بالرغم من العمق الزمني الطويل للبنوك التقليدية إلا إنها لم تُقدِّم على طول هذه المسيرة في الجانب التمويلي سوى “القرض الربوي” ؛ لأنه ببساطة يُمكِّنُ المقترض من النقد الذي يشتري به ما يريد بحرية مطلقة، مع كفاءته التمويلية.

لكننا وجدنا الشريعة الإسلامية شرعت وأباحت عددا من عقود التمويل المتنوعة (المضاربة، المشاركة، السلم، الاستصناع، الإجارة، المزارعة، المساقاة ….. ) فما الحكمة من وراء تشريع هذه العقود التمويلية المتعددة؟ ولماذا لم تكتف الشريعة الإسلامية بتقديم عقد  تمويلي واحد، كما هو الحال في النظام الرأسمالي؟

يمكننا تلمس الحكمة في ذلك من خلال إجالة النظر في طبيعة هذه العقود التمويلية التي شرعها الإسلام لتوفير التمويل اللازم لطالبيه.

النشاط الاقتصادي والنظام المالي

فإذا كانت النظم الاقتصادية غير الإسلامية لم  تربط أدوات التمويل بالنشاط الاقتصدي، مما  جعل النظام المالي يسير في خط متواز مع النشاط الاقتصادي، بحيث لا يلتقيان، ما يسمح  بألا يعبر النظام المالي عن الاقتصاد ، مما يوجد فقاعة اقتصادية ، ليس لها حل سوى الانهيار.

إذا كانت النظم الاقتصادية غير الإسلامية فعلت ذلك ، فإن الشريعة  الإسلامية قد ربطت التمويل َ بالنشاط الاقتصادي، ليس هذا فحسب. بل ربطت التمويل بالنشاط الاقتصادي الذي يحسنه طالب التمويل .

المزارعة

فمالك الأرض الصالحة للزراعة، لا يحتاج في الشريعة الإسلامية أن يحصل على تمويل مضمون بفائدته من الممول؛ ليتمكن من زراعة أرضه، فإذا لم يثمر الزرع وجد نفسه مدينا للممول بقيمة التمويل، فيضطر إلى بيع أرضه لسداد ديونه.

ولكن بإمكانه أن يقيم شراكة بينه وبين الممول، يقدم هو الأرض، ويقدم الممول حرث الأرض ورعايتها، والإنفاق عليها حتى يظهر الحصاد، فيتقاسماه حسب ما اتفقا عليه من نِسَب، فإذا بارت الأرض، أو لم ينضج الزرع، أو أجدبت السماء، فيخرج الطرفان بأقل الخسائر، يضيع على صاحب الأرض ما كان يتوقع من نماء الأرض، ويضيع على الممول جهده وما أنفقه على الأرض. والمهم أن أحدًا منهم لن يخرج مدينا بسبب هذه الشراكة ذاتها.

وفي المقابل يتمكن صاحب الخبرة في الزراعة من مشاركة مالك الأرض، مقدما جهده، ولا يكلف أن يحصل على تمويل مضمون لصاحب المال، ليقيم به مشروعًا زراعيًّا ، ففي حالة الخسارة يضيع جهده ويصبح مدينا مهددا بالحبس كما هو الحال في الأنظمة الرأسمالية!

وبإزاء ذلك، فإن الأنظمة الاقتصادية غير الإسلامية لا تقدم لصاحب الأرض من أفكار تمويلية، سوى أن يحصل على تمويل مضمون هو وفائدته، فإن بارت الأرض، أو لم ينضج الزرع، أو أجدبت السماء، وجد صاحب الأرض نفسه مدينا بقيمة التمويل مع الفائدة، فيضطر لبيع أرضه ليسدد قيمة التمويل.

كما لا تقدم الأنظمة الاقتصادية غير الإسلامية لصاحب الخبرة الزراعية من أفكار تمويلية، سوى  أن يحصل على تمويل مضمون هو وفائدته. وهو ما يعرضه للنتيجة ذاتها من التهديد بالحبس في حالة الخسارة.

المساقاة

وصاحب البستان، يدفع بستانه لمن يسقيه ويقوم عليه ثم يتقاسمان الربح على ما يتفقان، فلا يحتاج صاحب البستان أن يحصل على تمويل نقدي مضمون هو وفائدته، لينفق على الشجر والنخل، ثم يضمن التمويل بفائدته، أثمرت الثمار أم لم تثمر.

وفي المقابل يتمكن صاحب الخبرة في رعاية الشجر والنخيل من مشاركة مالكهما، مقدما جهده، ولا يكلف أن يحصل على تمويل مضمون لصاحب المال، ففي حالة الخسارة يضيع جهده ويصبح مدينا مهددا بالحبس كما هو الحال في الأنظمة الرأسمالية!

الاستصناع

والصانع كذلك لا يحتاج أن يحصل على تمويل نقدي بفائدة مضمونة لتشغيل مصنعه، بل يُمكنه أن يبيع من خلال الاستصناع بعضًا مما يصنع، ويستفيد بثمنه مقدما.

المضاربة

وهناك الشخص الذي ليس عنده أكثر من الفكرة  التجارية والقدرة على الاستثمار، فهذا الشخص في الشريعة الإسلامية، لا يحتاج أن يعمل في غير هذه الفكرة، ولا بعيدًا عن قدرته، ولا يُفرض عليه تمويل يضمنه بفائدته. فأمامه صيغة المضاربة، وهي عقد من عقود الاستثمار، يقوم على التأليف بين المال وبين العمل في تكامل اقتصادي يحقق مصلحة الملاك والعمال على حد سواء.

وفي حالة الربح يقتسمان الربح حسب ما اتفقا عليه من نِسَب، وفي حالة الخسارة  لا يخرج أحد منهما مدينًا بشيء، فصاحب المال يخسر من ماله، وصاحب الجهد يخسر من جهده!

 السَّلم

وقد يَضِنُّ التاجر، أو صاحب المزرعة، أ وصاحب المصنع،  أو صاحب الفكرة التجارية، قد يضن هؤلاء بالدخول في مشاركة مع الممول؛ ثقة منهم في نماء مشروعاتهم، وضنًّا منهم أن يتقاسموا بعضًا من هذا النماء مع أصحاب التمويل، وهذه رغبة مشروعة.

وهنا تقدم الشريعة الإسلامية لهؤلاء صيغة السَّلم، ومفادها :  أن يبيع هؤلاء بعضًا من جنس ما ينتجون أو يزرعون أو يصنعون، بيعا يتم فيه تعجيل الثمن، وتأخير تسليم السلعة إلى وقت ظهور الإنتاج الزراعي أو الصناعي، وبالطبع سيكون الاتفاق على ثمن أقل من سعره المتوقع وقتئذ، وهذا الفرق في السعر هو المكسب الذي يحصل عليه الممول بديلا عن المشاركة في الربح فيما لو أقام الطرفان بينهما شركة من الشركات السابق ذكرها.

التمويل في الإسلام خادم لا مخدوم

من خلال ما سبق نصل إلى أن التمويل في الإسلام أكثر انسجاما مع النظرية الاقتصادية.

فالهدف من التمويل أساساً هو تسهيل المبادلات والأنشطة الحقيقية. فالنشاط الحقيقي، وهو التبادل إما بغرض الاستثمار أو الاستهلاك، هو عماد النشاط الاقتصادي، والخطوة الأولى نحو تنمية الثروة وتحقيق الرفاهية لأفراد المجتمع. فلو كان الأفراد يملكون المال اللازم لإتمام هذه الأنشطة لما كان هناك مبرر للتمويل.

وإنما تنشأ الحاجة للتمويل إذا وجدت مبادلة نافعة لكنها متوقفة بسبب غياب المال اللازم لإتمامها. فالتمويل في هذه الحالة يحقق قيمة مضافة للاقتصاد؛ لأنه يسمح بإتمام نشاط حقيقي نافع لم يكن من الممكن إتمامه لولا وجود التمويل.

فالتمويل يحقق وظيفة مهمة في النشاط الاقتصادي، هي تسهيل وتشجيع المبادلات والأنشطة الحقيقية التي تولد القيمة المضافة للنشاط الاقتصادي، وهذا هو مصدر تنمية الثروة وتحقيق الرفاه الاقتصادي.

وفي مقابل هذه الوظيفة يستحق التمويل عائداً ينبع من القيمة المضافة التي يحققها. وبدون هذه القيمة المضافة لا يوجد مبرر أصلاً لعائد التمويل، بل يصبح هذا العائد تكلفة محضة وخسارة على النشاط الاقتصادي.

فلما كان التمويل خادماً وتابعاً للنشاط والمبادلات الحقيقية، كان التمويل في العقود الإسلامية تابعاً للبيوع والعقود الحقيقية. ولهذا ليس في الشريعة الإسلامية عقد يتمحض للتمويل المجرد بقصد الربح، لأن هذا ينافي طبيعة التمويل ووظيفته الاقتصادية.