من يتصور خلو الحياة الزوجية عن منغصات، ويظنها حياة لا مكدر فيها وأنها انسجام تام، لا خلاف فيها، ولاعتب، ولا غضب،  مخطئ تمام الخطإ ، ولو أمكن تصور بيت خال من ذلك فسيكون بيت النبوة، وبيوت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين تخرجوا من مدرسة النبوة، غير أنا نجد أن الواقع ليس كذلك، وهذا ليس نقصا، بل إن تلك الأشياء هي ملحُ الحياة الزوجية.

ولهذا نجد هذه القصة الجميلة الرائعة التي تحدث بها عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري وغيره قالت : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: إِنِّى لأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّى رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَىَّ غَضْبَى.

قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ يا رَسُولَ الله؟

فَقَالَ: أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّى رَاضِيَةً؛ فَإِنَّكِ تَقُولِين: لا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ غَضْبَى؛ قُلْتِ: لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ.

قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَهْجُرُ إِلاَّ اسْمَكَ”.

عائشة الصديقة بنت الصديق، الحبيبة بنت الحبيب تغضب من النبي صلى الله عليه وسلم، لكن كيف كان غضبها؟ إنه لا يظهر في تغير نبرة صوتها، ولا في وجهها، ولا في أسلوبها في التعامل، وإنما يظهر في هذا العتاب اللطيف عند القسم فقط فتقول: “ورب إبراهيم”.

ذكر ابن حجر في الفتح 9/326 عن الطِّيبِيُّ قال: هَذَا الْحَصْرُ لَطِيفٌ جِدًّا لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ فِي حَالِ الْغَضَبِ الَّذِي يَسْلِبُ الْعَاقِلَ اخْتِيَارَهُ لَا تَتَغَيَّرُ عَنِ الْمَحَبَّةِ الْمُسْتَقِرَّةِ فَهُوَ كَمَا قِيلَ:

إِنِّي لِأَمْنَحُكَ الصُّدُودَ وَإِنَّنِي  **   قَسَمًا إِلَيْكَ مَعَ الصُّدُودِ لَأَمْيَلُ

وفي القصة لفتة جميلة منه صلى الله عليه وسلم تدل على كمال خلقه وجميل عشرته، ذلك أنه يلاحظ مثل هذه الأشياء الدقيقة ويحدث بها زوجته لتستشعر مدى اهتمامِه بشأنها رغم مشاغله، ومسؤولياته الجمه.

قلنا إن العتاب والخلاف هو ملح الحياة الزوجية، لكنه إذا جاوز حده كان طعمه أجاجا، فيفسد، وينفِّر، وربما فرق.

إنَّ القلوبَ إذا تنافرَ وِدها  =  مِثلُ الزجاجة كسرُها لا يُـشعَـبُ

وقد قال صلى الله عليه وسلم: “ما كان الرِفقُ في شيءٍ إلا زانه، وما نُزِع مِن شيءٍ إلا شانه”.

هذا مع سائرِ الناس، فكيف مع من جمعت بينه وبين المرء المودة والرحمة والميثاق الغليظ ؟؟

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِي، فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْل.

وفي رواية، فقالت لي عجباً لك يا ابن الخطابِ! ما تُريد أن تراجعَ أنت، وإن ابنَتَك لتراجِع رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – حتى يظلَّ يومَهُ غضبانَ.

فَأَفْزَعَنِي، فَقُلْتُ: خَابَتْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ، ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟

فَقَالَتْ: نَعَمْ،

فَقُلْتُ: خِبْتِ وخسِرْتِ، أفَتَأمَنينَ أنْ يغضَبَ الله لغَضَبِ رسولهِ – صلى الله عليه وسلم – فَتَهْلِكينَ؟! لاَ تَسْتَكْثِرِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَكِ، وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُرِيدُ عَائِشَةَ-

قال عمر ثم خرجتُ حتى دخلتُ على أمِّ سلمة لقرابتي منها، فكلمتُها،

فقالت أمُّ سلمة: عجباً لك يا ابنَ الخطاب! دخَلْتَ في كلِّ شيءٍ حتى تبتغي أن تدخُلَ بين رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – وأزواجِهِ؟!

فأخذتني واللُهِ أخذاً كَسَرَتْني عن بعض ما كنتُ أجِدُ، فخرجتُ من عندها” .. والقصة ذكرها البخاري وغيره.

وقد كان عمر تراجعه زوجته وربما ارتفع صوتها عليه كما جاء في بعض الروايات على الرغم من هيبته، وشدته.

ذكر الشيخ سليمان بن محمد البجيرمي الشافعي في حاشيته على شرح المنهج 3/ 441-442، وابن حجر الهيتمي في الزواجر 2/80 :

أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى عُمَرَ يَشْكُو إلَيْهِ خُلُقَ زَوْجَتِهِ فَوَقَفَ بِبَابِهِ يَنْتَظِرُهُ فَسَمِعَ امْرَأَتَهُ تَسْتَطِيلُ عَلَيْهِ بِلِسَانِهَا وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَرُدُّ عَلَيْهَا ،

فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ قَائِلًا : إذَا كَانَ هَذَا حَالَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكَيْفَ حَالِي ؟

فَخَرَجَ عُمَرُ فَرَآهُ مُوَلِّيًا فَنَادَاهُ: مَا حَاجَتُك يَا أَخِي؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ جِئتُ أَشْكُو إلَيْك خُلُقَ زَوْجَتِي وَاسْتِطَالَتَهَا عَلَيَّ فَسَمِعْتُ زَوْجَتَكَ كَذَلِكَ فَرَجَعْت وَقُلْت: إذَا كَانَ هَذَا حَالَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ زَوْجَتِهِ فَكَيْفَ حَالِي؟…”.

وأخرج عبد الرزاق في مصنفه والطبراني في المعجم الكبير والهيثمي في مجمع الزوائد أن جابر بن عبد الله جاء يشكو إلى عمر ما يلقى من النساء

فقال عمر: إنا لنجد ذلك حتى أني لأريد الحاجة فتقول: ما تذهب إلا إلى فتيات بني فلان تنظر إليهن!

فقال له عبد الله بن مسعود عند ذلك: أما بلغك أن إبراهيم شكا إلى الله رديء خلق سارة، فقيل له: إنها خلقت من الضلع، جالسها على ما فيها ما لم تر عليها خربة في دينها؛ فقال له عمر: لقد حشا الله في أضلاعك علما كثيرا».

فهذا عمر رضي الله عنه وقد كان مهابا في الناس حتى إن ابن عباس رضي الله عنهما يقول: ” مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له .

ويقول عَمْرو بْن مَيْمُون كما في حلية الأولياء: ” شَهِدْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ طُعِنَ فَمَا مَنَعَنِي أَنْ أَكُونَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ إِلَّا هَيْبَتُهُ، وَكَانَ رَجُلًا مَهِيبًا “.

لكن هذه المهابة لم تمنع زوجته من مراجعته، ولم تمنعها من الغيرة عليه حتى إنها لتقول له ما خرجت إلا لتتصنع أو تتراءى لفتيات بني فلان، وهذا مما يضحك ويدهش لغرابته، لكن الغيرة تفعل ذلك بالمرأة وما تدري الغيراء أسفل الوادي من أعلاه كما جاء في الأثر عند أبي يعلى.

وقد حدثت عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلا. قالت: فغرت عليه، وخرجت في أثره، قالت فرأى ما صنعت.

فقال: ((ما لك؟ يا عائشة! أغرت؟))

فقلت: ومالي لا يغار مثلي على مثلك؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقد جاءك شيطانك؟.

قالت: يا رسول الله! أو معي شيطان؟.

قال: نعم.

قلت: ومع كل إنسان؟

قال: نعم.

قلت: ومعك؟ يا رسول الله!

قال: نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم)) رواه مسلم.

فكل هذا مما قد يحدث في البيوت بين المرأة وزوجها، وقد يكون ما هو أعظم منه، فإذا عولج بحكمة ذهب، وأعقبته محبة ومودة وأنس، وإلا فقد يؤدي إلى نفور وكره وهجران، وقد قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}.

وثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن المرأة خلقت من ضلع ولن تستقيم لك على طريقة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها” رواه البخاري ومسلم.

إننا بحاجة إلى إتقان فن المصالحة، ومعرفة حكمة معالجة الأخطاء، فالعتب اللطيف، والدمعة الحرى، والنظرة الحانية، تفعل ما لا يفعله رفع الصوت وتجهم الوجه.