لم يَسُد العربُ الأوائل إلا بإيمان خالط بشاشة قلوبهم، وشجاعة مكنتهم من رقاب أعدائهم، ودهاء واجهوا به أعتى الإمبراطوريات القائمة وقتها.

فإيمان بلا قوة مثل سلاح في غمده، وشجاعة بلا دهاء مثل رَجُل بساق واحدة. وباكتمالهم جميعًا يفتح صاحبها العالم ويسوسه خير سياسة.

وقد ذكر القرآن الكريم طرفًا من استخدام الحيلة في قصة سيدنا يوسف -عليه السلام- مع إخوته، عندما وضع صواع([1]) الملك في رحل أخيه، وأذن مؤذن من جنود سيدنا يوسف: ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ [يوسف: 70].

ثم يختم ربنا هذا المشهد بقوله: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾ [يوسف: 76].

قال القرطبي: “وفيه جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة، ولا هدمت أصلاً، خلافًا لأبي حنيفة في تجويزه الحيل وإن خالفت الأصول، وخرمت التحليل”([2]).

وقد استفاد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من احتيال نعيم بن مسعود في غزوة الأحزاب، وقد أفشل الله بكيده وتدبيره مسعى قريش وغطفان ويهود.

فكانت الهزيمة في معركة الأحزاب بالحيلة والدهاء، وليس السيف هو الذي حسم المعركة، بل إن السيف لم يكد يُستخدم فيها.

وقد توافر لدى العرب المسلمين الأوائل مجموعة من الدهاة أسسوا دولة الإسلام، فلما حاصر العرب المسلمون دمشق تشاور أهلها فيما يتوجب عليهم فعله تجاه ما ألمّ بهم، فاستهان كبيرهم بالعرب المسلمين فقال: “يا ويلكم، أطمعتم العرب فيكم، وحق رأس الملك ما أرى القوم أهلاً للقتال، ولا هم خاطرون لي على بال، فلو فتح لهم الباب ما جسروا أن يدخلوا”([3]).

فراعهم تلك العجرفة من سيدهم، والغفلة التي تلفه، وكأنه لم ير بلدان الشام وهي تتساقط الواحدة تلو الأخرى، فقالوا له: “أيها السيد، إن أكبرهم وأصغرهم يقاتل العشرة والمائة، وصاحبهم داهية لا تطاق”([4]).

وقال الشعبى: “القضاة أربعة: أبو بكر، وعمر، وابن مسعود، وأبو موسى.

والدهاة أربعة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة، وزياد.

وقال الزهري: الدهاة خمسة: معاوية وعمرو والمغيرة، واثنان مع علي وهما قيس بن سعد بن عبادة وعبد الله بن بديل بن ورقاء”([5]).

وقد فصّل الشعبي ذلك بقوله: “فأما معاوية بن أبي سفيان فللأناة والحلم، وأما عمرو بن العاص فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة([6])، وأما زياد فللصغير والكبير، وكان قيس بن سعد بن عبادة من الدهاة المشهورين، وكان أعظمهم كرمًا وفضلاً”([7]).

ولو تعرفنا على بعضهم من خلال سيرتهم لرأينا عجبًا؛ فالمؤرخون -مثلاً- يصفون أمير المؤمنين معاوية بأنه “من أدهى الدهاة”([8])، و”كان حليمًا حازمًا، عالمًا بسياسة الملك، وكان حلمه قاهرًا لغضبه، وجوده غالبًا على منعه، يصل ولا يقطع”([9]).

وقيل: إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال لجلسائه: “تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية؟”([10]).

أما المغيرة بن شعبة فإنه “كان داهية من دهاة العرب”([11])، “وكان يقال له: مغيرة الرأي، وكان لا يشتجر في صدره أمران إلا وجد في أحدهما مخرجًا”([12]).

وقد وصف قبيصة بن جابر طريقة تفكيره فقال: “صحبت المغيرة بن شعبة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج من أبوابها كلها”([13]).

وأما عمرو بن العاص فقد “كان داهية العرب رأيًا وحزمًا وعقلاً ولسانًا”([14]).

و”كان عمر إذا رأى الرجل يتلجلج في كلامه قال: خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد”([15]).

والدهاء ليس قرين العلم والفقه والقضاء، فقد يجتمع معهم، وقد لا يجتمع.

وقد كان أبو موسى الأشعري من أقضى القضاة، لكنه لم يكن في دهاء عمرو بن العاص، فقد قال عنه ابن عباس لأبي موسى الأشعري عند التحكيم: “إنك قد رميت بحجر الأرض([16]) وداهية العرب”([17]).

ولك أن تتصور دولة فيها أمثال هؤلاء، وكلهم مجتمعون تحت راية واحدة، كيف يكون حال هذه الدولة.

وقد تحقق ذلك لمعاوية بن أبي سفيان الذي كان معه ويعاونه عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، وهم من هم من دهاة العرب.

وبنظرة عجلى على الحركات الإسلامية، وفي محاولة لتقييمها نرى أنها لا ينقصها الإيمان أو الشجاعة، وإنما ينقصها الدهاء والحيلة.

فالغالب عليهم أنهم يرون الأمور إما أبيض أو أسود، إما معي أو عليّ، ويغفلون أن بين الأبيض والأسود درجات كثيرة من الألوان والأطياف، وبين من معي ومن علي درجات كثيرة من الناس.

وفي الحركات الإسلامية قد نصف بعض أبنائها بالذكاء أو الاجتهاد أو العلم أو الفقه، لكن لم أقف على من وُصف منهم بالدهاء.

ولا زال عملهم السياسي في طوره الأولي البدائي، رغم طول عملهم بالسياسة، واشتغالهم بالعمل العام.

ولا زال ساسة الحركات الإسلامية يمكن معرفة طريقة تفكيرهم، وردات أفعالهم، بل واستدراجهم للمكان الذي يريدهم فيه خصمهم.

وساسة الحركات الإسلامية هواة، ينقصهم كثير من النضج الفكري والمعرفي.

وهم يحتاجون إلى تعلم فن الحيلة والدهاء، وممارسته عمليًّا، وإذا تحقق ذلك فيهم لا شك أنهم بذلك سيكونون قد وضعوا أقدامهم على أول الطريق الصحيح.


([1]) “الإناء الذي كان يشرب فيه” [تفسير الطبري، (16/173)].

([2]) تفسير القرطبي، (9/236).

([3]) فتوح الشام للواقدي، (1/64).

([4]) السابق، نفس الصفحة.

([5]) السيرة النبوية لابن كثير، (4/665).

([6]) “والمُبادَهَةُ : المُباغَتَةُ” [تاج العروس، (36/337)].

([7]) أسد الغابة، (5/261).

([8]) الفخري في الآداب السلطانية، ص(111).

([9]) المختصر في أخبار البشر، (1/188).

([10]) تاريخ الطبري، (4/244).

([11]) السيرة النبوية لابن كثير، (4/665).

([12]) تاريخ دمشق، (60/15).

([13]) السابق، (60/50).

([14]) تاريخ اليعقوبي، (2/263).

([15]) سير أعلام النبلاء، (3/57).

([16]) “قولهم: رمي فلان بحجره، معناه: رمي بقرنه الذي يقاومه”[جمهرة الأمثال، (1/480-481)].

([17]) البدء والتاريخ، (5/227).