مع التطورات الجوهرية التي بدأت من خمسينيات القرن الماضي في وظيفة المالية، حيث تركز الاهتمام في الأربعينيات والخمسينيات على معالجة آثار الكساد العظيم وأصبحت موضوعات كالإفلاس والاندماج وتوفير السيولة والأموال اللازمة للتوسع في المشروعات موضوعات هامة وبدأت تأخذ هذه الوظيفة مفهوماً أكثر شمولاً ( The Great Depression 1929 – 1933)

فلم تعد الوظيفة المالية مجرد إجراءات لتدبير احتياجات المنشأة من الأموال، بل أصبحت تتضمن قرارات بشأن نوعية الأموال المطلوبة، وكيفية الاستثمار، والتخطيط المالي، والرقابة المالية. أي وظائف الإدارة في مجال التمويل، أو الإدارة المالية.

إن هدف الإدارة المالية ينبغي أن ينعكس على الأهداف الشخصية للأطراف المعنية بنشاط المنشأة Stakeholders وهم الملاك والإدارة والعاملين والمجتمع. وهدف الإدارة المالية لابد وأن يسعى لخدمة أهداف تلك الأطراف، وذلك كالآتي[1]:

1- الملاك: ملاك المنشأة هم حملة الأسهم العادية. هم أصحاب المصلحة الرئيسية في بقاء المنشأة واستمرارها. وهدفهم الربح (ربحية الأسهم). وتعظيم القيمة السوقية للمنشأة يعتبر مرادف لتعظيم القيمة السوقية للأسهم العادية.

2- الدائنون: ملاك رأس المال هم حملة الأسهم العادية بالإضافة إلى المقرضين. وهنا لابد من تقليل التعارض بين اهداف الملاك وأهداف الدائنين.

3- العاملون: حيث تقوم الإدارة بتخصيص جزء من أرباح المنشأة لصالح العاملين؛ مما يترك أثراً عكسياً على ثروة الملاك؛ ويكون ذلك في الأجل القصير، ولكنه يكون أقل او لصالح الملاك على المدى الطويل.

4- الإدارة: تقوم بالتنسيق بين الأطراف الأخرى وهم الملاك والدائنين والعاملين.

ومن ضمن مجالات التمويل زيادة الاعتماد على القروض بفوائد لتمويل الاستثمارات. ويكون هذا البديل أقل تكلفة من حقوق الملكية. ومع ذلك فإن ارتفاع معدلات الفائدة يؤدي إلى انخفاض القيمة السوقية للمنشأة.

في الثمانينيات من القرض الماضي زاد الاهتمام بالتضخم وتأثيره على أسعار الفائدة وعلى قرارات الاستثمار بالتبعية، وتحويل الشركات المساهمة إلى مشروعات يملكها عدد محدود من الأفراد Leveraged Buyout وزادت سيطرة الإدارة على مقدرات المنشأة، وأصبح السؤال ما هو مدى تأثير هذا التطور على التمويل بأسعار الفائدة؟ وزاد الاقتراض وأصبحت المنشآت لا تستطيع أن تنأى بنفسها عن التمويل بفوائد.

وفي هذا السياق نشير إلى الجدل الذي ثار حول فتاوى شهادات الاستثمار، نقلاً عن مقال للدكتور إبراهيم البيومي غانم، تناول فيها كيفية تصدي دار الإفتاء المصرية للإفتاء في بعض الفتاوى العامة؛ ومنها فتاوى شهادات الاستثمار. وذلك في مراجعته لكتاب بعنوان “إسلام الدولة المصرية: مفتو وفتاوى دار الإفتاء” للكاتب “جاكوب أندرسون”، ترجمة د. السيد عمر (2018م).  قال في مقاله: “يصور المؤلف أجواء الجدل المحتدم الذي أثارته فتوى الشيخ سيد طنطاوي مفتي الديار بتاريخ السابع من سبتمبر/ أيلول لعام 1989م بشأن شهادات الاستثمار، والتي قرر فيها أن شهادات الاستثمار نوع جديد من المعاملات المفيدة للأفراد وللأمة معاً، ولا استغلال فيها من طرف للآخر. وقد دار الجدل حول هذا الموضوع في الثمانينيات في أجواء شهدت صعوداً للاقتصاد الإسلامي نظرياً وتطبيقياً، وكانت الحكومة في مسيس الحاجة لجذب أموال المستثمرين لتمويل مشروعاتها الكبرى في مجالات الإسكان والإنتاج والتنمية بصفة عامة”.

وأضاف (د. غانم في مقاله): “ورداً على سؤال حول تكييف الادخار في شهادات الاستثمار: هل تعتبر قرضاً أو وديعة؟ قال الشيخ طنطاوي: وتأسيساً على ذلك قررت دار الإفتاء المصرية شرعية المعاملات المتعلقة بشهادات الاستثمار، وأن الأرباح الناجمة عنها حلال لأنها مضاربة، أو لكونها معاملة مستحدثة نافعة للأفراد وللأمة، وليس فيها أي استغلال من طرف لآخر…”.

وأضاف أيضاً في مقاله: “وظهر من مجمل المجادلات في هذا السياق أن الربا لدى أغلب المؤيدين والمعارضين ليس المقصود به أنواعاً معينة من الفوائد المحرمة، وإنما هو يشمل مختلف أشكال الظلم السياسي والاقتصادي. ويستخلص المؤلف من ذلك أن تحريم الربا صار كلمة مفتاحية لحجة سياسية تدعو إلى إقامة مجتمع إسلامي عادل، وليس فقط معالة اقتصادية محظورة (ص406)”[2].

وهنا يثور التساؤل ما حكم إصدار وتملك أسهم المنشآت التي يختلط فيها الحرام بالحلال؟ وهذه المنشآت هي المنشآت التي يكون غرضها مشروعاً.

أجاز جمهور الفقهاء تملك أسهم هذه المنشآت بشروط محددة، مع وجوب إنكار المحرم والعمل على تغييره.

كما يثور تساؤل ثان ما معنى تطهير أسهم الشركات التي اختلط فيها الحرام بالحلال؟

توجد حالات ثلاثة للتخلص من المال الحرام. وهي؛ كالآتي[3]:

–  حالة قيام المنشأة بالاقتراض من البنوك.

–  حالة قيام المنشأة بإقراض البنوك (الإيداع فيها).

–  حالة قيام المنشأة بالتعامل الجزئي في الموجودات المحرمة شرعاً.

ولكي يقوم الملاك بتطهير الأسهم التي يمتلكونها في هذه المنشآت؛ فإن عليهم أن يتكبدوا في سبيل ذلك بعض التكاليف. وعملية التخلص من الكسب الذي ينشأ عن المعاملات المحرمة؛ وله إجراءات معينة؛ هو ما يعرف باسم عملية التطهير.

مع ضرورة الخروج من هذا الاستثمار في حالة عدم مراعاة الضوابط والشروط التي وضعها الفقهاء في هذا الصدد.

الخلاصة أنه مع تطور وظيفة الإدارة المالية، وهي في سعيها إلى تعظيم ثروة الملاك؛ وهو الهدف الشرعي للمنشأة، يجب عليها البحث عن البدائل الشرعية في التمويل بدلاً من الاعتماد على القروض بفوائد، ويجب عليها أن تدقق في أنشطتها المالية حتى يمكنها تطهير أموالها التي يشوبها الحرام، من هنا يكون الكسب الطيب من أولويات عمل الإدارة المالية، مصداقاً لقول الله تعالى:وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (التوبة: 102).

وخلاصة قول الفقهاء، الآتي:

– إن اختلاط الحلال بالحرام لا يصبح كل المال حرام

– يقدر الجزء الحرام من الأموال ويتم التخلص منه في مصالح المسلمين

– الجزء المتبقي يكون حلالاً يجوز التصرف فيه

– من باب التقوى أن يتم تجنب الأنشطة التي يختلط فيها الحلال بالحرام.


[1] أنظر في ذلك: منير إبراهيم هندي، الإدارة المالية: مدخل تحليلي معاصر (الإسكندرية: المكتب العربي الحديث، ط6، 2007م)، ص ص 5 – 30.

[2] إبراهيم البيومي غانم، سياقات فتاوى شهادات الاستثمار وتغيير النوع والتأمين، منشورة في موقع إضاءات، بتاريخ 4/7/2019

https://www.ida2at.com/fatwa-certificates-investment-certificates-change-type-insurance/

[3] أنظر في ذلك: عصام أبو النصر، أسواق الأوراق المالية (البورصة) في ميزان الفقه الإسلامي (القاهرة: دار النشر للجامعات، 2006م)، ص ص 115 – 117.