نختم هنا هذه السلسلة من مهمة العلماء بمهمة تربية الأمة على الجهاد الاجتماعي لتغير وضع الأمة على سلم الحضارة، ومن أشكال هذا الجهاد الاجتماعي بناء الذات القادرة على تحرير الأراضي الإسلامية من الاستعمار، وهذه –كما يعتبرها علال الفاسي – من أبرز المهام التي يقوم بها العلماء وذلك لأن الاستعمار الأجنبي لا يتيح فرصة للتفكير ولا البناء ولا إدراك الذات وهي كلها عناصر التقدم والنهضة لأي أمة، كذلك فإن الجهاد لمواجهة الأفكار الوضعية، والتحلل الأخلاقي هو من واجبات العلماء ومن مهامهم التي يجب أن يضطلعوا بها في تربية الشخصية المسلمة عليها في المسجد وقاعات الدرس وغيرهما.

وفي ضوء ذلك يؤكد على “أن من مهمة العلماء التي يلقنونها لطلبتهم ويقومون بها عمليا الجهاد في سبيل الله ومقاومة السيطرة الأجنبية سواء كانت بالحكم العادي أو بغيره، كما يعلمونهم مقاومة رواسبه كهيمنة اللغة الأجنبية على الدولة والتعليم والحياة العامة، أو هيمنة الأجنبي على الاقتصاد الإسلامي والتحكم فيه، وأحرى بالهيمنة على الأقاليم الوطنية التي يتحكم فيها المستعمرون الأشداء ويأبون كل تراجع أو تصالح معنا.

وهذه المهمة لا يمكن أن تقوم وتتم إلا بتثبيت العقيدة بالله واليوم الأخر وبالرسول والقرآن على أنه وحي من عند الله، وبمناهج الإسلام في التربية والأخلاق، وتجنب قشور الحضارة الغربية التي تجردنا من شخصيتنا ومن كياننا.

هذه المهمة التربوية الأساسية الملقاة على عاتق علمائنا ضرورة لتعريف الشباب بحقيقة نهضة الغرب الذي يروج له بأنه نهض ونجح بتخليه عن الدين وإتباع طريق العلمانية واللادينية، ولم يبقوا متمسكين إلا ببعض منه، والعودة إليه وإلى مصادره تعتبر رجعية وردة إلى الوراء، والوسيلة الوحيدة هي إتباع الماركسية اللينينية أو غيرها من مبادئ جاهلية العصر القائمة على المادية والألينة الدينية، مع أن هذه الادعاءات كلها تضليل، فالغرب نهض بالعلمانية حقا لأنه كان تحت قبضة الكهنوت والإقطاع المتحالف معها، وحيث أصبحت المسيحية عبادة للبابا وممثليه من دون الله كان لابد أن لا ينجح الغرب إلا بالتخلي عن الكنهوت، أي عن الخرافة، فنهوض المسيحيين ليس بالتخلي عن الإيمان بالعقيدة الأصلية ولكن بالخرافة التي حلت محلها وهي عبادة المسيح ومن يمثله بزعمهم من الأحبار والرهبان كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [ التوبة:31 ].

وإذا كانت العلمانية تعني التخلص من الوساطة الدنيوية لله تعالى فنحن المسلمون ليس لنا كهنوت، ونحن علمانيون بطبيعة ديننا لأن كل واحد منا متصل بالله الذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد لا نحتاج لحبر ولا لراهب نحن المسلمين فليس لنا كهنوت، ونحن علمانيون بطبيعة ديننا لأن كل واحد منا متصل بالله الذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد لا نحتاج لحبر ولا لراهب ليحلل لنا أو يحرم أو ليعطينا الغفران من ذنوبنا التي نعترف بها أمامه، وليس علماؤنا رهبانا ولكنهم ذوو اختصاص في علم من العلوم التي هي علوم الشريعة كما يختص غيرهم في الطب أو الهندسة، فإذا رجعنا إليهم قائما لنستفيد من معرفتهم وذلك إذا لم نكن نحن قادرين على أن نجيب عن ما نريد أن نسأل عنه بأنفسنا {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[ النحل:43 ] ، وكل واحد منا مجتهد إذا قدر على ذلك.

أما رهبنة الإسلام فهي الجهاد في سبيل الله، وليس الكهنوت المسؤول عن مصير الدين، ولكن كل مسلم وكل مسلمة مسؤولون عن حالة الإسلام والمسلمين ومطالبون بأن يقاوموا أعداءهم، ولذلك لو بقى مسلم واحد في وسط ثلة من المنحرفين أو الكافرين لكان منه المنقذ الذي يقوم بواجب الإحياء والتجديد، والذي يصدق عليه ما بشر به النبي في قوله: (من يجدد)[1].

وأما ضعف تمسك المسلمين بالإسلام والإبقاء على بعض منه فقط فهذا صحيح مع غاية الأسف، ولكنه لا يدعو إلى اليأس لأن ذلك من طبائع الأشياء كما أنبأنا الرسول-صلى الله عليه وسلم- بذلك في حديث الخلوف[2]. وقد قال تعالى في كتابه العزيز {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ )، (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}[ التين]، فالصعود للإنسان ثم الهبوط  ثم الصعود ثم الهبوط شئ ضروري، ولكن الثلة المؤمنة التي تظل تعمل الصالحات ولا نقطع أجرها هي التي تعود بالمسلمين وبالإنسان إلى ما خلق عليه من أحسن تقويم وترفعه من أسفل سافلين إلى أعلى عليين، فضعف المسلمين أو تخليهم شئ موقوت لابد أن يزول، ولن يزيله خروجهم عن ملتهم أو قبولهم مبدأ الألينة الدينية، بل بقيام طائفة ظاهرة على الحق بواجبها لرد المسلمين إلى حظيرة الإسلام الحق، ولو انحرف بعضهم فوقع في مزلقة الألينة المذكورة فإنه لا يضر أولئك العاملين الذين قال فيهم الرسول: (لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله). أن علمائنا اليوم مسؤولون عن تربية شبابنا وإرشاد أمتنا، ولكن عليهم لكي ينجحوا أن يعطوا  الدليل العملي من سلوكهم وقيامهم بالنضال المستميت في سبيل الحق، في بعث الإسلام ثقافة وحضارة وشريعة ولغة كتابة، أما إذا كان العلماء يسكنون عن بقاء اللغة العربية في الحالة التي هي فيها بعيدة عن كل ميادين الدولة، بعيدة عن ميادين وافرة من التعليم، بعيدة عن الحياة العامة، وع بقاء لغة الاستعمار مهيمنة علينا في كل تلك الميادين، ولم يتقدموا للدعوة والإرشاد معلنين أن زوال لغة الأجنبي فرض أساس لا يقبل الله منا ولا من حكامنا صرفًا ولا عدلًا إلا بتحقيقه، إذا سكتوا في هذا فكيف يمكنهم أن يتولوا غيره من المسائل التي هي أدهى وأمر.

وإذا كان علماؤنا سيبقون غافلين عن استمرار الاستعمار القانوني وهيمنة القوانين الوضعية المؤسسة على مبادئ الاستعمار ومصالح الرأسماليين الأجانب دون العودة إلى شريعة الإسلام التي نجد فيها مالا نجده قطعا في غيرها من مجموعات الشرائع الخمس، فكيف يقال عليهم أنهم علماء وأنهم أنصار السنة وخريجوا دار الحديث، والله يقول: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [ المائدة:44].

وإذا كان علماؤنا لا يصدعون بضرورة مقاومة الفقر والعمل على تحسين المعاش وتحقيق العدالة الاجتماعية لسائر أفراد الأمة وتسوية أهل البوادي بالحواضر في جميع مظاهر الحضارة المشروعة التي تتقدم مدننا فيها دون باديتنا مع أنهم يعرفون أن في تعادليه الإسلام ما يضمن للأمة لعمل وحسن المعاش، والتحرر من هيمنة الأجنبي الاقتصادية ومن تحالفات المغاربة مع الأجانب على استعباد المواطنين وإخضاع الفكر المغربي في الحكومة وخارجها إلى ما يؤيد مصالح الأجنبي وأذنبه والمتعاونين معه، فكيف يمكنهم أن يعد عملهم في تاريخ النهضة الشعبية، والحصول على قيادة التطور الاجتماعي.

وإذا كان علماؤنا يظلون يرون الخمور والفساد منتشرين علنًا وسرًا في كل الأمكنة والبقاع، ويرون القوانين الصادرة فيها مهملة معطلة، ثم لا يقولون أن هذا منكر يجب زواله، فكيف يمكن أن يشاركوا عمليا في بناء المجتمع الإسلامي الذي نريده ونعمل له.

وإذا لم يتصد العلماء بعد الدروس والاستعدادات لمقاومة العهارة الفكرية ومناضلة الذين ينشرونها بشتى وسائل التضليل والاستغلال، فمن الذي يقوم بهذه المهمة غيرهم.. أهم ضحاياها من الشباب أو عامة الشعب الذين لم يعوا ما يريد بهم هؤلاء العملاء المتآمرون.

وإذا كان العلماء يرون على مرآي ومسمع من الجميع دعاة التبشير بالمسيحية والبهائية والإلحاد في وسطنا وفي مدارسنا ومعاهدنا وفي منتدياتنا علاوة على شتى المدارس الدينية الأجنبية التي لم تؤسس إلا لجمع اليتامى واللقطاء من أخواننا لينشؤوهم تنشئة غير إسلامية وليخلقوا في وسطنا أخلاطًا وأنماطًا لا تستطيع أن تتحد إلا على التخلي عن الدين على الأقل في الدولة أو في القوانين، بدعوى حياد الدولة ووحدة التشريع للجميع، فأنهم الذين سيسألون غدا أمام الله ما فرطوا في ذات الله وعلى عدم قيامهم بواجب الذب عن حمى الإسلام ومقاومة الكفر والطغيان.

وأخيرًا إذا لم يكن العلماء في مقدمة الذين يقاومون الظلم والظالمين والرشوة وحرمان المستضعفين من حقوقهم، أولئك الرجال والنساء الذين يقولون “ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وأجعل لنا من لدنك وليا ،اجعل لنا من لدنك نصيرا”، إذا لم يكن العلماء في هذا الموقف فمن يحل محلهم هل الجاهلون أم الظالمون!!!!.

لقد قال الله تعالى في حق المؤمنين وغيرهم ممن انحرفوا عن الطريق وأرادوا العودة إلى سبيل الحق وصراط النجاح: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } [الرعد:11] وأنها لسُنة من سنن الله في الكون صدع بها القرآن ليعمل بها الإنسان فيقوم بالتغيير الجذري الذي يريده الإسلام منه، وهل يمكن لأي قوم أن يقوموا بمعرفة هذه السنة على وجهها وتغيير ما بأنفسهم إذا لم يقم العلماء بتوعيتهم بحقيقتها وتجلية ما بأنفسهم لهم حتى يروه بارزا، وإرشادهم إلى ضرورة التغيير وما هو الذي يطلب منهم أن يصيروا إليه، لابد للعلماء أن يستخدموا من كتاب الله وسنة رسوله وهدى السلف الصالح وما أفاده العلم الحديث وتجارب الأمم والشعوب ما يعوض الإسلام أن يكون غاية التغيير المطلوب من البناء هو بناء المجتمع الإسلامي الحديث القائم على أصالة الدين، وحداثة الأنظمة والأساليب، فعلى علمائنا أن يعملوا جهد المستطاع لتحقيق هذا الهدف والإعداد له.

 


[1] نص الحديث هو (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) رواه أبو داود (رقم/4291)

[2] حديث الخلوف هو قوله صلى الله عليه وسلم” ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”. رواه مسلم.