في مقال سابق وسطية الإسلام … ووسطية الأيدلوجيات الليبرالية تناولنا سماحة الإسلام مع الأديان الأخرى من خلال التنظير، والأدبيات الإسلامية التي تحدثت عن حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية.
وفي هذا المقال نسلط الضوء على الجانب التطبيقي؛ لنرى هل فعلا التزم المسلمون بهذه التعليمات السمحة نحو المواطنين غير المسلمين ( أهل الذمة) أم لا؟
شهادة البطريق النسطوري
يشهد البطريق النسطوري ياف الثالث بأن التسامح الإسلامي الخلقي والسياسي مع المخالفين، ليس له نظير في أي دين آخر ، أو حكم أو نظام.
يقول البطريق النسطوري ياف الثالث في رسالة بعث بها إلى سمعان مطران ريفار دشير ورئيس أساقفة فارس: “وإن العرب الذين منحهم الله سلطان الدنيا يشاهدون ما أنتم عليه وهم بينكم ، كما تعلمون ذلك حق العلم، ومع ذلك فهم لا يحاربون العقيدة المسيحية ، بل على العكس يعطفون على ديننا ويكرمون قُسسنا ، ويجودون بالفضل على الكنائس والأديرة” [ الدعوة إلى الإسلام لتوماس أرنولد، ص 98]
ويشير غوستاف لوبون إلى براعة، و حسن سياسة خلفاء وسلاطين الدولة الإسلامية في معاملة
المخالفين لدينهم قائلا : ” كانوا يحترمون عقائد الشعوب وعرفها وعاداتهم مكتفين بأخذهم في مقابل حمايتها جزية زهيدة تقل عما كانت تدفعه إلى ساداتهم السابقين من الضرائب، كما حافظوا على كنائس النصارى ولم يمسوها بسوء .” [ حضارة العرب، ص 134]
وقد اعترف المنصفون من الغربيين لدين الإسلام بهذا العفو والتسامح، فمن ذلك قول بعضهم : ” إن مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية ، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص ، وسار خلفاؤه على سننه ” وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوروبا المرتابون و المؤمنون القليلون الذي أمعنوا النظر في تاريخ العرب، ونعموا بعدله كما أشاد المؤلف الأمريكي لوثروب ستودارد بمراعاة خلفاء الدولة الإسلامية وحكامها لمشاعر غير المسلمين فقال : ” كان الخليفة عمر يرعى حرمة الأماكن المقدسة النصرانية أيما رعاية ، وقد صار الخلفاء من بعده على أثاره ، فما ضيقوا على النصارى ، وما نالوا بمساءة طوائف الحجاج النصارى الوافدين كل عام إلى بيت المقدس من كل فج من فجاج العالم النصراني . [ تسامح الغرب مع المسلمين، ص 67]
أنتم أحب إلينا من الروم
بل إن التاريخ المسيحي واليهودي يظهر من خلال كتابات المنصفين أن غير المسلمين وجدوا
من التسامح ما لم يجدوه عند طوائف مخالفة في دينهم؛ ولذلك كتب النصارى في الشام إلى أبي عبيدة وهو في معسكر فحل يقولون : ” يا معشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم ، وإن كانوا على ديننا ؛أنتم أوفى لنا ، وأرأف بنا ، وأكف عن ظلمنا ، وأحسن ولاية علينا ، ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا.[ فتوح البلدان، ص 97]
ومن حسن معاملة المسلمين لغير المسلمين أن أهل بيزنطية يردون قول أحد رؤسائهم الدينيين : ” إنه لخير لنا أن نرى العمامة في مدينتنا من أن نرى فيها تاج البابوية “.. [ الإمبراطورية البيزنطية : نورمان بيسز ، ص ٣]
لو أرادوا لاكتسحوا المسيحية!
يقول المستشرق توماس أرنولد :” لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام ، أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي ، ولو اختار الخلفاء تنفيذ إحدى الخطتين لاكتسحوا المسيحية بتلك السهولة التي أقصى بها فردينالد Ferdinald و إيزابلا Isabella دين الإسلام من إسبانيا .
أو بتلك السهولة التي جعل لويس الرابع عشر Louis المذهب الببروتستانتي مذهبًا يعاقب عليه متبعوه في فرنسا .
أو بتلك السهولة التي ظل بها اليهود مبعدين عن إنجلترا مدة خمسين وثلاثمائة سنة .
ولهذا فإن مجرد بقاء هذه الكنائس حتى الآن ليحمل في طياته الدليل القوي على ما قامت عليه سياسة الحكومات الإسلامية والنظم السياسية بوجه عام من تسامح نحوهم ” [ الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ص 98، 99].
لا مكان للمبشرين الملحاحين
وتقول المستشرقة الإيطالية لورافيشيا فاغليري:” كان المسلمون لا يكادون يعقدون الاتفاقيات مع الشعوب حتى يتركوا لها حرية المعتقد ، وحتى يحجموا عن إكراه أحد من أبنائها على الدخول في الدين الجديد .
والجيوش الإسلامية ما كانت تُتبع بحشد من المبشرين الملحاحين غير المرغوب فيهم ، وما كانت تضع المبشرين في مراكز محاطة بضروب الامتياز ، لكي ينشروا عقيدتهم و يدافعوا عنها .
ليس هذا فحسب ، بل لقد فرض المسلمون في فترة من الفترات على كل راغب في الدخول في الإسلام أن يسلك مسلكًا لا يساعد من غير ريب على تيسير انتشار الإسلام ، ذلك أنهم طلبوا إلى الراغبين في اعتناق الدين الجديد أن يمثلوا أمام القاضي ويعلنوا أن إسلامهم لم يكن نتيجة لأي ضغوط ، وأنهم لا يهدفون من رواء ذلك إلى كسب دنيوي ” .[ انظر كتابها : دفاع عن الإسلام : ص ٣٥ ، بيروت ، دار العلم للملايين ، نقله إلى العربية منير البعلبكي .
تخطئة العلماء لقلاوون
وحين ألزم الملك المنصور قلاوون أهل الذمة في سنة ٦٨٠ ه الدخول في الإسلام فأسلموا
كرها ، خطأ العلماء المسلمون والقضاة في الدولة الإسلامية هذا الفعل من الملك وعقدوا مجلسًا لهيئة كبار العلماء وقرروا بأن هؤلاء كانوا مكرهين على الدخول في الإسلام ، وأنه لا يجوز وفقًا للقانون الإسلامي والعرف المعمول به إكراههم على الدخول في الدين فلهم الرجوع إلى دينهم فعاد أكثرهم إلى دينهم. [البداية والنهاية ط هجر (17/ 573)]
ابن تيمية والأسرى الذميون
تغلب التتار على الشام سنة ( ٧٢٨ ه) وأسر التتار مجموعة من المسلمين، وغير المسلمين من أهل الذمة، فذهب الشيخ ابن تيمية ليستأذن قطلوثا في إطلاق الأسرى ، فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرى المسلمين ، وأبى أن يسمح له بإطلاق أهل الذمة ، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال لهذا الحاكم :لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسرى من اليهود والنصارى ، فهم أهل ذمتنا ولا ندع أسيرًا لا من أهل الذمة ولا من أهل الملة . فلما رأى إصراره وتشدده أطلقهم له. [ الرسالة القبرصية، ص 40]