كلما حدثت جريمة صغيرة أو كبيرة تعالت الأصوات وتسابقت الأقلام بعبارة:” فتش عن المرأة” وكأن الارتباط بين المرأة والجريمة ارتباط عضوي وكأنك لا ينبغي أن تبحث عن المرأة إلا حيثما وقعت مصيبة أو حلت كارثة ويبدوا أن هذه الثقافة يشترك فيه الشرق والغرب فتجد أن أغلب الأعاصير المدمرة تسمى باسماء نساء.

فتشنا عن المرأة في دوواين الحديث وكتب التراجم فوجدنا لها حضورا بارزا ودورا عظيما في تلقي  سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وروايتها  بل لقد نافست الرجال منذ العهد النبوي وطلبن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصهن بمجلس، سجل ذلك الإمام البخاري في صحيحه حين وضع هذا العنوان “هل يجعل للنساء يوما على حده؟” أورد فيه حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ) ولم يكن تلقيهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقي من يسمع ولا يعي فقد وضع الإمام البخاري عنوانا:” من سمع شيئا فراجع حتى يعرف” أورد فيه حديثا عن ابن أبي مليكة أن  عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لاَ تَسْمَعُ شَيْئًا لاَ تَعْرِفُهُ إِلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ

سابقت المرأة الرجال في طلب العلم وربما سبقتهن وانفردت دونهن فمن  الأحاديث التي لا يعرف أنه قد رواها إلا النساء حديث فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم في نفقة وسكنى المبتوتة فكانت قصتها حديثا يروى وسنة متبعة وحكما يقضي به وقد أخذ كبار التابعين هذا الحديث من فم فاطمة وتناقلوه عنها وارتبط باسمها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها [1] وكما اعتُمد عليها في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعُتمد عليها أيضا في  رواية الكتب؛ ومن ذلك كتاب “الأموال لأبي عُبيد”؛ ففي أوله: “قرئ على الشيخة الصالحة الكاتبة فخر النساء شُهدة بنت أبي نصر بمنزلها ببغداد كما روت كتبا عديدة لابن أبي الدنيا[2]

رائدات في الرواية: وعندما نستعرض عددا من راويات الحديث نجد على رأسهن “كريمة المروزية” سمعت من “الكشميهني”  وقرأ عليها الأئمة “كالخطيب وأبي المظفر السمعاني” وغيرهما. ويقول عنها ابن الأثير: انتهى إليها علو الاسناد للصحيح.

وكانت إذا روت قابلت بأصلها، ولها فهم ومعرفة مع الخير والتعبد.

ولم تشغل فترة الشباب إحداهن عن طلب العلم بل والجمع بين التحديث والتدوين وهي فاطمة بنت علم الدين القاسم البرزالي (707-731هـ)، قال الصلاح الصفدي: ونسختها هذه (من صحيح البخاري التي نسختها بيديها )بدمشق من النسخ التي يعتمد عليها وينقل منها وتنتقل بين رياض العلم ولا تمل من طلبه ولا تكتفي بالسماع من شيخ عن غيره بل يبلغ مشايخها مئة وخمس وثمانين شيخاً وشيخة.

ومنهن من ازدحم عليها الطلبة و سمع عليها من مشاهير أهل العلم الحافظ الذهبي، والصفدي، والواني والبرزالي.وهي زينب بنت يحيى ابن العز بن عبد السلام السلمية (648-735هـ).

وقد كانت تؤدي هذه المهمة الجليلة بحب وبلغ من علو سندها أن نزل الناس بموتها درجة في جميع الآفاق.

وهي آخر من حدث بـصحيح البخاري عالياً سماعاً توافد عليها أهل الرحلة في طلب الحديث وكانت سهلة في الإسماع، لينة الجانب.

ومنهن من وصفت بالواعظة، العالمة، المسندة، وهي أم الفتح الاصبهانية، عائشة بنت حسن بن إبراهيم ولم يمنعها كونها امرأة من الكتابة عن الشيوخ فكتبت بخطها أمالي “ابن منده” عنه وكانت تعظ النساء فجمعت بين ما يحتاج إليه أهل التخصص العلمي وما يحتاجه عوام الناس.

مسندات بلادهن: إحداهن بنت زعبل قيل في ترجمتها الشيخة العالمة، المقرئة الصالحة المعمرة،كانت تعلم الجواري القرآن وهي مسندة نيسابور.

وأخرى تعد مسندة أصبهان وهي فاطمة بنت البغدادي قيل في ترجمتها الشيخة العالمة الواعظة الصالحة المعمرة آخر من روى في الدنيا عن “ابن ريذه”

وثالثة مسندة العراق قيل في ترجمتها “شُهدة  بنت المحدث أبي نصر أحمد بن الفرج الدينوري”، ، المعمرة، الكاتبة،  فخر النساء.تعددت مشايخها وسمع عليها خلق كثير

ومنهن مسندة خراسانالشيخة الجليلة “أم المؤيد زينب بنت أبي القاسم” الجرجانية الاصل.يقول عنها ابن خلكان في وفيات الأعيان:كانت عالمة، وأدركت جماعة من أعيان العلماء، وأخذت عنهم رواية وإجازة.

ومنهن مسندة الشام وهي كريمة بنت المحدث العدل أبي محمد عبد الوهاب بن علي بن الخضر ، وتعرف ببنت الحبقبق. وكانت امرأة صالحة جليلة، طويلة الروح على الطلبة، لا تمل من الرواية وقد جمعت بين الفقه والحديث وبارك الله في عمرها فحدثت نيفا وستين عاما.

ومنهن من حدثت بدمشق، وبمصر.مع أنها ولدت ببغداد وهي الشيخة الجليلة، المسندة، أم عبد الكريم، فاطمة بنت المحدث التاجر أبي الحسن سعد الخير.

مسندة الوقت: وأخرى مسندة وقتها وهي عين الشمس  بنت أحمد بن أبي الفرج، أم النور الثقفية الاصبهانية.

سمعت حضورا من إسماعيل بن الاخشيذ، وسمعت ” جزء أبي الشيخ ” من محمد بن علي بن أبي ذر الصالحاني،وتفردت في الدنيا عنهما.

ومنهن من تفردت في الدنيا، وخرّجوا لها ” مشيخة ” في عشرة أجزاء.وهي الشيخة المعمرة المسندة ضوء الصباح بنت الحافظ أبي بكر محمد بن أبي غالب الباقداري البغدادية.

عائلات علمية

ويضرب المثل بعائلة ابن حجر العسقلاني ففيها الكثير من طالبات العلم والراويات ومنهن أخته “ست الركب” وهي التي ذكر السخاوي إجازتها وابنتها “موز” أخذت العلم عن خالها، وزوجة ابن حجر” أُنس” فقد أسمعها من شيخه حافظ العصر “عبدالرحيم العراقي” وأجاز لها باستدعاء عدد من الحفاظ وقد اشتهرت في حياة زوجها وحدثت بحضوره وقرأ عليها الفضلاء[3]

سمات مُحدِّثات القرن الثامن الهجري: وقد تميز القرن الثامن الهجري ببعض السمات الحديثية مما له علاقة بالمُحدِّثات وهي :

أ-كثرة المُحدِّثات فلم يخل عقد من عقود القرن الثامن من وجود ما يزيد على عشر محدثات

ب-وأن أكثر الآخذين عنهن من الرجال وإحضار الصغار ذكورا وإناثا مجالس التحديث.

ج-شيوع التحمل  بطريق الإجازة بعد أن كان الغالب السماع في القرون الأولى وحدث ذلك بعد تدوين الأحاديث في المصنفات.

د-انتساب عدد كبير من المُحدِّثات إلى أسر علمية معروفة[4]

المُحدِّثة كالغيث أينما وقعت نفعت:  ومنهن من كانت تحدث حتى في حجها وهي فاطمة بنت جوهر أو بنت البطائحي وتكنى أم الخير وأم محمد ولدت بدمشق في سنة 625 هـ.

ذكر ابن رشيد البستي أنه لقيها في رحلته إلى الحج بمسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم وأنه قرأ وسمع عليها هناك وأجازت له ولأولاده وكان ذلك في سنة 684 هـ  وقد وصف ابن رُشيد المجلس الذي أخذ فيه عنها الحديث فقال: لقيتها بمسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم وقُرئ عليها وهي مستندة إلى جانب رواق الروضة الكريمة المحمدية – على ساكنيها السلام – تجاه رأس المصطفى صلى الله عليه وسلم  وكتبت لي خطها بالإجازة هنالك في جميع مروياتها ولِبَنيَ أبي “القاسم وعائشة وأمة الله” ولأخواتي ومن تسمى معنا في الإجازة  وبمحضر من ابنها وكانت تسدل جلبابها على رأسها حياء وصونا رضي الله عنها

ومنهن من حملت معها أمانة العلم، أينما حلت أدتها مثل ،هدية بنت علي بن عسكر الهراس البغدادية الصالحية ولدت سنة 626 هـ أُحضرت في صغرها مجالس الحديث مع أن أسرتها لم تشتهر بطلب العلم وبعد أن تلقت الحديث على يد شيوخ دمشق ثم صارت أهلا للتحديث أخذت تؤدي ما تلقته فحدثت في أكثر من مكان حدثت بالصالحية وكفر بطنا وبيت المقدس التي تحولت إليها آخرا  وتوفيت بها وقد سمع منها بهذه الأماكن جماعة من طلبة الحديث[5]

همة عاليةوأستاذة زائرة: ست الوزراء بنت عمر بن المُنَحّا التنوخية نشأت في بيئة علمية و تعد أكثر نساء القرن الثامن تحديثا بصحيح البخاري  فقد حدثت به مرارا بدمشق ثم استقدمت إلى مصر سنة 715 هـ فحدثت به مرارا أيضا وأخذ عنها جمع من محدثي مصر  ولم يعلم أن امرأة استٌقدمت للتحديث في مصر غيرها وطال عمر ست الوزراء وما فترت همتها عن التحديث وصارت الرحلة إليها من سائر الأقطار للسماع عليها وكانت آخر من حدث بمسند الشافعي وصحيح البخاري سماعا بالإسناد العالي عن والدها وابن الزبيدي وكانت طويلة الروح على سماع الحديث وعمل المواعيد ويدل لذلك أنها حدثت يوم وفاتها وفاجأها الموت ومن أشهر الآخذين عنها الذهبي وابنه أبو هريرة والحافظ العلائي وابن رافع السلاّمي وابن الواني[6]

 


 

[1] دور المرأة في خدمة الحديث في القرون الثلاثة الأولى آمال قرداش بنت الحسين

[2] العمدة في مشيخة شهدة مكتبة الخانجي

[3] جهود المرأة في نشر الحديث وعلومه د عفاف بنت عبد الغفور حميد بحث منشور بمجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها ج 19 ع 42 رمضان 1428

[4] جهود المرأة في خدمة الحديث في القرن الثامن الهجري

[5] جهود المرأة في رواية الحديث

[6] جهود المرأة في خدمة الحديث في القرن الثامن الهجري