( أدب الفقهاء) كتاب ألفه العلاّمة عبد الله كنون [1326-1410هـ/1908-1989م] ليحامي عن العطاء الإبداعي للفقيه، ويُثبت أن له قدما راسخة في دنيا الأدب والتعبير الجمالي عن أحوال النفس البشرية. غير أن المطلع على سيرة هذا المفكر والأديب المغربي يشعر أن صاحب (النبوغ المغربي) ينافح عن نفسه، ويدافع عما طرأ من تحول في مسار حياته.
نشأ عبد الله كنون في كنف أسرة تتصف بالعراقة والمكانة العلمية. وتلقى منذ صغره تعليما دينيا حيث حفظ القرآن على يد والده، وتبحر في علوم الشريعة واللغة العربية بحسب المناهج السائدة آنذاك في المغرب. غير أنه أظهر ميلا مبكرا للأدب والتاريخ، وتجاوبا واضحا مع حركة النهضة والتجديد التي كانت طلائعها تلوح من المشرق.
وجّه كنون اهتمامه منذ شبابه للحياة الفكرية والسياسية كتعبير عن نضاله ضد الاحتلال الأجنبي. وسعى لإعادة الألق للأدب المغربي وربطه بالمشرق، من خلال الكشف عن ذخائر العطاء الحضاري للمغرب وأعلامه. والتمكين للغة العربية وآدابها في فضاء يعج بألوان التفرقة وإحياء النعرات، وتفكيك عرى الوحدة الوطنية. ويشهد إنتاجه الذي ناهز مئة كتاب على الدور القيادي الذي اضطلع به كنون كأحد رواد الثقافة العربية، والنموذج الريادي للمثقف المؤمن بمقومات الشخصية المغربية وإسهاماتها في إثراء الفكر الإنساني.
ضمن هذا السياق يَرد مؤلَفه (أدب الفقهاء) الذي سعى من خلاله إلى تحقيق غايتين:
أولاهما هي توجيه الدراسات الأدبية إلى استيعاب العطاء الأدبي للفقهاء، وإبراز قيمته الفنية والجمالية. وهنا يكشف كنون عن تذمره من حالة الانشطار السائد داخل الثقافة العصرية، والأحكام الجاهزة بحق الفقهاء، فيعلل إصداره بالقول:” هذا بحث طريف في موضوع أدبي شائق، طالما أغفله الكتاب وتجنى عليه النقاد، وهو أدب الفقهاء وأعني شعرهم المغموز ظلما بالضعف، والمضروب مثلا لكل شعر ليس بذاك.”
والثانية هي تحقيق الصلة بين الأدب المغربي ونظيره المشرقي، ضمن خطوة لإزاحة الستار الكثيف الذي اجتهد الاحتلال الأجنبي في إسداله بين أقطار الأمة العربية. ناهيك عن إصراره الدائم على إدراج أعلام المغرب ضمن السياق الطبيعي لتطور الحركة الأدبية والفكرية بشكل عام.
بداية يؤكد المؤلف على أن معيار النقد الذي يجب أن تسترشد به الدراسات الأدبية في تقييمها للمنجز الإبداعي، بشقيه النثري والشعري، هو التمكن من المادة الأدبية، ومدى توفر المَلَكة بما تعنيه من جمع بين طاقة الإنتاج والذوق. وهذه الموضوعية كفيلة بأن ترد لأهل العلوم الشرعية اعتبارهم، وتُحرر النقد الأدبي من التحيز والفرضيات المسبقة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يكشف المؤلف عما تمتع به بعض أعلام الفقه من ثقافة أدبية متينة، وشاعرية تعبر بعمق عن أسمى مظاهر الوجدان الإنساني وتقلبات الروح في عالمها الفسيح؛ دون أن يخدش ذلك مكانتهم العلمية أو وظائفهم الشرعية. ولا ينسى كنون في هذا الصدد أن يبدد التمثل السائد لدى أغلب الكُتاب بكون الشعر الذي ينظمه الفقهاء ليس سوى قالب أدبي لاستعراض الأحكام الفقهية، والمواعظ والاختلافات المذهبية؛ حيث يخصص القسم الثاني من مؤلفه لتناول الموضوعات التي تطرق إليها الفقهاء في إبداعاتهم، وهمّت كل أغراض الشعر دون استثناء.
في القسم الأول الذي يُعنى بالناحية التاريخية، يحشد كنون جملة من الأدلة التي تلغي المسافة القائمة اليوم بين الفقيه والأديب، ففي مدرسة الصحابة تردُ نماذج حية جمعت بين الفقه والشعر كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وفي طبقة التابعين يتردد اسم الفقيه المحدث عروة بن أذينة، الذي روى عن ابن عمر وروى عنه مالك بن أنس. وكان له شعر عاطفي رقيق كَلف الناس به، ويكشف فيه عن روح الإسلام والثقافة السمحة التي تمتع بها مجتمع المدينة المنورة آنذاك.
أما بقية الفقهاء وأئمة العلم فلم يشغلهم تفريع المسائل والفتوى في النوازل عن التعبير عن مكنونات صدورهم كسائر الناس، واستلهام أنماط التعبير الأدبي الشائعة في كل عصر لتناول الهموم الاجتماعية، وأحوال النفس وآمالها. كل ذلك بعبارة رشيقة، ولغة رصينة، وإحساس عميق بالجمال.
فالشافعي رحمه الله إلى جانب فقهه وإمامته في العلم كان شاعرا مفلقا. وديوانه في الآداب وأحوال الدنيا أشهر من نار على علم.
ولعبد الله بن المبارك أشعار ذائعة الصيت في إصلاح المجتمع، وانتقاد أهل السياسة المتلاعبين بالدين. ولا يزال صداها يتردد حتى اليوم في ثنايا الدروس والكتيبات التي تُعنى بالإصلاح الديني.
وكان للقاضي عبد الوهاب بن نصر، أحد أعلام مذهب مالك ببغداد، أشعار غاية في الرقة والجمال. وقد أثنى أبو العلاء المعري على شاعريته عند اجتياز القاضي لبلدة المعرة في طريقه إلى مصر، حيث أنشد قائلا:
والمالكي ابن نصر زار في سفر
بلادَنا فحمدنا النأي والسَفرا
إذا تفــقــه أحيـــا مالكــا جدلا
وينشر الملك الضلّيل إن شعرا
فشبهه بالملك الضلّيل، وهو امرؤ القيس، تأكيدا لنبوغه الأدبي.
كذلك أبدى ابن حزم الظاهري باعا طويلا في قول الشعر على البديهة. وخلّف أبو الوليد الباجي والقاضي عياض وأبو علي اليوسي وغيرهم، قصائد تنم عن تمكن من الصنعة الشعرية.
إلى جانب المعطى التاريخي الذي يحتج به كنون على رسوخ قدم الفقيه في القول الأدبي عموما، ينتهج في القسم الثاني من الكتاب سبيلا آخر هو الناحية الموضوعية التي تهتم بأغراض الشعر وفنونه، ومدى تجاوبهم مع تفاصيل الحياة اليومية، وانشغالات الناس التي تدور حول المعاش قبل المعاد؛ فيعرض لنماذج من أدب الفقهاء تغطي المواضيع المتعارف عليها بين الدارسين. ويحدد الخصائص التي تميز القول “الفقهي” كل غرض من أغراض الشعر.
على سبيل المثال يتميز العطاء الفقهي في شعر العاطفة والوجدان بشيء من التحفظ الذي يقتضيه وقار العلم، ولذلك ابتدعوا الأسلوب الرمزي واهتموا بالصفات المعنوية، مما جعل أشعارهم خالية من دواعي التهتك وتحريك الغرائز البشرية. و بالرغم من ذلك لم يسلم بعضهم من التشنيع، مثلما حدث للقاضي أبي حفص بن عمر الذي اشتهرت بين الناسِ مُقطعاته الرائعة في الغزل؛ فسعى به الوشاة إلى الخليفة المنصور الموحدي، وزعموا أنه “غير حافظ للناموس الشرعي “،فنقله من قضاء فاس إلى قضاء إشبيلية.
وفي الشعر الفلسفي عرضوا لبعض المباحث الفلسفية، كالوجود، ومصير الإنسان، وفلسفة الحياة و الموت، دون دخول في التفاصيل أو استدعاء لآراء الفلاسفة؛ كالقصيدة العينية لابن سينا، وقصيدة ابن الشبل البغدادي التي يقول في مطلعها:
بِربكَ أيها الفلك المُدار
أقصدٌ ذا المسيرُ أم اضطرار؟
أما شعر الآداب والحِكم فهم مصدره وواضعوا قواعده؛ لذا احتوت قصائدهم على زبدة ما جاءت به الشريعة وأيدته الحكمة، يقول المؤلف، كما في أدب الشافعي والجرجاني وأبي الفتح البستي و غيرهم.
وفي باب المدح لم يكن معظمهم يمدح رغبة في المال أو جوائز الأمراء، لأن ذلك يتعارض في حالات كثيرة مع واجب التصدي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحق الرقابة على سياسة الدولة. ومعلوم أن هذين الركنين يقتضيان صراحة وشفافية لا تتحملها قصائد المدح كما هو الشأن لدى بقية الشعراء، ممن يبالغون في مدحهم إلى درجة الاستهتار والكذب. لهذا نجد أن أغلب عطائهم في هذا الباب موّجه لتمجيد الذات الإلهية، ومدح الرسول ﷺ، وبعض من يستحقون الثناء من الأمراء والعلماء والصالحين.
ولأن الفقهاء بشر من الناس، وتستفزهم أهواء النفس فيغضبون ويثورون، وتنشأ بينهم أسباب النقد والخصومة، فإن عطاءهم امتد كذلك لغرض الهجاء؛ إلا أنه هجاء لا يحمل صاحبه على الفحش و السباب، بل يلجأ في معظمه إلى التعريض والكناية. ومجمل قولهم الشعري في هذا الباب لا يتعدى أبياتا قليلة.
وكما هو الشأن في المدح فإن مراثيهم كانت تصدر عن عاطفة صادقة بلا مجاملة أو تكلف. بل منهم من اشترط ألا يكون الرثاء إلا في حق خمسة هم: العالم، والإمام العادل، والكريم، والمجاهد، والتقي الزاهد. ويختم بقوله:
فهم خمسة يُبكى عليهم وغيرهم
إلى حيث ألقت رَحلها أمُ قشعم
ويتوقف المؤلف عند نقيصة ألحقها النقاد بالأدب العربي، حين يثيرون مسألة خلوه من الأدب الملحمي الذي حفلت به الآداب الأجنبية. ويستغرب كيف اندفع بعضهم لتأكيد وجود نماذج منه في القصص الشعبية مثل السيرة الهلالية وسيف ابن ذي اليزن، في حين أن الفقهاء تصدوا لهذا اللون بامتياز في المطولات التي تتناول السيرة النبوية، كبردة البوصيري وهمزيته، والوتريات لابن رشيد البغدادي وغيرها. وتكشف الخطوط العريضة لهذه القصائد عن مزاوجة فريدة بين سرد الوقائع والأساليب البيانية، وعرض الحدث ضمن صورة شعرية. لذا يرى المؤلف أن هذه المطولات ليست نظما للسيرة النبوية ولكنها عمل فني ذاتي موضوعه السيرة.
وفي الختام يثير المؤلف مسألة النظم التعليمي، والمتون التي يعتمدها طلاب العلم في دراساتهم؛ منبها إلى أن الأدباء هم أول من تعاطى هذا اللون، حين نظم الأديب العباسي أبان اللاحقي كتاب (كليلة ودمنة) ليسهل حفظه. ورغم أن مراميه تعليمية صرفة إلا أنه يتطلب قدرا من المعاناة في صياغة قواعد العلم، والحرص على المزاوجة بين السهولة التامة وقيود النظم.
لم يُخف عبد الله كنون توجسه من استمرار الفجوة بين الدراسات الأدبية والإنتاج الشعري القيّم المتصل بالدين وعلوم الشريعة. ويرى أن الثقافة الإسلامية تقتضي رأب الصدع المفتعل بين الفقه و سائر الآداب والفنون التي تروم تهذيب الحس الإنساني، وتغذيته بقيم الجمال والخير والحب الصادق. إنه الوضع الأمثل الذي يُحررنا من انشطار مؤلم، عبّر عنه أبو الفضل النحوي بقوله:
أصبحـت فيمـن لهم عـلـم بلا أدب
ومَن لهم أدب عـارٍ عن الديـن
أصبحت فيهم غريب الشكل منفردا
كبيت حسانٍ في ديوان سحنون.