير مباشر- علي تنميتها وزيادتها رغبة في عدم عزلة هذه الجماعة عن تراثها وثقافتها التي تشكل وجدانها وإيمانها وعقيدتها.
3 – الاندماج في جماعة “المجتمع الأم”
استطاعت “الجماعة الأم” في المجتمع الإسلامي أن تحتضن “الأقليات الدينية”، ووصلت بها إلى مرحلة تشبه حالة “الاندماج الكامل”، وقد تعددت مظاهر هذا الاندماج بدءاً من المساهمة الفاعلة في الأنشطة الاقتصادية إلي الأنشطة الفكرية والعلمية والثقافية، وصولاً إلي حالات المصاهرة وتكوين أسر وعائلات تربط بين “الجماعة الأم” و “جماعة الأقلية”.
قيمة العدل أو (أصل العدل) يمثل الأساس التربوي والاجتماعي والسياسي الذي يجب أن يكون حاكماً لكل ما يوجد في المجتمع ويحكم كل الأنساق الفكرية الموجودة
ففي النشاط الاقتصادي يذكر التاريخ “إسهام المسلمين والنصارى واليهود والمجوس والهنود أتباع (بوذا) وغيرهم في النشاط التجاري، وكان التجار المسلمون يهبون لمساعدة أخوانهم اليهود إذا مسهم الظلم”[7]، كما اشتهر أهل الذمة بممارسة مهنة الصيرفة إلي حد الاحتكار، والجهبزة (تشبه الصيرفة)، كما برعوا في مهن “السمسرة، وتجارة الجواهر، والعطارة، والزيدانيين، والجزارة، والحياكة، والحلاقة… إلخ، دون أن يتقيدوا بمهنة أو حرفة واحدة، وبغير أن يكون لقاعدة التوارث المهني دخل فيها”.[8]
وفي الحياة الفكرية والعلمية، برزت أسماء عديدة لأهل الذمة، ففي مصر- مثلاً- ظهر “المؤرخ القبطي يوحنا النقيوس الذي عاش في القرن الأول الهجري، وساويرس بن المقفع، والذي كتب كتاب “سير البيعة المقدسة”، “سير الآباء البطاركة”، ومن الأطباء ظهر الطبيب القبطي نواسابو والذي كان له مكانة كبيرة عند الولاة، وأيضاً بليطيان وكان طبيباً ماهراً في عهد الدولة العباسية، وفي عصر الأمراء الطولونيين، اشتهر كثير من الأطباء القبط واليهود، ومنهم سعيد بن نوفيل، انسطاس الذي خدم محمد بن طغج الأخشيد” [9] وغيرهم من الأطباء والمفكرين الذين برزوا في تاريخ الدولة الإسلامية، ولم يكن دينهم وعقيدتهم مانعاً لهم علي ممارسة أعمالهم وأنشطتهم الفكرية والعلمية، والتي كانت تقاس في الدولة الإسلامية- غالباً- بمعايير الكفاءة لا الولاء.
كما تم “تزاوج بين المسلمين والذميات وخاصة في عصر الأمراء الطولونيين حيث ظهر الاندماج بين المسلمين والمصريين واضحاً وتؤكد ذلك بعض الوثائق نذكر منها واحدة تتضمن زواج بونة ابنة خليص من يزيد بن قاسم”.[10]
إن ما تقدم يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن المجتمع الذي يريده الإسلام إنما هو مجتمع إنساني في المقام الأول لذا جاءت “الآيات” و “البينات” القرآنية و”الرسولية” و”التاريخية” تؤكد حقيقة هذا المجتمع وأصوله الفكرية ودستوره العملي وضوابطه الفكرية، وهذا أدعى إلى تلمس حقيقة الأشياء عنده- أي الإسلام -فهو منهج ملائم للفطرة وله رصيد من التجربة- كما قال سيد قطب-، وهو منهج يضع الموازين بالقسط على أي أحد إتباعا لقاعدة” [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] (المائدة: 8 ) ،
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا] (النساء: 135)،
[إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] (النحل: 90) .
إن قيمة العدل أو (أصل العدل) يمثل الأساس التربوي والاجتماعي والسياسي الذي يجب أن يكون حاكماً لكل ما يوجد في المجتمع ويحكم كل الأنساق الفكرية الموجودة: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وعلي هذا فإن قضية “التعددية السياسية” أو “الآخر الثقافي والديني”، يجب أن تستظل بهذا الأصل، فالإسلام لا يظلم أحداً، ومن الظلم الحجر على الرأي، والاستبداد في الحكم والحكومة مهما كان انتماؤها أو شكلها.
نخلص مما تقدم أن الأسس الفكرية والتاريخية في الإسلام قد أفرزت “التعددية” من عدة وجوه: إنسانية، دينية، ثقافية، عرقية، وقد تلاءم المنهج الفكري في الإسلام والخبرة التاريخية مع هذا التنوع، وأقر للعقل الإنساني حريته في الاختلاف وفي القول والتعبير والمناقشة والمراجعة حتى مع وجود رابطة بين الأرض والسماء “الوحي” الرسول -ﷺ- ” وهو ما يجب أن يؤكد ممارسة هذه الحقوق في ضوء الظروف الراهنة والتي تتسم بغياب “الوحي” و “النبي” -ﷺ- ، وبقاء المنهج المعلم للبشرية جمعاً وليس فقط لأمة الإسلام.
[1] الطبري: تاريخ الأمم والملوك ط3، القاهرة، دار المعارف 1979، ص: 609 .
[2] ول ديورانت: قصة الحضارة ط7، جـ13، ترجمة محمد بدران، القاهرة الهيئة العامة للكتاب، 2001، ص: 131 .
[3] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، 2000 ص:128 .
[4] ناريمان عبدالكريم، مرجع سابق، ص: 160 .
[5] المرجع السابق، ص: 172، نقلاً عن: روفائيل أبو إسحاق: أحوال نصارى بغداد في عهد الخلافة العباسية، بغداد، 1960، ص: 137 .
[6] محسن شومان: اليهود في مصر العثمانية حتى القرن الـ 19، جـ2، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، سلسلة تاريخ المصريين (192)، 2000، ص: 353 .
[7] كلود كاهن: تاريخ العرب والشعوب الإسلامية، بيروت، 1983، ص: 152 .
[8] محسن شومان، مرجع سابق، ص: 357 .
[9] فاطمة مصطفي عامر: تاريخ أهل الذمة في مصر الإسلامية، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، سلسلة تاريخ المصريين (173)، 2000، ص: 240 : 253 (باختصار).
[10] حسن أحمد محمود: حضارة مصر الإسلامية في العصر الطولونى جـ1، القاهرة، د.ن، 1960، ص: 131 .