لا شك أن أدوات التمويل ركيزة أساسية في علم الاقتصاد، أيا كانت ماهية هذا الاقتصاد، إسلامي، أو رأسمالي، أو اشتراكي .
فلكل منهج من هذه المناهج الاقتصادية فلسفته وطريقته في أدوات التمويل التي يقدمها. فالاقتصاد الرأسمالي مثلا، يقدم ( الربا) أداة رئيسة في الحصول على التمويل، فالفائدة الربوية عند الاقتصاديين هو عائد مشروع على رأس المال.
وفي المقابل يرفض الإسلام الربا، ويحاربه، ويعتبره ظلما للمدين، وظلما للمجتمع كله، ويقدم نوعين من التمويل الربحي: (المعاوضات والمشاركات) ضمن مجموعة متنوعة من الأدوات التمويلية.
فمن أدوات المعاوضات (المرابحة للآمر بالشراء، والإجارة المنتهية بالتمليك، وبيع السلم، والاستصناع).
ومن أدوات المشاركات (المضاربة، والمشاركة الدائمة، والمشاركة المتناقصة، والمزارعة، والمساقاة).
التمويل الإسلامي والرفاة
لكن التمويل في الاقتصاد الإسلامي بنوعيه (المعاوضات والمشاركات) ليس كل شيء في الاقتصاد الإسلامي، بمعنى أن نظرية التمويل وحدها لن تحقق الرفاة والرخاء حتى لو كانت نظرية التمويل المطبقة هي النظرية الإسلامية.
فإذا كان من مقاصد الإسلام في الاقتصاد منع تركز الثروة في أيدي الأغنياء فحسب، قال تعالى : { كي لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] إذا كان هذا مقصدًا من مقاصد الإسلام، فإن هذا المقصد لن يتحقق بتطبيق نظرية التمويل الإسلامية، بل ربما أدى تطبيقها إلى أن تتركز الثروة في أيدي الأغنياء، كما هو الحال في النظام الرأسمالي!
وبيان ذلك أن الإنسان يحتاج إلى التمويل لسببين:
السبب الأول : حاجات استهلاكية.
السبب الثاني : حاجات استثمارية.
فالحاجات الاستهلاكية، يحتاج إليها الفقراء لسد حاجاتهم الضرورية من مسكن ومأكل وملبس ودواء وشراب، وما لا تقوم الحياة إلا به، ويلحق بهذا النوع : ما تقوم الحياة بدونه، لكن على وجه يجعل الحياة صعبة وعسيرة وحرجة، كالكهرباء، وأجهزة حفظ الطعام وتسخينه، وأجرة المواصلات، وغسالة لغسل الملابس، وسرير ينام عليه الإنسان، ونحو ذلك.
وهذا النوع من الاحتياجات، لن يصلح التمويل بالمشاركات معه، فأي شركة تلك التي يمكن أن يدخلها صاحب المال مع من يريد المال لشراء الطعام والدواء ونحو ذلك.
وهنا سيفسح المجال للتمويل بالديون، الذي سبق أن أسميناه ( التمويل بالمعاوضات) من خلال بيع المرابحة، وبيع التقسيط، وبيع السلم، والإجارة ، والاستصناع).
ومع انتهاء الدورة التجارية لهذه العقود، سوف يخرج الفقير فقيرا كما كان ما لم يزدد فقرا، ويخرج الممول الغني غنيا، بل سوف يزداد غناه، مع أن التمويل كان تمويلا إسلاميا، لكنه كان تمويلا ربحيًّا، وسيظل المال دولة بين الأغنياء، وسيظل الفقراء فقراء، ويتساءل الناس : لماذا لم يتحقق مقصد الإسلام من منع تركز الثروة في أيدي الأغنياء مع أن التمويل كان إسلاميًّا؟
والإجابة : لأننا لم نطبق من الاقتصاد الإسلامي سوى الجانب التمويلي منه فقط!
حظر التمويل بالديون
وربما يتصور بعض المنظرين أن الحل يكمن في حظر هذا النوع الثاني من التمويل ( التمويل بالديون) والسماح فقط للبنوك الإسلامية بممارسة النوع الأول من التمويل ( التمويل برأس المال = التمويل بالمشاركات) لكن الحقيقة أن هذا ليس حلا لسد حاجات الفقراء،بل هو منع لسد حاجات الفقراء أصلا.
النشاط غير الربحي
والحل في أن يُطلق العنان للاقتصاد الإسلامي كله بجميع محاوره.
والحل الذي قدمه الاقتصاد الإسلامي في هذا السياق، هو التمويل التطوعي = التمويل غير الربحي؛ وذلك يتمثل في الإنفاق على وجه الإرفاق، وليس على وجه الاستثمار، مثل ( الزكاة، والصدقات، والوقف، والقرض الحسن، والهدية، والنذور، وكفارات الأيمان، والنفقة الواجبة من القريب الغني لقريبه الفقير، ثم التكافل الاجتماعي إذا لم تكف الأبواب السابقة).
ونظرًا لأهمية النشاط غير الربحي فقد قدمت الشريعة الإسلامية له الحوافز المختلفة. فقد شجعت على الصدقات وجعلت الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وتوعدت تارك الزكاة بالعقوبة في الدنيا والعذاب في الآخرة.
كما أكدت على الأجر الدنيوي والأخروي في بذلها، كما قال ﷺ: “ما نقص مال قط من صدقة. [ صححه الألباني ، مشكاة المصابيح (3/ 1454)]
فالصدقة تبارك في المال وتنميه، وهي تقي صاحبها من نوائب الدهر ومصارع السوء.
وهي مع ذلك سبب من أسباب الشفاء، كما قال عليه الصلاة والسلام: “داووا مرضاكم بالصدقة”“. [ رواه أبو الشيخ في الثواب، وحسنه الألباني ، رقم (3358) صحيح الجامع ]
وعن قيس بن أبي غَرزة قال: كنا في عهد رسول الله ـ ﷺ ـ نُسَمَّى “السماسرة” فمرَّ بنا رسول الله ـ ﷺ ـ فسمَّانا باسم هو أحسن منه، فقال: “يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشوِّبوه بالصَّدَقة” [رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني، مشكاة المصابيح (2/ 851)]
حق العمل أو الكفالة
ومما قدمه الاقتصاد الإسلامي للفقراء، أنه حرَّم الاحتكار، الذي يؤدي إلى رفع الأسعار، بحيث لا يستطيعها إلا الأغنياء.
وأتاح الإسلام الفُرَصَ المتكافئةَ للفقراء؛ ليَقفوا على قدَم المساواة مع الأغنياء، فباب العمل والكسْب مَفتوح للجميع، ومَن لم يجد عملًا هيَّأَ له وليُّ الأمر عملًا، فإن لم يُيَسّرْ له العمل، أو كان عاجزًا عن العمل، أو كان أجره مِن عمله لا يكفيه، كان واجبًا على وليِّ الأمر أن يَرعاه، ويُهيئ له ما هو حقٌّ لكل مسلم أو ذِمِّيٍّ في ظل الإسلام مِن مأْكلٍ ومشرب، وملْبس للصيف، وملْبس للشتاء، ومَسكن يُكِنُّهُ ويُؤْوِيهِ، كما قرَّر فقهاء الإسلام.
وللحاكم إذا لم تَكْفِ الزكاةُ والمواردُ العادية لسدِّ هذه الحاجات، أن يَفرض على أغنياء المسلمين ما يَقوم بمَصالِح فُقرائهم، وقد قرَّر علماء المسلمين هذا المبدأ: “إذا احتاج المسلمون فلا مالَ لأحدٍ”. [ دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي، القرضاوي]