عندما تنتهي من قراءة كتاب نظام التفاهة [1] تشعر مدى التلاقي بين القلق النبوي من أن يتسيد التافهون للشأن العام، والذين وصفهم الحديث الشريف بـ”الرويبضة[2]“، وبين قلق “آلان دونو” على مستقبل الإنسانية من التفاهة، فالنبي-صلى الله عليه وسلم- جعل تحدث التافه في شأن العامة من علامات الساعة[3] ونهاية الزمان، ووصف هؤلاء التوافه بـ”الرويبضة” فالتافه في تلك الحالة يضع معايير المجتمع، ويصنع نخبته، وفي تلك الحال يكون الخراب هو المصير المحتوم.

الفكرة المحورية لكتاب نظام التفاهة تؤكد أن البشرية تعيش مرحلة غير مسبوقة في تاريخها بعدما سيطر التافهون على جميع مفاصل الدولة الحديثة، وتلازم مع هذه السيطرة وضع قواعد تتسم بالرداءة والانحطاط المعياري، تسببت في اختلالات في نظم الجودة والأداء، وتهميش لمنظومات القيم، وبروز للأذواق المنحطة، وخلو الساحة من التحديات، وأصبحت كل تلك الأزمات تصب في خدمة الأسواق تحت شعارات من الديمقراطية والحرية الفردية التي أصابت معانيها الابتذال.

بنيوية التفاهة

“العالم لن يفنى بسبب قنبلة نووية كما تقول الصحف، بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة التي ستحوّل الواقع إلى نكتة سخيفة”[4]، هناك انتشار للتفاهة في العالم، فالتسطيح يضرب بجذوره في المجتمعات بهدوء وإصرار، حتى أصبح الجسد الاجتماعي مصابا بالفساد بصورة بنيوية، وتجلى ذلك في فقدان الاهتمام بالشأن العام، وانصراف الفرد إلى شأنه الخاص، فأصبحت المجتمعات تعاني من الانحدار دون إبداء أي مقاومة، كذلك غاب المعنى عن غالبية مظاهر الحياة الإنسانية وتحولت السلبية إلى قيمة تجد من يمجدها ويدافع عنها، وكثر الحديث المضلل عن الحياد في الرأي والكتابة والشأن العام باعتباره فضيلة، وظهرت مهارات الاقتناع السريع بالرأي دون مناقشته، وغاب الشك المنهجي والرؤى النقدية، وتلك حالة حذر منها فلاسفة مسلمون قبل مئات السنين، مثل “أبو حامد الغزالي” في قوله:”من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر يبقى في العمى والضلال.. فـ الشك أول درجات اليقين”، ودائما اليقين يصنع الإنسان الممتليء وليس إنسانا فارغا تصفر فيه الريح، لذا أكد المؤرخ “ويل ديورانت” أن “الفلسفة تبدأ عندما يبدأ الإنسان في تعلم الشك” لأن “ما يُنشد بواسطة العقل، يفرض الشك نفسه كوسيلة إلى المعرفة”[5].

وتدعم التفاهة السلبية من خلال استخدامها لـلغة الخشبية، تلك اللغة الجوفاء التي تعتمد الحشو والتكرار، وتوهم الناس بالكلام المستجد دون أن يكون جديدا، والذي يوصف بالكلام الساكت، وهو ما أشار إليه الفيلسوف “أبو حيان التوحيدي” بقوله: “فن بلا إشباع ولا كفاية”، أو بتعبير “أبو سليمان المنطقي”[6]: “تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما أُجروا، وحاموا وما وردوا، وغنوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفلوا”، وتلك اللغة تحدث عنها المفكر “مالك بن نبي” بقوله: “كلام مجرد من أية طاقة اجتماعية، أو قوة أخلاقية”.

الغريب أن الكتاب يؤكد أن الأكاديمية والجامعة دعمت استشراء التفاهة في المجتمعات، فمع هوس الحصول على الدرجات العلمية من ماجستير ودكتوراة ، للوجاهة الاجتماعية، أصبحت المعرفة سلعة، وتحولت الكثير من الجامعات من منتج للمعرفة إلى تاجر فيها، فصارت التفاهة خيارا مؤسسيا ، وهو ما حذر منه عالم الاجتماع الشهير “ماكس فيبر” قبل قرن في كتابه “العلم بوصفه حرفة”، كذلك فإن المبالغة في خلق التخصصات الجامعية الدقيقة تسبب في التفاهة،  لأن غياب الفلسفة أوجد فقرا فكريا عميقا، فمع دعاوى التخصص أخذت الفلسفة تبتعد عن العلوم والمعارف، وعندما مشت الجامعات في طريق التخصص الدقيق أصبحت تتلقى التمويل من الشركات التجارية، وأصبح الأساتذة والطلاب يعملون على مشاريع الشركات، وأنتجت الجامعة خبراء ذوي تخصص دقيق يخدم السوق، ولم تنتج علماء من ذوي الأفق الواسع القادر على مواجهة مشكلات الحياة، لأن الخبير ممثل للسلطة وينتج أفكاره مقابل الحصول على منافع مادية، وعلاقته بالعلم قائمة على المصلحة والمنفعة، أما العالم والمثقف فهو حالة تحركها دوافع أخلاقية ونضالية، كذلك فإن المغالة في التخصص أوجد تخصصات لا جدوى فيها ولا منها، وغابت فكرة الإحاطة العلمية، وقيم التفكير العلمي.

ومن أجل مأسسة التفاهة ظهرت في الحقل العلمي ما يسمى بـ”الحوكمة المؤسسية” التي تُعني بتحقيق التوازن بين الأهداف الاقتصادية للمؤسسة والأهداف المجتمعية، وانتقلت الحوكمة من المجال التكنوقراطي إلى الحكم والمجال السياسي، فتم استبدال الحوكمة مكان السياسة، وفرغت السياسة من الأفكار الكبرى؛ كالحق والواجب والقيمة والصالح العام لصالح الحوكمة، وتحول الاهتمام بالشأن العام من كونه سياسيا قيميا إلى مجرد إدارة علمية، وخلا العمل من منظومات الأخلاق والقيم والمُثل العليا، وصار الهم العام هو الخصخصة، وأصبحت غاية المشاريع العامة هي الربحية، فتحولت الدولة إلى شركة تجارية، وفي ظل تلك الروح جرى تنميط العمل.

التفاهـة والثقافة

اهتم الكتاب بالحديث عن التفاهة في المجال الثقافي، بعدما صارت الثقافة أداة لتوطيد نظام التفاهة، وأنتجت الثقافة لغة ومصطلحات تغطي على حقيقة الأشياء، فمثلا جرائم الزنى أصبح يطلق عليها “جرائم الآداب”، وهو ما أفقد الاحساس الاجتماعي بالمعنى السليم، وشغب على منطقة الإحساس بالمسلمات.

ومن خلال الصحافة انتشرت التفاهة، فالصحافة في حقيقتها ذات طبيعة اختزالية ترتبط بتوجهات مالكيها ومصالحهم وقناعاتهم، فالصحافة صناعة، وما يحركها هاجس الربح والمصلحة والتسويق، لذا يفهم انتشار صحافة التابلويد Tabloid المهتمة بالفضائح وأخبار المشاهير، وهي تنشر مادة تافهة، وهنا يطرح سؤال: ما هي حدود حرية التعبير وتدفق المعلومات في ظل تزايد ضحايا الصحافة الذين اعتدت على حياتهم الخاصة والشخصية؟ خاصة في ظل انتشار ظاهرة “الأميون الجدد” الذين تحدث عنهم الشاعر الإسباني “بيدرو ساليناس” “أولئك الذين يحومون حول أكشاك الصحافة من القراء الذين يتشممون الفضائح، وهؤلاء لا يطمحون إلى الوصول إلى معرفة مقدسة”.

وتجلت التفاهة فيما يصدر من كتب، فالأدب أصبح يخلو من الصعوبة والتحديات، فقوائم الكتب الأكثر مبيعا تكشف في كثير من الأحيان عن التفاهة، كما شملت التفاهة التلفزيون الذي صارت أحد معايره الجمال حتى ولو كانت صاحبته بلهاء، وزادت شبكات التواصل الاجتماعي من التفاهة، وهذه صنعت عقلا جماعيا من التفاهة، وصار بإمكان التافهين أن يكونوا رموزا من خلال عدد الاعجابات التي يحصلون عليها، ويلاحظ هنا تقلص صور النجاح التي تعارفت عليها البشرية والتي كانت معاييرها العمل الجاد والصالح أو التفوق، لصالح معيار واحد هو المال.

والحقيقة أن ما  يُمكن للتفاهة أن تنتشر وتترسخ، أمران: الأول: البهرجة والابتذال، فبعض الناس قد يلجأ إلى الفظائع بحثا عن الشهرة وبهرجتها، لذلك كان السياسي الفرنسي في القرن الثامن عشر تاليران يقول:”كل ما يُبالغ فيه هو أمر غير ذي أهمية”، والثاني: المبالغة في التفاصيل: وهنا تضيع الحقيقية ويغيب المعنى، وقد وصفهم الفيلسوف نيتشه بقول بليغ عندما تحدث عن الشعراء الذي يهتمون بالقصائد الخالية من القيمة بقوله”هؤلاء يكدرون مياههم، كي تبدو عميقة”، فالتفاصيل مرهقة ومضللة، لذلك كان مالك بن نبي يقول:”فكرنا خاضع لطغيان الشيء والشخص, وهذا السبب سيختفي عندما تستعيد الأفكار سلطانها في عالمنا الثقافي” فالتفاصيل وكثرتها عائق أمام الفهم وبناء الفلسفة والرؤية والإدارك، وهذا يجعل هناك إسباغ من الأهمية على كل شيء غير ذي جدوى أو معنى، وفي ظل تلك الحالة البائسة يتحول كل شيء إلى هدف واحد وهو الحصول على المتعة، لذا قلما تجد في الحياة شخصا ينطبق عليه قول الصوفي شمس الدين التبريزي “الذين يعبر نور الله من خلالهم”.


[1] كتاب “نظام التفاهة” تأليف “آلان دونو” ترجمة مشاعل عبد العزيز الهاجري، والصادر عن دار سؤال بيروت في طبعته الأولى عام 2020 في 366 صفحة، وصدرت طبعته الفرنسية عام 2017، ومؤلف الكتاب هو “آلان دونو” أستاذ الفسلفة في جامعة كيبيك الكندية، وهو من المناهضين للرأسمالية المتوحشة خاصة في التعدين

[2] الرويبضة التي جاءت في الحديث لها عدة معان، فقيل: الرُّوَيْبِضَةُ : تصغير الرابضة، وهو راعي الربيض، والربيض: الغنم، والهاء للمبالغة، وقيل: الرُّوَيبضة تصغير الرَّابِضة، وهو العاجز الذي رَبَضَ عن مَعَالي الأمُور، وقعَد عن طَلَبها، وزيادة التَّاء للمبالغَة، وقيل التَّافه: الخَسِيس الحَقِير .

[3] ورد هذا الحديث الشريف في عدد من كتب السنة المطهرة، منها مسند أحمد، وسنن البزار وابن ماجة، ومستدرك الحاكم، وصححه الألباني، وقد ورد الحديث بصيغ متعددة، كلها تشير إلى تصدر الأشخاص التافهين للشأن العام.

[4] مقولة للروائي الاسباني “كارلوس رويث ثافون” في روايته “ظل الريح”

[5] مقولة للكاتب خالد محمد خالد

[6] أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني المنطقي شخصية من الشخصيات القوية الفذّة التي ظهرت في عالم بغداد في القرن الرابع للهجرة.