الحيل هي: ما يُتَوصل به إلى مقصود بطريق خفي، وهذا المقصود إن كان مشروعا سميت حيلا شرعية أو مخارج شرعية، وإذ كان هذا المقصود محرما سميت حيلا محرمة، أو حيلا بإطلاق هكذا. إذ غلب إطلاق الحيل على النوع الأخير المحرم ولذلك قال الطاهر بن عاشور لما عرف الحيل هي: (إبراز عمل ممنوع شرعاً في صورة عمل جائز، أو إبراز عمل غير معتد به شرعاً في صورة عمل معتد به …”

ثم قال عن الحيل الشرعية: ” أما السعي إلى عمل مأذون بصورة غير صورته أو بإيجاد وسائله فليس تحيلاً ولكنه يسمى تدبيراً أو حرصاً أو ورعاً”. ولا مشاحة في الاصطلاح، ويمكن تقسيم الحيل إجمالا إلى قسمين رئيسيين:

أولهما:الحيل المحرمة كحيلة أَصْحَابِ السَّبْتِ الذين قال الله تعالى في شأنهم: ” وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ” الأعراف، الآية (163)

فاحتالوا على حكم الله إذ منعهم من الصيد في السبت،فوضعوا شباكهم يوم الجمعة وتركوها إلى يوم الأحد.

وَمنها ما جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجمَلوها “أي أذابوها” فباعوها.

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا النوع من الحيل الذي يقصد به إبطال حكم الشارع وتجاوزه وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: “ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة“. رواه البخاري.

قال ابن القيم: ” وهذا نص في تحريم الحيلة المفضية إلى إنقاص الزكاة أو التنقيص منها بسبب الجمع أو التفريق…”.

وأما النوع الثاني من الحيل فهو ما يسمى بالحيل الشرعية أو المخارج وهذا لا حرج فيه ومنه: حَدِيثُ  أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،  وأَبِي هُرَيْرَةَ  : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ،  فَجَاءَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ،  فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا ؟ “،  فقَالَ : إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِصَاعَيْنِ،  وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثِ،  فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” لَا تَفْعَلْ،  بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ،  ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا” رواه البخاري. فلما منعه من الصورة الربوية المحرمة وهي مبادلة صاع رديء من التمر بصاعين ذكر له المخرج الشرعي أو الحيلة المشروعة ليصل إلى غايته دون الوقوع في الربا، وهي أن يبيع تمره الرديء ويشتري بثمنه من التمر الجيد غايته.

ولعل من جملة ذلك -أي المخارج الشرعية- أكثر المعاملات التمويلية التي تتبناها مؤسسات التمويل الإسلامي كالتورق العادي، والعكسي “مقلوب التورق”، والمرابحة للآمر بالشراء، والاستصناع الموازي، والسلم الموازي، والايجار المنتهي بالتمليك، والمشاركة المتناقصة، وغيرها.

ولكن هذه البدائل والمخارج التي وضعت لتجنب الربا أخذا أو إعطاء تسربت الحيل إلى بعضها، وصارت معاملات صورية بحته. فالمسمى المعلن هو أنها: عقد بيع،  أو إجارة،   أو مشاركة. والحقيقة أنها: نقود بنقود متفاضلة، فهي كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة.

ونضرب مثالا لذلك بإحدى المعاملات الشائعة بالبنوك الإسلامية التي تسربت إليها الحيلة، فأفرغتها من مضمونها وصارت شكلا صوريا فحسب.

 معاملة التورق فهي من حيث الأصل بديل مشرع ومخرج فقهي معتبر يتيح للمرء الحصول على حاجته دون أن يقع في الربا حيث إن البائع يعطيه سلعة يربح فيه من خلالها،   وقد أحل الله البيع وشرع الربح فيه فقال:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ” النساء الآية: (29)

فإذا ملك المشتري السلعة باعها لطرف ثالث، وانتفع بثمنها في حاجته جاء في الروض المربع: “ومن احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بأكثر ليتوسع بثمنه فلا بأس،   وتسمى مسألة التورق، وذكره في الإنصاف وقال وهو المذهب وعليه الأصحاب”.

وقد كانت البنوك الإسلامية ومؤسسات التمويل الإسلامي تلتزم بذلك وتراعي هذه الضوابط فتشتري سلعة: سيارة أو أسهما أو غيرها، وتبيعها للآمر بالشراء وتسلمه إياها ليبيعها هو في السوق لطرف ثالث. وهذه معاملة صحيحة ومخرج شرعي مقبول جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية  (14/147) : ” جمهور العلماء على إباحته سواء من سماه تورقا وهم الحنابلة ،  أو من لم يسمه بهذا الاسم وهم من عدا الحنابلة . لعموم قوله تعالى : (وأحل الله البيع) ولقوله صلى الله عليه وسلم – لعامله على خيبر: (بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا) [ و”الجمع” و “الجنيب” نوعان من أنواع التمر] . ولأنه لم يظهر فيه قصد الربا ولا صورته …” انتهى.

وخلاصة القول أن التورق الذي يتم عن طريق مؤسسات التمويل الإسلامي غالبا  له ثلاث صور :

الأولى: أن يشتري البنك السلعة شراء حقيقيا، ثم يبيعها على العميل بالأقساط وإذا ملكها العميل وحازها، باعها لغير البنك بثمن حال إذ غرضه هو الحصول على المال،   وهذه المعاملة هي معاملة التورق العادي الجائز.

الصورة الثانية : ألا يشتري البنك السلعة، وإنما يدفع ثمنها عن العميل، ثم يستوفي منه ما دفعه عنه من الثمن مقسطا بزيادة،   وهذه المعاملة محرمة ؛ لأنها حيلة على ارتكاب الربا، فحقيقتها كون البنك أقرض العميل ثمن السلعة ثم استوفاه منه بزيادة .

الصورة الثالثة : هي ما يسمى بالتورق المنظم: وهو “قيام المصرف بعمل نمطي يتم فيه ترتيب بيع سلعة ( ليست من الذهب أو الفضة ) من أسواق السلع العالمية أو غيرها على المستورق بثمن آجل على أن يلتزم المصرف – إما بشرط في العقد أو بحكم العرف والعادة – بأن ينوب عنه في بيعها على مشتر آخر بثمن حاضر ، وتسليم ثمنها للمستورق” هكذا جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي حول هذا النوع من التورق.

وهذه الصورة من التورق هي الشائعة اليوم مع الأسف والعميل فيها إنما يوقع أوراقا تقتضي توكيل البنك بقبض السلعة عنه وببيعها عنه أيضا في السوق العالمية ثم يضع البنك النقود في حساب العميل. فتسربت الحيلة إلى هذه المعاملة حتى صارت عملا نمطيا صوريا، ولذا أفتى عدد كثير من أهل العلم بتحريمها  كما صدر عن مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي قرار بالتحريم أيضا. ومما تضمنه قرار المجمع:” عدم جواز التورق الذي سبق توصيفه في التمهيد للأمور الآتية :

1- أن التزام البائع في عقد التورق بالوكالة في بيع السلعة لمشتر آخر أو ترتيب من يشتريها يجعلها شبيهة بالعينة الممنوعة شرعاً ، سواء أكان الالتزام مشروطاً صراحة، أم بحكم العرف والعادة المتبعة .

2- أن هذه المعاملة تؤدي في كثير من الحالات إلى الإخلال بشروط القبض الشرعي اللازم لصحة المعاملة.

3- أن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويل نقدي بزيادة من البنك للمستورق ، وعملية البيع والشراء تكون صورية في معظم أحوالها .

وهذه المعاملة غير التورق الحقيقي المعروف عند الفقهاء ،  وقد سبق لـ ” المجمع ” في دورته الخامسة عشرة أن قال بجوازه بمعاملات حقيقية وشروط محددة بينها قراره؛ وذلك لما بينهما من فروق عديدة فصلت القول فيها البحوث المقدمة”.

وسنبين في مقال لاحق بإذن الله بعض الحيل الأخرى التي تسربت إلى معاملة التورق،  مع ذكر نماذج أخرى من المعاملات التي تسربت إليها الحيل الممنوعة كعقد الإيجار المنتهي بالتمليك،  والاستصناع، وفسخ الدين في الدين وغيرها.

كما سنبين بعض الأسباب التي أدت إلى تسرب تلك الحيل الممنوعة إلى هذه المعاملات.