الغيرة غريزة فطرية، وطبيعة جبلية خلقها الله في بعض مخلوقاته، وهي صفة كمال ما لم تزد عن حد الاعتدال. فهي “إذا كانت في ميزان الاقتصاد حمدت بأن لا يتغافل المرء عن مبادئ الأمور التي تخشى غوائلها، ولا يبالغ في إساءة الظن وتجسيس البواطن”.

عليك بأوساط الأمـــــــــــــور فإنها … طريق إلى نهج الصواب قويم

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد … كلا طرفي قصد الأمور ذميم

يقول المناوي في فيض القدير 4/418 هي:” مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص وأشد ما تكون ما بين الزوجين.

ومن ذلك ما جاء عند البخاري وغيره من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: قال: “كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلَتْ إِليه إِحدى أُمهات المؤمنين بِصَحْفَة فيها طعام، فَضَرَبتِ التي هو في بيتها الصَّحفَة، فانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فِلَق الصَّحفَةِ، ثم جعل يجمع فيها الطعام ويقول: “غَارتْ أُمُّكم، غارتْ أُمُّكم”.

وفي رواية الترمذي أن النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “طعام بطعام، وإِناء بإناء”.

هنا عائشة رضي الله عنها أصابتها الغيرة فكسرت الإناء لكنها لم تجاوز ذلك، وهذا من الغيرة التي عفي عنها للنساء في كثير من الأحكام لعدم انفكاكهن منها حتى قال مالك وغيره من علماء المدينة: يسقط عنها الحد إذا قذفت زوجها بالفاحشة على جهة الغيرة، قال القاضي عياض: واحتج مالك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما تدري الغيراء أعلى الوادي من أسفله.

وقال الطبري وغيره من العلماء: الغيرة مسامح للنساء فيها لا عقوبة عليهن فيها لما جبلن عليه من ذلك، كما ذكر ابن مفلح في الآداب الشرعية.

لكن ما يسترعي الانتباه هنا هو هذا الموقف التربويُّ العظيم من النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف تعامل مع غيرة عائشة، إذ لم يزجر ولم يعنف بل قالت عائشة رضي الله عنها كما عند ابن ماجه: “فما رأيت ذلك في وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم.

ما ذا لو كُنتَ مكانه ومعك أصحابك وضيوفك؟، ربما سببت وشتمت وضربت وطلقت، وقلت: كيف تهان كرامتي، وكيف تنتقص رجولتي..

والحكمة هنا وما ينبغي فعله في هذا الموقف ونحوه هو: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم. فقد عالج الأمر معالجة تربويّة حكيمة، يتبين منها رقي تعامله  صلى الله عليه وسلم مع الزوجة، وتقدير نفسيتها وما جُبلت عليه من غيرة قد تجعلها تخطئ الصواب في التصرف أحيانا، فلم يعاتبها وأعذرها فيما فعلت ولم ينته إلى هذا الحد فحسب، بل نبه أصحابه إلى ما حملها على هذا التصرف فقال: “غَارتْ أُمُّكم، غارتْ أُمُّكم”.

وفي ذلك اعتذار منه – صلى الله عليه وسلم – عنها لئلا يحمل صنعيها على ما يذم، بل يجري على عادة الضرائر من الغيرة؛ وهي مما يحسن في هذا الموقف ولا يذم  فإنها مركبة في النفس بحيث لا يقدر المرء على دفعها كما ذكر الطيبي في المشكاة.

أين هذا التعامل الكريم، وهذه اللطافة وحسن المعاشرة؟، ممن يظن أن فرض رجولته وتمكين قوامته على المرأة لا يتأتى إلا بالغلظة والفظاظة واللوم لأتفه الأسباب وأيسر الأخطاء.

ينبغي ألا يغيب عن بال الزوج هذا الموقف وتلك الجملة: “غارت أمكم غارت أمكم”  حين تغار زوجته وتعاتبه وتغضب منه وتلح عليه بالسؤال تلو السؤال، وليعلم أنها إنما فعلت ذلك لفرط حبها له.

ربما تخطئ في حقه أحياناً كما أنه هو قد يخطئ في حقها أحيانا أخرى وربما يغار عليها لحبه إياها، وإن كان ذلك كله ينبغي ألا يجاوز حد الاعتدال، فمن الغيرة ما قد يكون شعبة من الجنون أو شبيها به كما يقول أصبغ رحمه الله.

فدَع عنكَ ذكر العامريةِ إنني ** أغارُ عليـــــها من فــــم المتــــــــكلمِ

أغار عليها من أبيها وأمـها ** ومـن خـطوةِ المسواكِ إن دار في الفمِ

ومن طريف ما يذكر في مقام الغيرة رؤيا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه لقصر عمر في الجنة، فقد ذكر أحمد في فضائل الصحابة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أريت أني أدخلت الجنة، فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة، وأريت خشفا بين يدي، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا بلال، ورأيت جارية بفناء قصر أبيض، قلت: يا جارية، لمن هذا القصر؟ قالت: لشاب من قريش، فقلت: لأي قريش؟ قالت: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخله فذكرت غيرتك يا عمر “، فقال عمر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وعليك أغار؟” وفي رواية أن عمر بكى تأثرا من كون النبي صلى الله عليه وسلم يهاب غيرته.