فضلا عن كونها أمرا إلهيا وواجبا شرعيا، فإن الصدقة عنوان على مجتمع التراحم و التضامن، وشارة الحس الإنساني التي تزين صدور المُنفقين. إنها اللُحمة بين اليد العليا واليد السفلى، ضدا على ذيول الداروينية الاجتماعية المتطرفة، و المنحازين إلى مجتمع الأقوياء.
بداية، تجدر الإشارة إلى أن النبي ﷺ قد وسع في عدد من الأحاديث دائرة الصدقة لتشمل الطير والبهيمة. وجعل النفقة على الأهل واللقمة في فم الزوجة صدقة إذا احتسبها صاحبها. وأخرج الصدقة من صورتها المادية المعتادة ليفسح لها حضورا معنويا مؤثرا، لا يقل في الأجر والثواب عن إنفاق الدرهم والمتاع. فجعل الأمر بالمعروف صدقة، والكلمة الطيبة، والإمساك عن الشر صدقة، والتهليل والتسبيح والتكبير صدقة، بل حتى التبسم الذي لا يكلف سوى انفراج الأسارير في وجه الإخوان صدقة.
إن هذه التوسعة التي همّت الحسي والمعنوي تتيح للمسلم أن يحظى بثواب الصدقة على القول والفعل، وبذلك تصبح حركاته وسكناته عبادة متصلة. يقول ابن بطال في وجه كون الكلمة الطيبة صدقة أن إعطاء المال يفرح به قلب الذي يُعطاه ويُذهب ما في قلبه، وكذلك الكلام الطيب فاشتبها من هذه الحيثية. ولو رصدنا أوجه الشبه في حياتنا اليومية من حيث مقصد إدخال الفرح لما وسعنا أن نحصي فنون التصدق وألوانه.
إن المكتبة الإسلامية غنية بمئات المصنفات التي تناولت بإسهاب مقاصد وأحكام الصدقة، إلا أن الجانب (الإبداعي) لم يحظ باهتمام مماثل، رغم أن أخبار الصالحين والحكايات المتوارثة عن مبادراتهم وحضورهم المجتمعي، تؤسس لما يمكن أن نسميه فن التصدق، أي إبداع سبل الإنفاق التي تحفظ ماء وجه الفقير والمسكين، وتسد حاجته دون المساس بكرامته و آدميته.
فن التصدق إذن هو مجموع الأساليب التي انتهجها السلف الصالح للإنفاق في سبيل الله، مع إيلاء الشعور الإنساني أهمية قصوى، بحيث تحقق الصدقات غايتها دون أن تخلف ندوبا أو جرحا لمشاعر من أُعطيَت لهم. ومن خلال النماذج المتفرقة في أخبار السلف، تتضح إبداعية الخطوات والمبادرات، وتحقُقُ الأثر المعنوي للصدقة بمعزل عن أية مرامي أخرى.
كان للتابعي الجليل عروة بن الزبير بستان من أعظم البساتين بالمدينة. وكان يجدد حيطانه كل سنة لحماية أشجاره من أذى الصبيان والماشية، حتى إذا أينعت الثمار وطابت، أقبل على السور فهدمه في أكثر من جهة ليتيح للناس أن يدخلوا البستان ويحملوا منه ما شاءوا.
وقدم علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم نموذجا يُحتذى في صدقة السر والإنفاق في جنح الظلام. فكان يحمل ليلا أكياس الدقيق على ظهره ويضعها أمام بيوت الفقراء، ثم ينصرف ولسان حاله يردد: “إن صدقة السر تطفئ غضب الرب”. وظل على هذه الحال إلى أن وافته المنية، فلما غسّلوه وجدوا آثار الحبال سوداءَ على ظهره، فقالوا: ما هذا؟ فحدث أهلُه الناسَ بصنيعه.
وفهموا عن النبي ﷺ أن في الصدقة شفاء من الأسقام ووقاية من ميتة السوء. لذا كان التصدق أسلوبا علاجيا يقاومون به الأوجاع، إذ يحكى ان رجلا جاء إلى عبد الله بن المبارك يشكو إليه قرحة خرجت في ركبته منذ سبع سنين، فجرب أنواعا من العلاج وسأل الأطباء فلم ينتفع بشيء. فقال له: اذهب فاحفر بئرا في مكان حاجة إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين، ويُمسك عنك الدم، ففعل الرجل، فبرأ.
إن فن التصدق في جوهره لا يقوم على التبرع بالفائض، أو التخلص من الملابس المكدسة والأواني غير المستعملة؛ وهو وليس مجرد تدوير للمتلاشيات، وإنما استشعار عميق لمسؤولية الفرد المسلم تجاه المجتمع، وحِمية ضد الأنانية وعبادة الذات. وكلما اجتهد المرء في إبداع أشكال تقاسم المنفعة مع المحتاجين، فإنه بذلك يعزز مبدأ الأمن الاجتماعي، ويسهم في إخماد ما تثيره اللامبالاة من دواعي الكراهية والبغض.
ولم يكن فن التصدق وإبداع سبل الإنفاق قصرا على الأفراد، بل امتد إلى السياسة العامة في زمن بعض حكام المسلمين. فعدد من الإجراءات التي حفظها التاريخ تنطوي على سبق وإبداع في توجيه وصرف الموارد والمداخيل، لتحسين المعيشة وسد منافذ الحاجة. هكذا يكشف تاريخ الخلافة زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن مبادرات رائدة، من قبيل:
– إحداث مؤسسة “دار الدقيق” التي يُحتفظ فيها بمواد غذائية مخصصة للغرباء والمنقطعين وعابري السبيل.
– توسيع نظام التكافل الاجتماعي ليشمل الرضع، عبر تخصيص نفقة لهم من بيت المال.
– تخصيص أسطول من الجمال كوسيلة نقل عمومية، لمن لا يملك ما يركبه في التنقل بين الجزيرة والشام والعراق.
وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تستوقفنا سياسته المالية التي تعتمد شعار “الحق لا يأتي إلا بخير”، فكأن بيت المال مجرد مظلة تستريح تحتها الثروات قبل أن تأخذ وجهاتها المختلفة. وحين تذمر بعض عماله قائلا: “إنك أضررت ببيت المال !” أجاب بحزم الواثق: ” أعط ما فيه، فإذا لم يبق فيه شيء فاملأه زبلا!”.
أبدع عمر بن عبد العزيز فنونا من التصدق التي تواجه ظواهر اجتماعية واحتياجات معيشية طارئة. فكان يخصص اعتمادات مالية فدية لأسرى المسلمين، وراتبا شهريا لمن يتولى أمر كفيف، فيقوده ويرعى شؤونه. ينقل ابن عساكر في “المختصر” عن الرعيني أن عمر كتب إلى أمصار الشام أن: ارفعوا إلي كل أعمى في الديوان، أو مُقعد، أو مَن به فالج، أو مَن به زمانة تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة. فرفعوا إليه، فأمر لكل أعمى بقائد، وأمر لكل اثنين من الزمنى بخادم.
وترسيخا منه لمبدأ العفاف في المنظومة المجتمعية، أعلن عمر في أرجاء دولته الشاسعة أن من يريد الزواج ولا يستطيع النهوض بتبعاته المادية، فبيت المال كفيل بنفقاته.
وكتب إلى عُماله في سائر الأقطار بأن يُنشئوا خانات – فنادق- يستريح فيها المسافر يوما وليلة على نفقة الدولة، وتتلقى فيها حتى دوابه الرعاية اللازمة.
وحين اغتنى الناس ولم يجد عماله من يأخذ الصدقة، أمر بأن يشتروا بالمال قمحا وينثروه على رؤوس الجبال لإطعام الطير .
وفي القرن الثاني للهجرة نشطت الحركة الثقافية والعلمية، وازداد الشعور بأهمية التأليف و الترجمة. فكانت مبادرة الخليفة العباسي المأمون لتأسيس بيت الحكمة خطوة رائدة، تلاها فن جديد من التصدق ،يعتمد على جلب الكتب العلمية النادرة وترجمتها لتكون في متناول طُلاب العلم. ففتح الباب على مصراعيه لظهور الوقف الخاص بالكتب والمكتبات.
ولأن التصدق فنون، فإن المال ليس سوى مدخل من بين مداخل عدة لتحقيقه. إذ يمكن للمسلم أن يتصدق بفائض طاقته البشرية. ولهذا الفن أصوله في السّنة، كالتوجيه النبوي المتعلق بإماطة الأذى عن الطريق، وأن يكون المسلم في حاجة أخيه “مع توسيع لمدلول الحاجة”، وكل صيغ التعاون المندرجة تحت مسمى البر.
تسعفنا فنون التصدق في الحد من ظاهرة التسول التي صارت حرفة من لا حرفة له. وانحصر مدلول الصدقة لدى معظم الناس في دريهمات يضعها المرء، عند خروجه من المسجد أو مركز التسوق، في يد السائل والمحتاجة. وإنه لمن المحزن أن تطالعنا دور النشر الغربية بكتب عن قوة العطاء وفن العطاء، والصيغ المبتكرة لإعادة تمتين العلاقات الإنسانية وإشاعة قيم التضامن والتعاطف، في الوقت الذي يُهدر المعوزون ببلادنا كرامتهم و آدميتهم على الأرصفة.
لا ننكر في هذا الصدد آلاف المشاريع الخيرية التي تعج بها بلاد المسلمين، والجهود التطوعية التي يبذلها الملايين من الشباب لاستعادة قيمنا وإنسانيتنا. لكن يلزمنا مزيد من حرارة العطاء، أعني تلك الدفقة الشعورية التي لا تجعل الأمر مجرد تخلص من الفائض أو تدوير لسلع منتهية الصلاحية.
يُحكى أن رجلا من العرب شوهد في يده قطع من الخبز يكسرها ويلقيها بجانب جدار بيته إلى النمل. فقيل له: مالك وللنمل؟ فأجاب : هن جارات ولهن حُرمة ! وليست فنون التصدق سوى مرآة لتلك الحُرمة التي نأمل استعادتها في عالم استحوذت عليه الأنانية .