عرف العالم الإسلامي شيوعًا في ممارسة الإجهاض وجدلا ممتدًا بين الداعين إلى تقنين تلك الممارسة وإضفاء الشرعية الدينية والاجتماعية عليها، وبين الرافضين لها انطلاقا من الخلقية الدينية والاعتبارات الأخلاقية، وهذا الجدل ليس حديثا فقد طرحت بعض النقاشات بشأنه في مفتتح القرن الفائت وحفزتها الأجواء الليبرالية التي سادت مصر، وافتتحها مقال رمسيس جبراوي المحامي “تحديد النسل: جسمك ملكك” الذي نشر في سبتمبر 1927 وأثار عددا من الردود.

 

خصص جبراوي مقاله للدفاع عن حق النسوة في الاجهاض، مستدلا بحجج استقاها من بعض الأدبيات الغربية وأسقطها عنوة على الواقع المصري، وما يعنينا أن تلك الحجج التي سيقت منذ تسعون عاما شكلت أساسا للحجج التي يستند إليها دعاة الاجهاض اليوم، ومن ذلك: أن جسد المرأة “ملكٌ لها” يحق لها التصرف فيه كيف تشاء، وأن إجبارها على الاحتفاظ بجنين لا تريده يعد عملا لا أخلاقيا، وأن ليس في الإجهاض ما يشي بجريمة قتل لأن الجنين ليس إنسانا مستقلا وإنما هو جزء من جسد المرأة يحق لها التصرف فيه، وأن المعاقبة القانونية على الاجهاض تعني أن المجتمع يعتبر الجنين ملكا له.

التحريم الإسلامي للإجهاض: مقاربة أخلاقية

ويلاحظ أن تلك المنظومة من الحجج لم تعمد إلى تفكيك الأطروحة الإسلامية بشأن الإجهاض، وهي المسألة تشغل حيزا مهما من المحاولات المعاصرة التي يتبناها فريق من الحداثيين العرب ومنهم السوسيولوجي المغربي عبد الصمد الديالمي الذي أرجع علة تحريم الإجهاض إسلاميا إلى علم الفقه الذي نما وتطور في ظل نموذج سكاني تكاثري تبناه المجتمع الإسلامي في بداياته، حيث كانت الحروب العسكرية تفقده خسائر بشرية فادحة وكان عليه تعويضها، وضمن هذا الإطار تم تحريم الإجهاض بحجج دينية وفلسفية مثل: الحفاظ على الحياة، وعدم قتل النفس خشية إملاق، والخضوع إلى قدر الله وإرادته، وهو يتساءل: هل يمكننا الاستمرار في تجريم الاجهاض، ويجيب قائلا: إن “اباحة الاجهاض أمر لا يتنافى مع الإسلام روحا ونصا، هل يعمل المشرع المغربي بالقصاص أو بقطع اليد أو بجلد أو رجم، طبعا لا، كل ما في الأمر أن المشرع المغربي يتعامل مع النصوص المقدسة بطريقة انتقائية حداثية.. ولا شيء يمنع من السير في هذا الاتجاه بصدد الاجهاض”[1].

وتثير أطروحة الديالمي إشكاليات حول جوهر الرؤية الإسلامية للإجهاض، حيث مال إلى اختزال الموقف الإسلامي في الجانب الفقهي وحده باعتباره العقبة أمام إضفاء المشروعية على الإجهاض، وتغافل عمدًا عن كون حفظ الحياة مقصد رئيس من مقاصد الشريعة يأتي في المرتبة التالية لمقصد حفظ الدين.

ولبيان الموقف الإسلامي من الإجهاض نقتبس بعضا مما ذكره أبو حامد الغزالي في القرن الخامس الهجري؛ حيث يقول “وليس هذا -أي العزل- كالإجهاض والوأد لأن ذلك جناية على موجود حاصل وله أيضاً مراتب، وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة وإفساد ذلك جناية، فإن صارت نطفة فعلقة كانت الجناية أفحش، وإن نُفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشاً[2]” ، ويسترعي النظر من كلام الإمام الغزالي أمرين:

الأول، أنه يأتي في إطار حديثه عن العزل، ويُفهم منه ضمنا أن الزوجين اللذان لا يرغبان في حدوث الحمل تقع عليهما مسئولية أخلاقية في منع حدوثه ابتداء، وإذا أردنا تطبيقا معاصرا لهذا المبدأ لقلنا أن “الحق في الاختيار” الذي يتعلل به دعاة الاجهاض يجب أن يستبق الحمل لا أن يأتي لاحقا له.

الثاني، اختياره تعبير “موجود حاصل” للإشارة إلى ما يتخلق في رحم المرأة، وهو تعبير دقيق يخرج بنا من دائرة الجدل حول ما إذا كان الجنين إنسانا فيعد قتله جريمة أم هو جزء من جسد المرأة يحق لها التخلص منه دون حرج.

وعلى جانب آخر يمكن ملاحظة أن الفقهاء المسلمين عبر قرون قد انطلقوا في تحريم الإجهاض وبناء منظومة أحكامه من بعض التعليلات الأخلاقية التي أوجزها معتز الخطيب في النقاط الآتية:

ــ مركزية الروح: ولذلك أجمع الفقهاء على حرمة اجهاض الجنين في ما مرحلة ما بعد نفخ الروح، ورتبوا عليها أحكام شرعية دنيوية وأخروية كجواز الصلاة عليه وتكفينه ودفنه.

ــ الحياة الاعتبارية: فرغم أن الجنين قبل نفخ الروح كالجمادات إلا أنهم حرموا اجهاضه قبل ذلك لأن به حياة اعتبارية تبدأ بلحظة الانعقاد، وتحوله إلى حمل ودخوله مرحلة الحياة، وهذا ما دفع ابن الجوزي إلى تحريم الاجهاض من لحظة النطفة لأنه “مترق إلى الكمال، سار إلى التمام، فتعمد إسقاطه مخالف لمراد الحكمة الإلهية.

ــ الآدمية: وقد ألح الفقهاء كثيرا على مسألة التخليق، ومبدأ خلق الإنسان لأن الآدمية مبدأ يستوجب الاحترام لأنه سائر إلى التمام والكمال كما أشار ابن الجوزي.

ــ الخلق الإلهي: مسألة الجنين كلها تدور في إطار قضية الخلق الإلهي، وأنها مسألة دينية، والإجهاض جزء من نظام الخلق ولذلك كان فيه مخالفة لمراد الحكمة الإلهية التي وكلت ملكا يختص بالنطفة كما جاء في الحديث الشريف، ومن ثم أوجب الفقهاء الدية والكفارة على الجنين الذي فيه صورة آدمي، وهي عقوبة مقدرة حقا لله تعالى[3].

النسوية الغربية وجدل الإجهاض

لا ينبغي الظن أن جدل الإجهاض قاصر على الداخل الإسلامي وأن الغرب حسم أمره في مسألة الاجهاض؛ فثمة جدل حاد تعود جذوره إلى عام (1973) حين أصدرت المحكمة العليا الأمريكية قرارها بعدم دستورية قانون تجريم الاجهاض بولاية تكساس، وضرورة وقف الشريعات المناهضة للاجهاض خلال الشهور الثلاث الأولى من الحمل، ورغم أن دولا عديدة سبقت إلى ذلك إلا أن القرار الأمريكي يعد نقطة حاسمة في الجدل الغربي حول الاجهاض، إذ انقسمت الآراء بشأنه فالمؤيدين تكتلوا تحت شعار مؤيدو الاختيار”Pro Choice”  أما المعارضين فشكلوا معسكرا مناوئا تسمى باسم مؤيدو الحياة “Pro Life” وكل منهما له حججه ومقارباته.

ورغم أن الحركة النسوية كانت من أبرز المؤيدين لقرار المحكمة إلا أن موقفها يحتاج بعض الإيضاح، ذلك أن الرائدات النسويات في القرن التاسع عشر مثل سوزان أنتوني وإليزابيث كادي ستانتون وماتيلدا جوسلين عارضن الإجهاض بوصفه إجراء صحي غير آمن واعتبرنه استغلالا للمرأة من قبل الجنس الذكوري، وظل موقف الحركة ثابتا ولم يتغير حتى أواخر الستينات من القرن الماضي مع الثورة الجنسية التي خلخلت الأفكار التقليدية حول الجنس والجسد وعندئذ أخذت الحركة النسوية الأمريكية تُسير التظاهرات المؤيدة للإجهاض ورفعت خلالها شعار “حق المرأة في الاجهاض يعادل حقها في الوجود”.

وعلى أثر ذلك قامت “المنظمة الوطنية للمرأة الأمريكية” بتمحيص صفوفها ممن رفضن موقفها من الاجهاض، واتجهت المفصولات عام 1972 إلى تأسيس نسويات من أجل الحياة “Feminists for Life of America” من الرافضات للاجهاض، وذلك في مواجهة التيار النسوي المهين الذي كان نواة تحالف “مؤيدو الاختيار” [4].

ومنذ تأسيسها تعرضت النسوية المؤيدة للحياة للإقصاء والتهميش فامتنعت دور النشر والمنابر النسوية عن نشر أي كتابات تعبر عن وجهة نظرها المغايرة التي تتلخص في أن التيار النسوي المهيمن انحاز إلى وجهة النظر الذكورية بدلا من الدفاع عن المساواة بشروطه الخاصة، لقد أُجبرت النساء على الخضوع للقيم الذكورية التي تعد النساء دمى جنسية يمكن التمتع بها والتخلص منها، وساعد الاجهاض الرجال على التخلي عن مسئولياتهم تجاه الأم والجنين.

ويتبنى هذا الفريق النسوي مقاربة أخلاقية لمسألة الإجهاض ملخصها أن الاجهاض يعني قتل إنسان برئ وهو عمل لا أخلاقي لا يمكن تبريره؛ لأنه ليس هناك ما يسمى الحق في قتل الأبرياء، سيما وأن خمسين بالمائة من الأجنة المجهضة هي أجنة مؤنثة لا يراد انجابها، فإذا كان مؤيدو الاختيار يريدون أن تنال المرأة حقها في السيطرة على جسدها فعليهم أولا أن يمنحوها حقا أكثر جوهرية من ذلك وهو “حقها في ألا تقتل”.


[1] عبد الصمد الديالمي، في مكافحة الاجهاض السري بالمغرب

https://bit.ly/2NgEHJa

[2] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، إحياء علوم الدين، بيروت: دار المعرفة، ج2، ص51.

[3] معتز الخطيب، نحو قراءة منظومية أخلاقية للفقه الإسلامي: الإجهاض نموذجا

https://bit.ly/2WjWrYh

[4]  Liz Hoskings, Pro Life Feminism

 https://wholelifedemocrat.com/pro-life-feminism/