بخلاف ما قد يشاع، فإن الإسلام تشعّ في كل جانب من جوانبه قيمةُ الجمال والقيم الجمالية؛ بحيث تبدو لنا التربية الجمالية مطلبًا إسلاميًّا أصيلاً، وليست أمرًا هامشيًّا.

وهذه التربية الجمالية في الإسلام ذات امتداد واسع، وأفق أرحب؛ لا تقتصر على الجمال المادي المحسوس- بحسب الشائع لمعنى الجمال- وإنما تمتد لتشمل وبالأساس جمال المعنى والنفس والروح، وما يستلزمه من جمال الأفكار والقيم والمبادئ.. كما أنها لا تُعنَى فقط بجمال الظاهر، وإنما تضم له جمالَ الباطن، بل وتجعل لهذا الأخير القيمةَ العليا.

وبالرغم من أن الجانب الفني والجمالي- عمومًا- من أخطر الجوانب وأعمقها تأثيرًا على الفرد والمجتمع، “فإنه لم ينل حظه من العلاج؛ إما تحرُّجًا، وإما خطأً في تقدير قيمته وحيويته، وصريح نسبته الصافية الملتزمة إلى الإسلام”، كما يلاحظ د. محمد كمال جعفر (انظر له: آفاق الانبثاق الإسلامي لفلسفة الجمال والفن، مجلة “المسلم المعاصر”، ص: 92، العدد 11).

وربما تجيء الغفلة عن هذا الجانب المهم من أنه يتعلق بنوع من التحضر ما بعد استيفاء الحاجات الضرورية، وهي ما تسمى في الفقه بالحاجيَّات والتحسينات.

و”الجمال بوجه عام: صفة تُلَحظ في الأشياء وتبعث في النفس سرورًا ورضا. وبوجه خاص: إحدى القيم الثلاث [وهى: الحق، والخير، والجمال] التي تؤلف مبحث القيم العليا؛ وهى عند المثاليين: صفة قائمة في طبيعة الأشياء؛ وبالتالي هي ثابتة لا تتغير ويُصْبح الشيء جميلاً في ذاته أو قبيحًا في ذاته، بصرف النظر عن ظروف من يُصْدِر الحكم. وعلى العكس من هذا يرى الطبيعيون أن الجمال مصطلح تعارفت عليه مجموعة من الناس متأثرين بظروفهم؛ وبالتالي يكون الحكم بجمال الشيء أو قبحه باختلاف من يُصدر الحكم” (المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ص: 62).

فالجمال هو الحسن؛ سواء اتصل بالظاهر والمحسوسات، أو بالباطن والمعنويات.. ونستطيع أن نقول إن الجمال طريق من الطرق الدالة على الله سبحانه وتعالى، إذ نستدل من الصنائع الجميلة البديعة في الخَلق على الخالق المبدع، الذي أحسن كلَّ شيء خَلَقه وأبدعه وجمَّله..

ولهذا تكرر الأمر في القرآن الكريم بالسير في الأرض والالتفات للخَلْق وما به ظواهر، واتخاذ ذلك كله دليلاً إلى معرفة الله وإجلاله؛ مثل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى  الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (الأعلى: 1- 3) وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل: 88). وقوله: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ ۖ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} (الملك: 3- 5).

وإذا أردنا أن نوسع من إطار التربية الجمالية في الإسلامية، ونوضح تميزها، فيمكن أن نلفت النظر إلى شمول النظرة الإسلامية لمفهوم الجمال، بحيث يشمل في ثناياه جمال الخالق والمخلوق؛ وإن شئت فقل: الجمال بطرفيه؛ المطلق والمقيد، أو المحدود واللامحدود (آفاق الانبثاق الإسلامي، د. جعفر، ص: 113).

وبسبب من هذا الشمول الفريد، “قدَّم المفكر الإسلامي إسماعيل الفاروقينظريته للفن الإسلامي في ضوء ما وصفه بالفتح المعرفي الإسلامي في علم الجمال، الذي يقوم، أولاً وقبل كل شيء، على العلاقة القيمية الحميمة بين “التوحيد” و”الجمال”؛ إذ إن التوحيد هو مبدأ الجمال، وأُفُقُه الإبداعي في الفن الإسلامي ” (نظرية الفن الإسلامي عند المفكر إسماعيل الفاروقي، د. إدهام محمد حنش، بحث منشور على موقع مجلة “إسلامية المعرفة”).

إسماعيل الفاروقي

 

ولعلنا نلاحظ أن هذه المعاني الجامعة- أي الجمال بالنسبة للخالق والمخلوق، والجمال فيما يتصل بالظاهر والباطن- قد وردت في حديث نبوي واحد.. فقد روى عبد الله بن مسعود عن النبي أنه قال: “لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ؛ الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ” (صحيح مسلم).

فهذا الحديث الشريف ربط بين الذات العلية والجمال، وقرر أن الله “جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ”؛ حتى أجاز بعض العلماء إدراج “الجميل” ضمن أسماء الله الحسنى؛ كما ذكر النووي في شرحه.

بجانب ذلك، شمل الحديث الشريف نوعَيْ الجمال: الباطن والظاهر؛ فشرع لبس الثياب الحسن والنعل الحسن، ونهى عما يفسد جمال الباطن من الكبر، الذي فسَّره بإنكار الحق واحتقار الناس.

وأما قوله : “إِنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَال”، فقال فيه النووي: “اختلفوا في معناه؛ فقيل: إن معناه أن كل أمره سبحانه وتعالى حَسَنٌ جَمِيلٌ، وله الأسماء الحسنى وصفات الجمال والكمال. وقيل: جَمِيلٌ بمعنى مُجَمِّل كَكَرِيمِ وَسَمِيع بمعنى مُكَرِّم وَمُسَمِّع. وقال الإمام أبو القاسم القُشَيرِيُّ رحمه الله: معناه جَلِيل. وحكى الإمام أبو سليمان الخَطَّابِيُّ أنه بمعنى ذِي النُّور وَالبَهْجَة أي مَالِكهما. جَمِيل الأفعال بِكُم، بِاللُّطْفِ وَالنَّظَر إليكم، يُكلِّفكم اليسيرَ من العمل، ويُعِين عليه، وَيُثِيب عليه الجزيل، ويَشكر عليه” (شرح النووي على صحيح مسلم، 2/90).

فالتربية الجمالية، والارتقاء بعالم الأفكار وبعالم الأشياء؛ مطلبٌ إسلامي.. وتوجيهات الإسلام في ذلك تصعب على الحصر.. وكلُّ ما يرتقي بالذوق ويرهف الحس ويرقق المشاعر، يمكن أن نرى للإسلام فيه توجيهًا وكلمة.

فالإسلام في عقائده قرر للإله الذي يجب أن نتوجه إليه وحده بالربوبية والعبودية جملةً من الصفات والأسماء، هي غاية في الجمال؛ لا من حيث إنها ترسم صورة مادية مزركشة للإله كما تفعل بعض الفلسفات والمذاهب الضالة، بل من حيث إنها صفات وأسماء تُنزِّه مقام الألوهية عما سواه مما هو خاص بالإنس والجن وغيرهما؛ فالله سبحانه وتعالى كما وصف نفسه في كتابه الكريم: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11)، و{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (الأنعام: 103)؛ بل {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (الحشر: 24).

وعبادات الإسلام يتبدَّى جمالها فيما تفرضه على المسلم من طهارة الظاهر والباطن، فيجب عليه في الصلاة- مثلاً- تطهير الظاهر بأن يكون البدن والثوب والمكان خاليًا من النجاسات، بل شُرع التطيب والتزين. وتطهير الباطن بأن تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر. وكذا في الزكاة؛ حيث أمرنا القرآن الكريم بقوله: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} (البقرة: 267).

كما أن أخلاقيات الإسلام قد بلغت الذروة من الجمال، من حيث إنها دعت إلى مكارم الأخلاق، وإلى العفو والصفح ومقابلة السيئة بالحسنة، وإلى معاملة الناس بمثل ما نحب أن يعاملونا به، وإلى التراحم والتواد والتغافر؛ والنصوص في ذلك معروفة واضحة.. وقد جُمعت هذه الأخلاق في قوله تعالى: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199). رُوي عن جعفر الصادق أنه قال: “ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها”.

وأما بالنسبة لتشريعات الإسلام، فجمالها مرده إلى أنها وازنت بين المثالية والواقعية؛ فلم تكلف الناس شططًا، ولم ترهقهم عسرًا، ولم تشق عليهم.. بل وازنت في وسطية- هي سمة الإسلام عمومًا- بين حقوق الفرد والمجتمع، وواجبات كلٍّ منهما على الآخر؛ بخلاف مذاهب وفلسفات اشتطت ناحية هذا أو ذاك، فكان الشقاء والشِّقاق.