التأمين التجاري كما عرفته القوانين: (عقد بين طرفين أحدهما يسمى المؤمن والثاني المؤمن له (أو المستأمن) يلتزم فيه المؤمن بأن يؤدي إلى المؤمن لمصلحته مبلغا من المال أو إيرادا مرتبا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع حادث أو تحقق خطر مبين في العقد، وذلك في مقابل قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له إلى المؤمن).
بيان التعريف
فهو اتفاق بين طرفين: أحدهما شركة التأمين، وهي الجهة التي تدفع التعويض عند حصول الخطر المؤمن منه.
وثانيهما: المستأمن، وهو الذي يدفع قسط التأمين للشركة على شكل دفعة واحدة، أو دفعات.
ويتم الاتفاق على تحديد مقدار التعويض الذي تدفعه الشركة للمستأمن وفق شروط يتفق عليها بين الطرفين، والهدف من العقد بالنسبة للشركة: هو تحقيق الربح، والذي يتكون من فائض عمليات التأمين بعد دفع التعويضات، والمصاريف الإدارية، والعمومية.
وأما الهدف بالنسبة للمستأمنين: فهو حصول الطمأنينة في دخول بعض المغامرات التجارية، وإذا حصل، ووقع له مكروه فإنه سيحصل على ترميم آثار الخطر المؤمن منه عند حصوله.
والتأمين بهذا المعنى أصبح لا يحتاج إلى التعريف به، فهو معروف في أوساط المتعاملين به وغيرهم.
والفقهاء المعاصرون يطلقون عليه عدة أسماء، منها: التأمين التجاري، والتأمين ذو القسط الثابت.
وهو يدخل في مجالات كثيرة، فهناك التأمين ضد الحرائق، والتأمين ضد السرقة، والتأمين ضد الحوادث، والتأمين ضد العجز، والتأمين ضد الشيخوخة. ومجالاته متجددة، فشركات التأمين تخترع كل فترة مجالا جديدا، من مجالات الأضرار التي يخشى الناس التعرض لها.
وفكرة التحوط من الأخطار في ذاتها، ليست محل إنكار من الفقهاء، ولا تتعارض مع التوكل على الله، لكن الإنكار عليها من لدن الفقهاء، له حيثيات أخرى كما سنذكر.
آراء الفقهاء الفردية حول التأمين
لا يمكننا أن ندعي أن الفقهاء المعاصرين أجمعوا على حرمة التأمين، فالحق أن من العلماء من ذهب إلى جواز التأمين التجاري، ممن لا يُتهم في علمه أو أمانته، وعلى رأس هؤلاء الدكتور مصطفى الزرقا – رحمه الله-.
لكن العلماء الفرادى الذين ذهبوا إلى جواز التأمين التجاري أقلية جدا بإزاء من ذهب إلى تحريمه منهم.
القرارات المجمعية حول التأمين
المجامع الفقهية الأمينة التي ناقشت قضية التأمين انتهت إلى تحريمه، فحرمه المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإِسلامي بمكة المكرمة عام 1396 هـ، وحرمه مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في ندوته الثانية عام 1406 هـ. وحرمه المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي عام 1398 هـ.
وترجع قيمة القرارات المجمعية في موضوع التأمين تحديدا إلى أن المرتكزات الشرعية التي انطلق منها المبيحون، هذه المرتكزات جميعها، اطلعت عليها هذه المجامع، ورفضتها، ورأتها أنها لا ترقى إلى إباحة التأمين.
والغريب أن بعضا من غير المتخصصين في علم الفقه الإسلامي من المحاسبين ونحوهم إذا وقع على أحد هذه المرتكزات، تصور أنها غابت عن هذه المجامع، وأنه يجب على هذه المجامع إعادة النظر من أجلها، ولا يدرون أن المجامع عرضتها وناقشتها ورفضتها، والأهم أنها استمعت إليها مباشرة من أفواه أصحابها أو من بحوثهم.
رد المجمع الفقهي على أدلة الإباحة
وقد أحسن المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي حينما عرض هذه الأدلة أو الشبهات كلها في قراره، وفندها واحدة واحدة.
فإلى هذه الشبهات والرد عليها كما جاءت في قرار المجمع :
وأما ما استدل به المبيحون للتأمين التجاري مطلقا، أو في بعض أنواعه، فالجواب عنه ما يلي:
أ– الاستدلال بالاستصلاح غير صحيح، فإن المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة، وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو مصلحة مرسلة، وهذا محل اجتهاد المجتهدين، والقسم الثالث: ما شهد الشرع بإلغائه لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة.
ب – الإباحة الأصلية: لا تصلح دليلا هنا؛ لأن عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة، والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم الناقل عنها، وقد وجد، فبطل الاستدلال بها.
ج – الضرورات تبيح المحظورات لا يصح الاستدلال به هنا، فإن ما أباحه الله من طرق كسب الطيبات أكثر أضعافا مضاعفة مما حرمه عليهم، فليس هناك ضرورة معتبرة شرعا تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين.
د – لا يصح الاستدلال بالعرف، فإن العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام، وإنما يبني عليه في تطبيق الأحكام وفهم المراد من ألفاظ النصوص، ومن عبارات الناس في أيمانهم وتداعيهم وأخبارهم وسائر ما يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال، فلا تأثير له فيما تبين تحريمه، وتعين المقصود منه، وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين، فلا اعتبار به معها.
هـ – الاستدلال بأن عقود التأمين التجاري من عقود المضاربة، أو ما في معناه غير صحيح، فإن رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه، وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة، حسبما يقضي به نظام التأمين، وأن رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته، وفي التأمين قد يستحق الورثة نظاما مبلغ التأمين ولو لم يدفع مورثهم إلى قسطا واحدا، وقد لا يستحقون شيئا، إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته، وأن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين، نسبا مئوية مثلا، بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة وليس للمستأمن إلا مبلغ التأمين أو مبلغا غير محدد.
و – وقياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به غير صحيح، فإنه قياس مع الفارق، ومن الفروق بينهما: أن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة، بخلاف عقد ولاء الموالاة، فالقصد الأول منه التآخي في الإسلام، والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال، وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع.
ز– قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم عند من يقول به لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق، ومن الفروق أن الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلا، من باب المعروف المحض، فكان الوفاء به واجبا، أو من مكارم الأخلاق، بخلاف عقود التأمين فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي، فلا يغتفر فيها ما يغتفر في التبرعات من الجهالة والغرر.
ح – قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب، قياس غير صحيح، لأنه قياس مع الفارق أيضا، ومن الفروق: أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض، بخلاف التأمين، فإنه عقد معاوضة تجارية، يقصد منها أولا الكسب المادي، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه، والأحكام يراعي فيها الأصل لا التابع، ما دام تابعا غير مقصود إليه.
ط – قياس عقود التأمين التجاري على ضمان خطر الطريق لا يصح، فإنه قياس مع الفارق كما سبق في الدليل قبله.
ي – قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد غير صحيح، فإنه قياس مع الفارق أيضًا؛ لأن ما يعطى من التقاعد، حق التزم به ولي الأمر، باعتباره مسئولاً عن رعيته، وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة، ووضع له نظامًا راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم، فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين، الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة، لأن ما يعطى في حالة التقاعد، يعتبر حقًّا التُزم به من حكومات مسئولة عن رعيتها، وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه، وتعاونًا معه جزاء تعاونه معها ببدنه وفكره، وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة.
ك – قياس نظام التأمين التجاري وعقوده على نظام العاقلة لا يصح، فإنه قياس مع الفارق، ومن الفروق أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ وشبه العمد ما بينها وبين القاتل- خطأ أو شبه العمد- من الرحم والقرابة، التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون، وإسداء المعروف، ولو دون مقابل، وعقود التأمين التجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة، لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث المعروف بصلة.
ل – قياس عقود التأمين التجاري على عقود الحراسة غير صحيح، لأنه قياس مع الفارق أيضًا، ومن الفروق أن الأمان ليس محلاًّ للعقد في المسألتين، وإنما محله في التأمين
الأقساط ومبلغ التأمين، وفي الحراسة الأجرة وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة، وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس.
م – قياس التأمين على الإيداع لا يصح، لأنه قياس مع الفارق أيضًا، فإن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه، بخلاف التأمين فإن ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن، ويعود إلى المستأمن بمنفعة، إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة، وشرط العوض عن الضمان لا يصح، بل هو مفسد للعقد، وإن جعل مبلغ التأمين فيه مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جهل فيها مبلغ التأمين أو زمنه فاختلف عن عقد الإيداع بأجر.
ن – قياس التأمين على ما عرف بقضية تجَّار البَزِّ مع الحاكة لا يصح، والفرق بينهما أن المقيس عليه من التأمين التعاوني، وهو تعاون محض، والمقيس تأمين تجاري وهو معاوضات تجارية، فلا يصح القياس.