إن الأمة بحاجة اليوم أن تتذكر اللحظة التي انتقلت فيها من العدم إلى الوجود، اللحظة المؤسسة لهويّتها ولكيانها، فهذا التذكّر ضرورة لتجاوز ما بات يُعرف اليوم بأزمة الهويّة.

إننا أمة اجتمعت وتكوّنت وتوحّدت على كلمة التوحيد الخالدة «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وعبثاً يحاول البعض إيجاد أسس جديدة أو بديلة، والتجارب القريبة كلها أثبتت فشلها، والكلام هنا عن «الأمّة» وليس عن «الدولة»، التي هي إطار سياسي يتشكل بحسب الظروف التاريخية والجغرافية والاجتماعية، وقد تتدخل فيه السياسات الخارجية والاتفاقات الدولية، كما هو الشأن في دول «سايكس بيكو» وغيرها.

إننا حينما نقرأ القرآن ونتوجّه في صلاتنا إلى قبلة واحدة، نشعر كأننا نرتفع فوق هذه الحدود السياسية والجغرافية، وهذا الشعور هو الذي نحتاجه اليوم، بشرط أن يتحوّل إلى ثقافة ووعي عام، وليس مجرد «طقوس» وحركات شكلية خاوية.

اقرأ أيضا:

وإذا كانت الثقافة «القومية» أو «الوطنيّة» قد حجّمت إلى حدٍّ كبير من هذا الشعور، فإن الثقافة الطائفية والمذهبية الضيّقة قد ساهمت أيضاً في هذا التحجيم، حيث صار الولاء للاجتهادات الجزئية والمذاهب الفرعية والجماعات السياسية والطرق الصوفية مقدّماً على الولاء لأصول الإسلام وثوابت الوحي، وفي بعض الأحيان تكون شخصية «الإمام» أو «الشيخ» حاضرة في أذهان «الأتباع» وأدبياتهم ومدائحهم، أكثر حتى من حضور النبيّ -عليه الصلاة والسلام- نفسه.

لا شك أن هناك عوامل كثيرة اشتركت في تكوين هذه الظاهرة، بينها: الغلوّ، والجهل، والتقليد الأعمى، لكن هناك سبب آخر لم يتنبه لخطورته إلا القليل، وهو أن الداعية الذي يبدأ دعوته محاولاً التأسّي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيبدأ بالأقرب فالأقرب، حتى تتشكل حوله دوائر تتسع شيئاً فشيئاً، ثم يجد نفسه -من حيث يريد أو لا يريد- أنه أصبح محوراً ومركزاً لهذه الدوائر، فإذا بدأ داعية آخر بالدعوة في مكان آخر، فإن الصورة نفسها ستتكرر، وهكذا نكون أمام دوائر مختلفة وولاءات متعددة، كل جماعة تدور حول محورها ومؤسسها، هكذا ظهرت جماعة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وجماعة الشيخ حسن البنا، وجماعة الشيخ المودودي، وجماعة الشيخ سعيد النورسي.. إلخ، وهذه الظاهرة وإن كانت طبيعية ومقبولة في بداية تأسيسها، فإنه مع تعاقب الأجيال والجنوح عادة نحو الاستقطاب والولاءات الضيقة سنكون أمام مشكلة حقيقية.

إن الداعية الذي يبدأ الدعوة في بيئة ما، ليس شرطاً أن يكون الأعلم أو الأفضل حتى في بيئته أو أتباعه، فكيف بالفضاء الأوسع للأمة، وهذا بخلاف شخصية النبيّ -عليه الصلاة والسلام- إذ لا يمكن أن يكون في أصحابه، ولا في أي جيل من أتباعه من هو أولى بالاتباع والتأسّي منه، وعليه فإن العالم أو المصلح أو الداعية، من واجبه أن يحيي في الأمة دعوة نبيّها -عليه الصلاة والسلام- بشرط أن يبقى الولاء والاتّباع ومعيار التفاضل بين الناس موحّداً ومستنداً إلى قاعدة واحدة في الولاء والبراء.

أما السماح بوجود رموز دينية يدور حولها ولاء وبراء غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهذا من شأنه أن يضرب هوية الأمة الجامعة، ويضرب أساس وحدتها، مهما كان أولئك الرموز.