لا تعود شهرة العلامة الشيخ مصطفى صبري إلى مجرد كونه آخر من تقلد منصب شيخ الإسلام في الدولة العثمانية كما هو شائع، بل للدور الذي قام به على أكثر من صعيد في مرحلة حرجة من تاريخ الأمة، ربما لم يشهد مثلها أحد من شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية قبله، ولا قام فيها بمثل دوره، وذلك في زمن التحولات السياسية والفكرية الكبرى التي شهدها العالَم كله خصوصاً في النصف الأول من القرن العشرين ؛ ولقد لخصتْ جانباً من ذلك سيرةُ هذا الرجل في ثلاث مراحل كبرى مرت بها مسيرة حياته، هي مرحلة النشأة والتكوين [1]، ثم مرحلة الجهاد السياسي كما يصفها الشيخ مصطفى صبري نفسه، ثم مرحلة الجهاد الفكري التي ختم بها حياته.
النشأة والتكوين
ولد الشيخ مصطفى صبري التوقادي[2] عام 1869في مدينة توقاد[3] الواقعة في قلب الأناضول، وفيها حفظ القرآن الكريم وهو ابن عشر سنين، وتلقى مبادئ العلوم الشرعية من شيوخها، ثم انتقل إلى مدينة قيصرية التي كانت واحدة من أهم المراكز العلمية فاستزاد من شيوخها المبرزين وحصّل منهم الكثير من علوم الدين والعربية والعلوم العقلية، إلى أن استوفى زاده العلمي في جامع السلطان محمد الفاتح بإستانبول، الذي كان يعد في ذلك الحين أكبر جامعة إسلامية في السلطنة العثمانية، وبلغ من تفوقه آنذاك أن أجيز للتدريس في تلك الجامعة بعد امتحان صارم وهو لما يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، وكان أصغر مَنْ درَّس فيه سناً عام 1890، ومن هناك ذاع صيته ولمع نجمه فأخذ يترقى في المراتب السلطانية، إذ عيَّنه السلطان عبد الحميد عضواً في درسه السلطاني الخاص[4] في عام 1898، ثم مديراً للقلم السلطاني، وعضواً في لجنة تدقيق المؤلفات الشرعية، وأميناً لمكتبة قصر يلدز، وفيها أكب يقرأ ويطلع على ما لا يحصى من نفائس كتب التراث ومخطوطاته.
الجهاد السياسي
بعد ذلك وفي عام 1904 استقال مصطفى صبري من بعض وظائفه وعاد إلى التدريس، فأمضى فيه حيناً من الزمن إلى أن بدأ جهاده السياسي بعد إعلان الدستور عام 1908 إذ نجح في دخول البرلمان (مجلس المبعوثان) نائباً عن دائرته (توقاد)، وشغل منصباً مرموقاً في حزب الائتلاف والحرية ذي الجمهور العريض الذي واجه سياسة جمعية الاتحاد والترقي ذات النزعة القومية الحادة وشكل تهديداً حقيقياً لها، كما فضح الشيخ مصطفى صبري من جهة أخرى خفايا الاتحاديين وصِلاتهم باليهود والماسونية بخطبه الملتهبة في المجامع، وبمقالاته اللاذعة في مجلة بيان الحق التي رأس تحريرها، وكان الاتحاديون قد أخذوا يشددون حملتهم على خصومهم وعلى رأسهم الشيخ مصطفى صبري، ففر من اضطهادهم عام 1913 إلى مصر ثم أوربة متنقلاً بين عدد من بلدانها، ثم عاد إلى تركية إبان هزيمتها في الحرب العالمية الأولى[5].
وقد عُين الشيخ مصطفى صبري في عام 1919شيخاً للإسلام في الدولة العثمانية[6] ومفتياً عامّاً لها، وعضواً مدى الحياة في مجلس الشيوخ (الأعيان) العثماني، وعضواً في دار الحكمة الإسلامية أكبر مجمع علمي إسلامي آنذاك، كما تولى منصب الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) بالوكالة نيابة عن رئيس الوزراء الداماد فريد باشا أثناء مشاركته بأعمال مؤتمر الصلح في فرساي، ثم أعفي من مناصبه عدا مجلس الشيوخ قبيل استيلاء الكماليين على مقاليد الحكم وإلغاء نظام السلطنة عام 1922 حيث قرر الشيخ مغادرة الوطن، فتوجه إلى مصر ليلقى فيها الصدَّ والإهانة[7]، فرحل إلى الحجاز بدعوة من الشريف حسين لكن لم تطب له الإقامة بسبب حرارة الإقليم، فعاد إلى مصر ثم لبنان فرومانيا، ثم اليونان حيث أصدر فيها لمدة خمس سنوات مجلة باللغة التركية اسمها (الغد) تفضح سياسات الكماليين بشدة لدرجة أنهم طالبوا اليونان بتسليمه لهم، فلجأ إلى مصر عام 1932 واستقر بها[8]، واتخذها وطناً ثانياً له إلى أن مات.
الجهاد الفكري
وعندما نزل الشيخ مصطفى صبري مصر وجد أنه انتقل من مواجهة “انقلاب صريح” في تركيا صنعه الكماليون إلى مواجهة ما سماه “انقلاباً مقنَّعاً”[9] في مصر يصنعه مثقفوها وكتّابها، فإذا كان مصطفى كمال أتاتورك قد فعل في تركية ما فعل[10] فإن ثمة مَن هو معجب به ويرنو إلى مثاله في مصر، وإذا كان التغريب في تركيا قد أخذ يجري على قدم وساق ففي مصر انبهار بالغرب فكراً ونماذج، وفيها أيضاً نتيجة لذلك نزعات شتى من التغريب والعلمنة بل والإلحاد مع إزراء بعلوم الدين ومكانته، وعندها راح الشيخ صبري يدخل مرحلة جديدة يصفها بـ”الجهاد الفكري”، وأخذ ينشر العديد من المقالات توضيحاً وكشفاً لما وراء ذلك البهرج والبريق الغربي والتغريبي، كما كتب عدداً من المؤلفات أهمها:
– النكير على منكري النعمة، من الدين والخلافة والأمة؛ أبان فيه جناية الكماليين على نظام الخلافة وتمزيقهم وحدة الأمة.
– ولي في المرأة، ناقش فيه مسائل السفور والحجاب وتعدد الزوجات والشبهات المُثارة فيها، وجاء رداً على اقتراح قُدِّم إلى مجلس النواب المصري لتعديل قانون الأحوال الشخصية لتضارع نظيرتها الغربية.
– مسألة ترجمة القرآن: ألفه في معرض رده على فتوى شيخ الأزهر المراغي ومحمد فريد وجدي في إجازة ترجمة معاني القرآن وقراءتها في الصلاة، وكانت فتواهما متناغمة مع قرارات أصدرها أتاتورك بهذا الخصوص.
– موقف البشر تحت سلطان القدر: رد فيه على من زعم أن الإيمان بالقدر عند المسلمين هو سبب تخلفهم، وأصَّل فيه مذهبه في المسألة كلامياً متحولاً من مذهب الماتريدية إلى مذهب الأشاعرة.
غير أن أهم وأعظم ما ألف من الكتب هو كتابه: (موقف العقل والعلم والعالَم من رب العالمين وعباده المرسلين)، وهو آخر كتبه تأليفاً، وأشهرها ذيوعاً، وقد صدر بأجزائه الأربعة تباعاً، وبلغ ما يقرب من ألفي صفحة، فختم به مسيرة حياته، وجمع فيه ما تفرق في غيره وزيادة، وقد تشكلت مادة الكتاب من سجال مفتوح بين الشيخ مصطفى صبري من جهة وبين خصومه الفكريين من جهة أخرى، سواءٌ كانوا أفراداً أو تيارات فكرية.
ورغم أن الكتاب مصنف عند كثيرين في عداد كتب العقيدة إلا أنه غير تقليدي في محتواه أو في أسلوبه، وهو في أصله يدور على أربعة محاور تناولها الشيخ صبري بإسهاب وتفصيل، وهي بالترتيب:
– مسألة إثبات وجود الله تعالى: قدّم لها بمقدمتين[11]، الأولى ضرورة الدين ودوره في حياة الإنسان، والثانية ضرورة إزالة اللبس عن النصرانية بالتفريق بين ما جاء به سيدنا عيسى عليه السلام وبين ما ابتُدِع بعده، وهو تفريقٌ لم يقم به الأوربيون في ثورتهم على الكنيسة ولا مقلدوهم في الشرق، مما صنع أزمة فكرية تجلت في لاأدرية تائهة وقطيعة بين الدين والعلم، وبذلك أضرت النصرانية المبتدعة بالأديان عموماً وبالإسلام خصوصاً.
ثم سرد الشيخ الأدلة المنطقية (الكلامية) على وجود الله، وفي مقدمتها دليل الواجب العقلي، ثم دليل العلية (أو نظام العالَم)، ثم دليل الوحدانية (أو برهان التمانع)، مورداً شبهات فلاسفة الغرب وملحديه ومفنداً إياها بإسهاب، مع تحقيق مقولاتهم وردها لأصولها[12]، ومن طريف الأدلة الأخرى –على وجازتها- دليل إدراك الإنسان وشعوره وإرادته[13].
– مسألة موقف العالَم من الله: (وحدة الوجود وحدوث العالم): وهنا يتحول الشيخ –على حد قوله- من مكافحة الضلالات الفكرية الآتية من الغرب (يقصد الإلحاد وما يتعلق به) إلى مكافحة ضلال شرقي قديم (مذهب وحدة الوجود) حمله بعض رموز الصوفية الذين فاقت منزلتهم عند كثير من الناس منزله علماء أصول الدين[14]، ويستغرق كثيراً في بيان هذا المذهب لشدة غموضه حتى إن “كثيراً من حملته لم يفهموه”، بل و”إبطاله أسهل من فهمه”، ويشن حملة شعواء على شيخ هذا المذهب (ابن عربي) وتابعيه ونظرائه من “الصوفية الوجودية“[15] المولعة بالتشبث بأذيال فلاسفة الإغريق في كثير من المسائل الاعتقادية[16]، مبيناً تهافت أدلتهم العقلية[17] و”تلاعبهم” بالأدلة النقلية، إلى أن يختم فصله هذا ببيان أنه ليس من أعداء الصوفية، وأن الصوفية ليسوا كلهم على مذهب وحدة الوجود، مورِداً أقوال مَنْ يشهد له ويؤيده وهو المجدد الصوفي الشهير أحمد السرهندي صاحب “المكتوبات.
وفي الفصل الثاني من هذه المسألة يبين “موقف العالَم الحقيقي من الله، وهو أنه ما سوى الله ومخلوقه الحادث”، راداً على فلاسفة الإغريق ومن شايعهم من متكلمي المسلمين كابن رشد، أو اختلط عليهم الأمر كابن تيمية، أو أخطأ في الفهم والتقليد من المعاصرين كالمراغي شيخ الأزهر.
1- وقف العالم من رسل الله: وأصل هذه المسألة كتابٌ مستقل أصدره الشيخ صبري من قبل بعنوان: “القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون”، ثم جعله –كما هو- جزءاً من كتابه “موقف العقل”، أما سبب التأليف فيكمن في حالة الانبهار بالتقدم العلمي والتقني لدى الغرب التي استحوذت على عقول جم غفير من مفكري ومثقفي تلك المرحلة، فعصفت ببعض معتقداتهم التي لم تؤسس على أصول راسخة من العقلانية والمنطق، فوقعوا في التشكك والتشكيك بكثير من مسلمات الدين وأصوله كالنبوة والمعجزات وكالإيمان بكائنات غير منظورة كالملائكة والجن والشياطين، بل وحتى بالبعث والحشر بعد الموت، وكان نصيب تلك القضايا أن تُردُّ في بعض الأحيان أو تُؤوَّل نصوصها، وكان رأي الشيخ صبري أن الاعتماد على المنهج التجريبي الغربي وإهمال المنهج العقلي التجريدي قد أفضيا بالقوم إلى ما هم عليه من تقليد للآخر واستخذاء أمام الذات بحيث لم يبق للمنظومة المعرفية الإسلامية قيمة في نظرهم، بل لقد أصبحت عبئاً ثقيلاً عليهم يسارعون في طرحه والتبرؤ منه، ويوجه الشيخ سهام نقده إلى أشهر رموز تلك المرحلة من الكتاب والمفكرين كمحمد عبده محمد فريد وجدي وهيكل والعقاد والمراغي وغيرهم، وقد اعتمد في رده عليهم آليتين اثنتين هما: التفريق المنطقي بين الحكم العقلي والحكم العادي أولاً، إذ بدون هذا التفريق تختلط الأحكام على المرء، فيَرُدُّ المعجزات –مثلاً- بدعوى مخالفتها للعقل، وهي في الحقيقة مما تحيله العادة لا العقل؛ وثانياً يورد الشيخ صبري أقوالاً لأعلام من مفكري الغرب وفلاسفته موافقة لرأيه، لا ليحتج بها لنفسه، بل ليحتج بها على مَنْ يسلم لهم أو يقلدهم.
2- مسألة فصل الدين عن الدولة: وكان علي عبد الرازق أشهر من أثار تلك القضية في تلك المرحلة في كتابه الذائع “الإسلام وأصول الحكم”، كما كان انقلاب أتاتورك في تركيا قد أثار إعجاب كثيرين من عشاق الحداثة ودعاتها في مصر، ورأوا في تركيا نموذجاً يحتذى لإمكان إقامة دولة “عصرية” شعبها مسلم وحكومتها “لادينية”، وكانت أبرز نقاط رد الشيخ على هذه المسألة تبيانه أهمية القانون ودوره في الاجتماع الإنساني، وأن القانون الوضعي محكوم بواضعه بينما التشريع الإلهي حاكم غير محكوم، وعدم إمكان الفصل بين القانون والقيم التي يستقي منها جزئياته، كما بيَّن انبثاق الفقه الإسلامي عن نصوص الوحي خلافاً لزعم من زعم أنه من موروثات القانون الروماني، وفرَّق الشيخ صبري بين القانون الإلهي والقانون الوضعي مبيناً مزايا الأول وآفات الثاني، ورافعاً للشبهات الواردة على إعمال القانون الإلهي، ثم تحدث عن حقيقة الاجتهاد في الإسلام وكيف أن دعاة الاجتهاد قد أساؤوا من حيث ظنوا أنهم أحسنوا إذ جعلوا المجتهد مشرِّعاً ووسعوا باب الاجتهاد حتى أدخلوا فيه من ليس بأهل، وهم بذلك كشفوا عن جهلهم بطبيعة الشريعة ودور المجتهد فيها.
والحق أنه لا تفي صفحات يسيرة كهذه في سرد كل ما تناوله الشيخ صبري في كتابه القيم “موقف العلم” الذي وُصف بأنه “كتاب القرن العشرين”[18]، إلا أنه لا بد من التنويه بأسلوب الشيخ في الكتابة، إذ إنه لم يقسم كتابه إلى أبواب وفصول كما هي العادة، بل جعل كتابه بضعة أقسام كبرى وسرد تحت كل قسم أبحاثه وموضوعاته سرداً بقليلٍ من التفقير والعنونة، واعتمد طريقة الإسهاب والبسط المقترن بالجدال والحجاج، وفي كتابه استطرادات كثيرة وتشعبات واسعة، وتكرار لقضايا سبق ذكرها أو تذكير بقضايا سيأتي تفصيلها، ويعود ذلك إلى كون الشيخ يكتب كتابه وهو يرصد واقعه ويتابع بدقةٍ الأفكار التي تتحرك فيه[19]، حتى يمكن أن يُعد الكتاب بمعنى ما مرجعاً يوثق جوانب من الحركة الفكرية السائدة بمصر في النصف الأول من القرن العشرين، ولا يتعاطى في هذا مع الأفكار المجردة فحسب، بل مع رجالها وحملتها بأسمائهم ومواقفهم دون مواربة؛ كل ذلك بالجمع بين قوة العبارة وعمق الفكرة.
الموقف من الحداثة
ربما صُنف الشيخ لدى البعض في خانة الجامدين الرافضين للتجديد والعصرنة، إلا أنه يمكن القول بثقة إن دعوات الحداثة والعصرنة التي ضجت بها تلك المرحلة إنما انطلقت من موقع الانفعال لا من موقع الفعل، وافتقدت الكثير من التأني والمحاكمة العقلانية الناضجة، وكان الشيخ صبري قطباً فاعلاً في الحراك الفكري الذي شهده العالم الإسلامي مع بدايات القرن العشرين، ونجده في مقدمة مَن حاول أن يقوّم المشروع الإصلاحي ويقيمه –في لحظاته الحرجة- على أسس متوازنة منطقية، من غير أن يكون مبهوراً بالنموذج الغربي الوافد، أو أسيراً للنموذج الموروث بتقليد دون تجديد، واختط في ذلك مساراً غلب فيه النقد والتفكيك على البناء والتشييد، متسلحاً بملكة راسخة في علم المنطق والمناظرة، مع تمكن من أدوات الاجتهاد، وقدرة على مواجهة الأقوال والمذاهب دون وجلٍ من الأسماء الذائعة والألقاب اللامعة.
والحال أن الشيخ قدم خطاباً عقلانياً لم يقدر حق قدره في حينه، وكشف عن آفات فكرية عديدة أصيب بها المفتونون بالنموذج الغربي والمتأسون به، وهو وإن لم ينص عليها في موضع مستقل من مؤلفاته، إلا أنه بثَّها في حنايا مناقشاته ونقده، وهي في أصلها مستقاة من علم المنطق والجدل الذي برع فيه ونبغ، ونكتفي في هذا المقام بتسجيل ثلاث منها هي:
1- آفة العقلانية الساذجة: وذلك أن القوم نتيجة افتتانهم بالنموذج الغربي في البحث والتفكير قد ولَّوا وجوههم شطر الدليل التجريبي الحسي فوضعوه في مكان الصدارة[20] وعمدوا إلى الدليل العقلي المنطقي المجرد فاستبعدوه من البرهنة والحجاج إما لضعفهم في تحصيله، أو لعدم ثقتهم به مقارنة بدليل التجربة، وهم يذكرون في ذلك قاعدة يلتزمونها في كتاباتهم، ونصُّها أن: ” كل معقول لا يؤيده محسوس لا يعتد به”، وقد انعكست هذه القاعدة المأخوذة من فلسفة أوغست كونت الوضعية على تفكير كثير من كتاب ومثقفي تلك المرحلة [21]، وتجلت عملياً في مؤلفاتهم كإنكار المعجزات الحسية أو تأويلها، والتفافهم على مفاهيم أساسية من قبيل الوحي والنبوة والملائكة ونحو ذلك بإعادة تفسيرها وتأويلها كذلك لئلا تصادم معطيات “البحث العلمي“؛ وطريف ما في الأمر أنهم يصفون منهجهم هذا بالعلمية والعقلانية، والحال أنها عقلانية ساذجة لم تفرق بين الحكم العقلي والحكم العادي ولوازم كل منهما، فالتجربة لا تُنتج سوى ما يُعرف بالتلازم أو الحكم العادي، وهو تلازم وإن كان مضطرداً في العادة فإنه غير واجب في العقل، بل هو ممكن وقابل للانخرام والانفكاك، والمشكلة أن كثيراً من خصومه وأتباعهم حتى يومنا هذا لا يكاد يفرق بين حكم العقل وحكم العادة فيجعلهما شيئاً واحداً، وقد اختلقت هذه “السذاجة” صداماً زائفاً بين الدين والعلم، وأنكرت عدداً من نصوص أو أوَّلتْها بدعوى “مخالفتها للعقل”، وإنما هي في الحقيقة مخالفة للعادة لا العقل.
2- آفة القياس مع الفارق: وهو قياس صاغه دعاة الحداثة في منطلقاتهم العامة، لأنهم في دعوتهم للحداثة إنما يقومون –دون أن يشعروا أحياناً- بعملية قياس، فيستبطنون النموذج الغربي كأصل، ويضعون حالهم الراهنة كفرع، ويجمعون بين الأصل والفرع في العلة، فيطلبون في إصلاح الفرع نفس ما أصلِح به الأصل –هذا إن سُلِّم أنه إصلاح أساساً- لكن مغالطتهم تأتي من التسوية بين أمرين يتفقان في وجه ويختلفان في وجوه، وهذا ما يسمى القياس مع الفارق، وهو باطل في المنطق، لأنه لا يلزم من التساوي في وصفٍ ما التساوي في جميع الأوصاف، ومن هنا تبطل كثير من وصفات الحداثة في أساسها.
3- آفة التقليد: وقد عبر عنها الشيخ صبري بلغة خطابية تجاه خصومه، ورتب على مقدماتهم نتائج لم يلتزموها مع أنها تلزمهم، فهم مثلاً يصدقون بـ”معجزات الطب أو العلم الحديث” ويردون معجزات النبوة مع أن كلاهما من جنس خوارق العادات؛ وهم مثلاً يردون عقلانية ديكارت ويأخذون بوضعية كونت مع أنهما كلاهما من نفس المنظومة الغربية التي أعجبوا بها، وتجده أحياناً يؤيد مذهبه في مسألة ما -خالف بها خصومه- بآراء لفلاسفة غربيين ممن لهم حظوة عند دعاة الحداثة، مؤكداً على أن آفة القوم التقليد مع اتباع الهوى في آن معاً.
عاش الشيخ مصطفى صبري حياته في جهاد وهجرة أضنيا جسمه النحيل، فرحل إلى جوار ربه عام 1954 إثر معاناته من مرض أصابه، وشيعته جماهير من العلماء وطلبة العلم وأصدقائه ومحبيه وبني وطنه، ودفن في الدرّاسة بالقاهرة.
ولئن قضى الشيخ حياته غريباً كما عبر عن نفسه، فإن التركة الفكرية لهذا “الغريب” كفيلة بأن تسهم في تبديد كمٍّ وافر من أوهام التغريب الماثلة في أذهان كثيرين حتى هذا اليوم.