د.عبد الوهاب المسيري رحمه الله تعالى5>
ترتبط المناهج العلمية في دراسة الإنسان والظواهر الكونية بإشكالية الموضوعية والذاتية، فإذا كان الإنسان كيانًا ماديًا؛ فبالإمكان رصده بشكل ماديّ برَّانيّ/ خارجيّ، أما إذا كان الإنسان كيانًا مركبًا يحوي عناصر مادية ترد إلى عالم الطبيعة / المادية وعناصر غير مادية؛ فالرصد البرَّاني الموضوعي الكافي يصبح غير كافٍ.
ويُشتق “الموضوع Object” من الفعل اللاتيني “أوبجباكتاري objectary” ومعناه يعارض أو يلقي أمام، المشتق من فعل “جاكري Jacere” بمعنى “يُلقى بـ” و “أوب Ob” بمعنى ضد.
والموضوع: هو الشيء الموجود في العالم الخارجي، وكل ما يُدرَك بالحس ويخضع للتجربة، وله إطار خارجي، ويُوجد مستقلاً عن الإرادة والوعي الإنساني.
وعلى الجانب الآخر، تشتق الذات بالإنجليزية “subject” عن نفس أصل كلمة object، ولكن بدلاً من “أوب Ob” التي تضاف لكمة “Object” يضاف مقطع “سب sub” بمعنى تحت أو مع. وينسب الذاتي إلى الذات، بمعنى أن ذات الشيء هو جوهره وهويته وشخصيته، وتعبر عما به من شعور وتفكير، والعقل أو الفاعل الإنساني هو المفكر وصاحب الإرادة الحرة، ويُدرِك العالم الخارجي من خلال مقولات العقل الإنساني.
تُعبِّر الموضوعية عن إدراك الأشياء على ما هي عليه دون أن يشوبها أهواء أو مصالح أو تحيزات، أي تستند الأحكام إلى النظر إلى الحقائق على أساس العقل، وبعبارة أخرى تعني الموضوعية الإيمان بأن لموضوعات المعرفة وجودًا ماديًا خارجيًا في الواقع، وأن الذهن يستطيع أن يصل إلى إدراك الحقيقة الواقعية القائمة بذاتها (مستقلة عن النفس المدركة) إدراكًا كاملاً. وعلى الجانب الآخر، كلمة الذاتيّ تعني الفردي، أي ما يخص شخصًا واحدًا، فإن وُصِف شخص بأن تفكيره ذاتي فهذا يعني أنه اعتاد أن يجعل أحكامه مبنية على شعوره وذوقه، ويُطلق لفظ ذاتيّ توسُّعًا على ما كان مصدره الفكر وليس الواقع.
ويعتبر الذاتيّ في الميتافيزيقا رد كل وجود إلى الذات، والاعتداد بالفكر وحده، أما الموضوعيّ فهو رد كل الوجود إلى الموضوع المبدأ الواحد المتجاوز للذات. أما في نظرية المعرفة، فإن الذاتية تعني أن التفرقة بين الحقيقة والوهم لا تقوم على أساس موضوعيّ، فهي مجرد اعتبارات ذاتية، وليس ثمة حقيقة مطلقة، أما الموضوعية فترى إمكانية التفرقة. وفي علم الأخلاق، تذهب الذاتية إلى أن مقياس الخير والشر إنما يقوم على اعتبارات شخصية؛ إذ لا توجد معيارية متجاوزة، أما الموضوعية فترى إمكانية الوصول إلى معيارية. وفي عالم الجمال، تذهب الذاتية إلى أن الأحكام الجمالية مسألة ذوق، أما الموضوعية فتحاول أن تصل إلى قواعد عامة يمكن عن طريقها التمييز بين الجميل والقبيح.
وترتبط إشكالية الموضوعية والذاتية بالمفارقة بين الظاهرة الطبيعة والظاهرة الإنسانية. فقد طغت التصوُّرات المادية التي تُوحّد بين الظاهرتين في الفلسفة الغربية، ويعود إسهام علماء مثل وليام ديلتاي (1833 – 1911) إلى محاولة التنبيه إلى أن ثمة فارقًا جوهريًا بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية، فقد أكد أن معرفة الإنسان من خلال الملاحظة البرّانية، وتبادل المعلومات الموضوعية المادية عنه أمر غير ممكن؛ فهو كائن ذو قصد، أي أن سلوكه تحدده دوافع إنسانية جُوَّانية (معنى – ضمير – إحساس بالذنب – رموز – ذكريات الطفولة – تأمل في العقل) وبالتالي فهناك مناهج مختلفة لدراسة كلتا الظاهرتين.
وقد قام ديلتاي بنقل مصطلح الهرمنيوطيقا – وهي مشتقة من الكلمة اليونانية “Hermeneuin” بمعني يُفسِّر أو يوضِّح – من علم اللاهوت – حيث كان يقصد بها ذلك الجزء من الدراسات اللاهوتية المعنى بتأويل النصوص الدينية بطريقة خيالية ورمزية تبعد عن المعنى الحرفي المباشر، وتحاول اكتشاف المعاني الحقيقية والخفية وراء النصوص المقدسة- إلى الفلسفة والعلوم الإنسانية، حيث استخدمه للإشارة إلى المناهج الخاصة بالبحث في المؤسسات الإنسانية، والسلوك الإنساني باعتباره سلوكاً تحدده دوافع إنسانية جُوَّانية يصعب شرحها عن طريق مناهج العلوم الطبيعية.
وانطلاقًا من ذلك يُفرق بين التفسير والشرح. بينما يشير التفسير إلى الاجتهاد في فهم الظاهرة، وجعلها مفهومة إلى حد ما من خلال التعاطف معها وفهمها أو تفهمها من الداخل، يقصد بالشرح إدخال الظاهرة في شبكة السببية الصلبة المطلقة والقوانين الطبيعية، وكشف العلاقة الموضوعية بين السبب والنتيجة.
ولقد انعكست إشكالية مناهج دراسة الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية على الدراسات والبحوث من حيث علاقتها بصياغة الفرضيات – هي مقولة أو تقرير مبدئي لما يعتقد أنه علاقة بين متغيرين أو أكثر، ويعكس الفرض تكهنات الباحث بالنسبة لنتائج البحث المرتقبة. فقد اتجهت الفرضيات نحو التبسيط للظواهر الإنسانية، والإيمان بوجود معنى واحد نهائيّ صائب، يمكن الاقتراب منه إن تحلَّى الباحث بالموضوعية والحياد، والاعتقاد بأن المعرفة سلسلة مترابطة الحلقات كل حلقة تؤدي إلى التي تليها، ولا يمكن تخطِّي حلقة منها لأنها تراكمية، والاقتناع بسيادة مفهوم السببيَّة في الظواهر الإنسانية بنفس درجة صلابته في الظاهرة الطبيعية. وقد اتضحت أبعاد الفكر الموضوعي في موقفها من العديد من القضايا الفلسفية مثل الإدراك والواقع وعقل الإنسان.
1 – عقل الإنسان: يعتبر عقل الإنسان صفحة بيضاء قابلة لتسجيل ورصد الوقائع بحياد شديد وسلبية واضحة، يغيب عنه الحيّز الإنساني وتسري عليه القوانين المادية العامة التي تسري على الأشياء، وبالتالي فإن العقل قادر على التعامل مع الموضوعي الخارجي أي العالم المحسوس بكفاءة بالغة، وتقل هذه الكفاءة حينما يتعامل مع عالم الإنسان الداخلي.
2- الواقع: ينظر للواقع الموضوعي باعتباره واقعًا بسيطًا يتكون من مجموعة من الحقائق الصلبة والوقائع المحددة، وثمة قانون طبيعي واحد يسري على الظواهر الإنسانية والظواهر البشرية على حد سواء، وبالتالي فالحقائق عقلية وحسية تعبر عن كل ما يُحس، حيث العقلي والحسي شيء واحد، وتترابط أجزاء هذا الواقع الموضوعي من تلقاء نفسها حسب قوانين الترابط الطبيعية/ المادية العامة.
3- الإدراك: تُعتبر عملية الإدراك عملية اتصال بسيط بين صفحة العقل البيضاء والواقع البسيط الخام (منبه فاستجابة)، وهي عملية محكومة مسبقًا بقوانين الطبيعة / المادة، وينظر للارتباط بين الواقع والمعطيات الحسية في عقل الإنسان على أنه عملية تلقائية باعتبار أن الأشياء مرتبطة في الواقع برباط السببية الواضح، ولا تتأثر عملية الإدراك بالزمان أو المكان أو موقع المدرك من الظاهرة.
4- بعض نتائج الموضوعية المادية: تلغي الموضوعية (المادية) كل الثنائيات، وخصوصًا ثنائية الإنسان والطبيعة. تدور الموضوعية في إطار السببية، وتنقل مركز الإدراك من العقل الإنساني إلى الشيء نفسه، وبالتالي لا تعترف بالخصوصية، ومنها الخصوصية الإنسانية، فهي تركز على العام والمشترك بين الإنسان والطبيعة.. بالإضافة لذلك، لا تعترف الموضوعية بالغائيَّات الإنسانية، ولا بالقصد باعتبارها أشياء لا يمكن دراستها أو قياسها، بينما تفضل الموضوعية الدقة الكمية، وتعتبر المعرفة نتاج تراكم برّاني للمعلومات.
5- الموضوعية المادية والنموذج التراكمي: النموذج الكامن في الرؤية الموضوعية يفترض أن كل المشتركين في العلوم (إن توافرت لهم الظروف الموضوعية) يفكرون بنفس الطريقة ويسألون نفس الأسئلة، ولذلك فإن عملية التراكم ستوصل إلى نموذج النماذج “القانون العام”. ويرى النموذج الموضوعي أن العقل قادر على إعادة صياغة الإنسان وبنيته المادية والاجتماعية في ضوء تراكمه المعرفي وبما يتفق مع القوانين الطبيعية.
ويلاحظ أن ثمة استقطابًا حادًا بين الموضوعية (في تأليهها للكون وإنكارها للذات)، والذاتية (في إنكارها للكون وتأليهها للذات)؛ وبالتالي تصبح العلاقة بين الذات والموضوع واهية، وقد تختفي تمامًا، ولكن ثمة تشابهًا بين الذات والموضوعية، فكلاهما يدور في إطار الحلولية الكمونية التي تفترض وجود مركز للكون داخله (الذات أو الموضوع)، ومن ثم فكلاهما واحدىّ يُلغى المسافة وإمكانية التجاوز.
وفي الواقع فإن بعض الباحثين يؤكدون أن أساس اختيار الحقائق أكثر أهمية ودلالة من الحقائق في ذاتها، وكم المعلومات مهما تضخم لا علاقة له بالصدق أو بالدلالة، فالصدق والكذب ليسا كامنين في الحقائق الموضوعية (أي من حيث هي كذلك)، وإنما في طريقة تناولها، وفي القرار الخاص باختيارها أو استبعادها. ويعتبر البعض أن الافتراضات التي يستند إليها الفكر الموضوعي تنبع من العقلانية المادية لعصر الاستنارة، وقد ثبت أنها افتراضات إما خاطئة تمامًا أو بسيطة إلى درجة كبيرة، ولذا فمقدرتها التفسيرية ضعيفة، وهذا يعود لعدة أسباب:
1 – تركيبية الواقع وخصوصية الظواهر: فالواقع المادي ليس بسيطًا ولا صلدًا ولا صُلبًا، وإنما مركب ومليء بالثغرات، ولا ترتبط معطياته الحسية برباط السببية الصلبة الواضحة؛ إذ ثمة عناصر مبهمة فيه، وثمة احتمالات وإمكانيات كثيرة يمكن أن يتحقق بعضها وحسب ولا يتحقق البعض الآخر. ولذا لا يمكن فهم الواقع من خلال القوانين البسيطة الصلبة المطلقة، وإنما من خلال الافتراضات والقوانين الاحتمالية والسببية الترابطية، ولذا أصبح العلماء يدركون خطورة التجريب العلمي، وأنه ليس من الممكن القيام بكل التجارب الممكنة التي تعطي كل الاحتمالات.
2- خصوصية وتركيبية الإدراك: تعتبر عملية الإدراك مسألة غاية في التركيب، فبين المنبه المادي والاستجابة الحسية والعقلية يوجد عقل مبدع ينظم وهو يتلقى. وعملية رصد الإنسان من جانب آخر، تعتبر عملية بالغة التركيب، فالحقائق الإنسانية لا يمكن فهمها إلا من خلال دراسة الفاعل وعالمه الداخليّ والمعنى الذي يسقطه عليه.
3- خصوصية القول وتركيبية الإفصاح: يمكن للغة التي يستخدمها المدرك للإفصاح عن إدراكه للواقع أن تكون لغة جبرية دقيقة في وصف بعض الظواهر الطبيعية، أما إذا انتقل إلى الظواهر الأكثر تركيباً، فنحن عادة ما نستخدم لغة مركبة قد تكون مجازية أو رمزية أو غير لفظية، وهي لغة تختلف من شخص لآخر. وبناءً على ما سبق يتضح أن فكرة الموضوعية الكاملة والانفصال الكامل للذات المدرِكة عن الموضوع المدرَك مجرد أوهام.