نشطت الكتابة في الفنون منذ القرن التاسع عشر ثم اشتدت وتكاثفت منذ مطالع القرن العشرين مع إنشاء “مدرسة الفنون الجميلة” بمصر، و”الفنون الجميلة” كانت تعني في اصطلاحهم خمسةَ أنواع: التصوير، والحفر، وهندسة البناء، والموسيقى وتوابعها، والشعر والأدب، ثم أضاف المتأخرون إليها سادسًا هو التمثيل، وقد قسموها إلى فن منظور وآخر مسموع.

ويمكن رَصد ثلاثة مسالك في الانشغال بالفنون:

الأول: نشأ في سياق الحديث عن النهضة والإصلاح والخوض في المقايسات على الغرب ونهضته وتخلف العرب والمسلمين وعلله، ووُجدت مقولةٌ مُفادها أن الأخذ بالفنون سرُّ التقدم، وأن التقاعس عنها هو سر التأخر، فقد كان من الواضح لدى جيل القرن التاسع عشر ومَن بعده أن الانشغال بالفنون هو جزءٌ من الانشغال بالتمدن وأحواله، خاصةً مع بروز الكتابة في الخِطط وأحوال التمدن لدى عدد من رموز الإصلاح في ذلك الوقت.

المسلك الثاني كان انشغالاً فقهيًّا: بعضه إصلاحيٌّ واكبَ تلك النظرة الحادثة للفنون وتأثر بها فأصدر محمد عبده 1905 م ورشيد رضا  1934 م وغيرهما فتاوى انفتحت على الفنون وأعادت النظر في الموروث الفقهي تجاهها، وبعضُه تقليديٌّ واجه نازلة الصور الفوتوعرافية مع اختراع آلة التصوير وشيوع الحاجة إلى الصورة، فنهض بمنطق مفتي التقليد الذي يبحث عن حكم الله في تلك النازلة وفق قواعده وأصوله، كما فعل محمد بخيت المطيعي 1935 م وغيره.

المسلك الثالث بَحَث في الفنون عن مجال معرفي وفلسفة جديدة متأثرًا بتطور حقل الفن نفسه كمجال وتخصص علمي وباحثًا عن رؤية إسلامية تميزه عن الفنون الغربية المنشأ.

لم تكن تلك المسالك منفصلة تمامًا، فالمسلك الأول والثاني يتقاطعان وليسا متعاقبين بخلاف الثالث، ولكن هموم أصحاب تلك المسالك ومداخلهم لموضوع الفنون كانت تتراوح بين إبراز الفنون التي أبدعها العرب والمسلمون واكتشاف هذا الجانب المخفيّ من حضارتنا في ضوء تبلور الحقل الغربي الجديد، والتقويم النقدي للموروث الفقهي أو إعادة فهمه في ضوء المعرفة الفنية الحادثة، وضرورة التعامل مع النوازل الجديدة التي تنتمي إلى هذا اللون المعرفي الجديد بمنطق فقيه التقليد، ثم ارتقى الأمر إلى مرحلة مساوقة الانشغال الغربي بالفنون ومحاول بناء معرفة فنية إسلامية موازية تعبر عن المنظومة القيمية والأخلاقية الإسلامية. أما المنحى المقاصديّ فقد كان حاضرًا بقوة في المسلكين الثاني والثالث؛ ذلك أن تدقيقات فقهاء التقليد لم تكن لتسعف كثيرًا في تلك الرغبة بالانفتاح على الفنون.

ولكن الفنون جنسٌ تندرج تحته أنواعٌ، ولا يمكن بناء موقف فقهي أو مقاصدي تجاهها بالعموم كما حاول د. أحمد الريسوني أن يفعل في بحثه الموسوم “المسألة الفنية في النظر المقاصدي”؛ فلكل نوع منها نظره الخاص ومقاصده، وهذا إشكال رئيس في بحثه؛ فقد أطلق حكمًا كليًّا على جنس الفنون، وكان في كل مبحث يُدخل نوعًا جديدًا منها من دون ضبط أو اتساق؛ وهذا ناتج عن عدم تحريره لمفهوم الفنون، والظاهر أنه يستحضر – في ذهنه معظم الوقت – الغناء وتوابعه، ويدل على ذلك أن القسم الثاني من بحثه إنما دار على “توظيف” هذا النوع تحديدًا، فالباحث لم يتعرض للكلام عن التماثيل والتمثيل والرسم باليد وغير ذلك مما أصبح طاغيًا في الواقع في الساحات والمتاحف وأماكن التعليم ومجالاته.

التفكير بالفنون إسلاميًّا
د. أحمد الريسوني

 

و”الفن” مفهومٌ محلّ نزاع فكري وثقافي يدور حول مسائل تحديد الذوق وقوانين القيمة والتراتب الاجتماعي، وينقسم تاريخه بوصفه مصطلحًا إلى استعمالين:

الأول: استعمال مبكر حين كانت كلمة “فن” تُطلق على جميع أنواع العلوم بوصفها فنونًا، وقد قسم محمد بن إسحاق النَّديم كتابه “الفهرست” إلى مقالات، وكل مقالة إلى فنون، وجعل الفن الثالث من المقالة الثالثة في “أخبار الندماء والجلساء والأدباء والمغنيين والصفادمة والصفاعنة والمضحكين وأسماء كتبهم”، ونحو هذا وُجد في اللغات الأجنبية حيث أُطلق الفن على “جميع المهارات الحرفية والأعمال والتقنيات الخبيرة والتكنولوجيات والمهن”، أي “الفن العادي”، وهو ما يُرمز له في الإنجليزية بالحرف الصغير (art).

الثاني: استعمال أَحدثُ هو الذي أضفى على مصطلح “الفن” إيحاءات أكثر سموًّا وزهوًّا، أي “الفن الرفيع” الذي يُعبر عنه بالحرف الكبير (Art)، وهو مفهوم مقترن “بانبثاق الفنان دورًا اجتماعيًّا وحرفيًّا متميزًا، وعبادةِ العبقرية الفنية واستيحائها ورفع العمل الفني إلى رتبة شبه مقدسة كموضوع وثني، ونشأة الجماليات والحكم الجمالي كملَكات متميزة مُعدّة لتصور الأعمال الفنية”. ويصعب تحديد موضع الحد الفاصل بين الاستعمال العام المبكر والمعنى الجمالي الحديث للفنون الجميلة، بل إن ثمة مناطق رمادية بين المعنيين مثل: الأزياء والموسيقى الشعبية والرقص والأفلام التي ما زالت منزلتها كفن رفيع أو فن هابط محل خلاف.

لا أشك أن استحضار الفقيه للمعاني السابقة سيؤثر في أحكامه وتصوره للفنون، وإن كان النظر الفقهي عامة ينشغل بالتفكير بالفعل الجزئي والفرديّ، ولا يسائل الأنساق والمعاني الكبرى؛ فهو ينشغل بالفعل القريب والمحدود وبقصد الفرد ونواياه أكثر مما ينشغل بالتفكير في المجال نفسه الذي يقع فيه الفعلُ المعنيُّ أو ينتمي إليه، وهو في حالتنا مجال الفن بمعناه الحديث، أي الفن الذي ارتبط ظهوره بما سمي “عصر النهضة” الغربي والذي أنتج ظهور النزعة الإنسانية وإعادة اكتشاف الأزمنة الكلاسيكية.

فالفن في السياق الأوروبي أو باعتباره مفهومًا غربيًّا (الفن الرفيع) يُرجعه البعض إلى القرن الثامن عشر مع انبثاق الجماليات كفرع متميز من الفلسفة، ويُرجعه آخرون إلى القرن التاسع عشر مع الحركة الرومانسية وصعود الفردية البورجوازية وعبادة العبقرية البوهيمية والطليعية، ولكنه في القرن العشرين أصبح مصطلحًا تكريميًّا يضفي – تلقائيًّا – قيمةً على أي شيء يشير إليه، وقد وُجد في السياق الأوروبي نفسه أطروحات مقابلة تتحدث عن نهاية نظرية الفن وأن الجماليات مسعى مفلس فكريًّا وأن مفهوم الفن تم تَسييله عن طريق أشكال جديدة من الثقافة البصرية أو المادية، أي أن صناعة الثقافة حلت محل الفن، وتم الحديث عن الفن كأيديولوجيا تعكس المصالح النخبوية في سياق رأسمالي.

وينبغي للفقيه أن يحذر ويدقق في كل هذه المعاني، دون أن يغيب عنه أن الحضارة الإسلامية عرفت ألوانًا عديدة من الفنون من أبرزها الفنون الزخرفية والتصوير وأشكال العمارة وغيرها، وقد حاول بعض المستشرقين بحث تلك الفنون والتأريخ لها، ورصدَ كيف أن الفن الإسلامي كان وسيلة لإدراك معان أسمى تلخصت في أربعة مستويات:

 الأول : الجاذبية الجمالية، فالجمال والتناسق هو الذي دفع لصنع هذا العمل الفني ومنحه جاذبيته، والثاني: تلبية الحاجات النفسية، فالعمل الفني يخاطب الحساسيات الإنسانية.

والثالث: النظرة الأخلاقية، فإذا كان الشخص العادي يكتفي بهذين المستويين، فإن أناسًا آخرين من ذوي الطبائع التأملية والدينية قد يشعرون بالسرور الداخلي من خلال النظر إلى الفن بطريقة أعمق هي النظرة الأخلاقية التي ترى الفن صورةً للفضيلة، وكان الإمام الغزالي قد أرجع حسن نَقش النقاش وبناء البنّاء إلى أنه يكشف عن الصفات الباطنة التي يَرجع حاملها إلى العلم والقدرة، أي أن صورة الفنان المسلم هنا مخالفة تمامًا لصورة الفنان البوهيمي الذي عرفه العصر الرومانسي الأوروبي.

والرابع: النظر إلى الفن الإسلامي نظرة ميتافيزيقية خاصة كما لدى الصوفية، وهذه النظرة تتجاوز المظهر السطحي للأشياء إلى “جمال الصورة الباطنة المُدرَكة بعين القلب ونور البصيرة” كما يقول الإمام الغزالي، وهنا يصبح ثمة توازٍ بين الصنعة البشرية والصنعة الإلهية وأن الأولى وسيلة لإدراك أسرار عالية، وتكون الصور القبيحة ليست دليلاً على قبحه وإنما هي دليل على فضله كما يقول جلال الدين الرومي، ومما يتصل بهذا أن فكرة الجمال لم تَعُد مركزية في بعض كليات الفنون على الأقل، بحيث صار يتم الإلحاح على ضرورة وجود فكرة ثاوية وراء الفن، سواءٌ كان رسمًا أو نحتًا أو غيرهما، فالمحرك والباعث هو الفكرة التي يحاول الفنان نقلها والتعبير عنها، سواءٌ كانت من مكنونات نفسه أم انعكاسًا لقضايا اجتماعية.

لهذا كله قلنا: إنه من المُشْكِل جدًّا التعامل مع الفنون على أنها مسألة بسيطة، كما لا يليق إطلاق حكمٍ كليّ عليها بمعزل عن كل تلك الدلالات والتحولات التي يجب على الفقيه وغيره دَركها والوعي بها، وقد وسّعت القول في هذا في دراسة لي نشرت ضمن أعمال ندوة الفنون ومقاصدها في مركز الفرقان بلندن  2017 م .

 

الفيلم الوثائقي تعاشيق الفن الإسلامي