نحتاج في شهر رمضان الكريم إلى تهذيب الصيام، وسط ارتباط حلول رمضان في الآونة الأخيرة بجلبة في وسائل الإعلام المتنوعة، يذهب شطرها الأول مذهب أهل الفن والتسلية والترويح عن الصائمين، بينما يطرق الشطر الآخر مجالس الوعظ و الدرس، ويستلهم أدوات العصر لإنتاج مؤثرات دينية تحفز الصائم على ألوان العبادة، من ذكر وتلاوة وقيام وغيرها.
يظل الصوم، كعبادة مستورة بين العبد وربه، بحاجة إلى تهذيب وتخليص من شوائب العادة، وارتفاع بالنفس عن بعض التقاليد والسلوكيات التي تجنح بهذه الفريضة عن مقاصدها الحقة. ذلك أن المقاربة الإعلامية لهذا الشهر الفضيل بالغت في إضفاء طابع الفولكلور والاحتفالية على طقوس الصيام، حتى صار المتخيل الشعبي لرمضان مقرونا بمائدة الإفطار والفرجة الساخرة وأنشطة السمر !
والتمييز بين العادة والمقتضى الإيماني في الصوم مسألة لفتت انتباه علماء الأمة منذ أمد بعيد. حيث لمس بعضهم مظاهر التفكك في العبادة، وبروز فجوة مؤلمة بين الشعائر ومقاصدها التي حددها الشارع الكريم. يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي:” كثير من الناس يمشي على العوائد دون ما يوجبه الإيمان و يقتضيه، فلهذا كثير منهم لو ضُرب ما أفطر في رمضان لغير عذر، ومن جُهالهم من يفطر لعذر ولو تضرر بالصوم، مع أن الله يحب أن يقبل منه رخصته، جريا منه على العادة، وقد اعتاد مع ذلك ما حرمه الله من شرب الخمر والزنى، وأخذ الأموال والأعراض أو الدماء بغير وجه حق، فهذا يجري على عوائده في ذلك كله لا على مقتضى الإيمان [لطائف المعارف.ص361]
يحتج ابن رجب في هذه الأسطر على العوائد التي تُفرغ شعيرة الصوم من مقاصدها، ولا يكون لها أثر على سلوك المرء وحركته داخل المجتمع. فالتعظيم الزائف للصيام لا ينطوي على بُعد إيماني أو التماس للتقوى، بما تعنيه من ندم على المعاصي وكف عن الإثم والأذى. والمَشاهد في واقعنا اليومي تؤكد ما يذهب إليه ابن رجب، مما يدفعنا للتساؤل حول جدية الواعظ أو الداعية في قراءة الواقع، وبحث سبل التخلص من هيمنة العادة وخطرها على تجريد الطاعة من لوازم الشعور الإيماني.
يقتضي تهذيب الصيام بحثا متجددا في دقائقه وأسراره، وآثاره الاجتماعية والحضارية على الفرد والمجتمع. ومن شأن هذا البحث أن يحرر الفريضة من حضورها الموسمي ليصبح الصوم تجربة فردية مستمرة، يقتبس المسلم من جوعها وظمئها تزكية توجه النظر والسلوك. وللحكيم الترمذي إشارة لطيفة حول هذا المعنى حين يرى أن ابن آدم خُلق أجوف، ووُضع في جوفه الإيمان، والعلم، والحكمة، والعقل، والفهم، والسكينة، والوقار؛ وهي بمثابة جنود القلب. بالمقابل تنتصب جنود النفس ممثلة في الرغبة، والرهبة، والشهوة، والغضب، والمكر، والحرص، والجبن، والبخل. وحين يمتنع المرء بالصيام عن عادة النفس، يكون قد بذلها لله تعالى واستسلم إليه؛ “فإذا قبلها زكت بما أعطيت من الإيمان، والعقل، والعمل.”[ إثبات العلل.ص178]
وتزكية النفس ليست العلة الوحيدة برأي الحكيم الترمذي، بل يحقق الصوم أيضا نوعا من الشبع الروحي أو لذة العبادة، لأن قوامه الامتناع عن عادة النفس وليس فعل الأركان كما في سائر العبادات الأخرى. وبما أن النفس تثقل بالصيام، يكافئها الحق سبحانه بفرحتين: فرحة حلول البركة وزكاة الجسد عند فطره، وفرحة حين يلقى ربه ويرى ثوابه. ولو صام شهر رمضان ثم أتبعه ستا من شوال، فإن حساب الأجر والثواب يضفي على عمره بركة جارية ودائمة !
ومن آثار تهذيب الصوم التي ينبغي توجيه النفوس إليها أن الله تعالى لمّا قرنه بالتقوى في الآية الكريمة ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون))البقرة-182. دلّ النفوس على مَلكة تجتمع فيها نزاهة الدنيا وسعادة الآخرة. فالصوم، يقول الشيخ محمد عبده، أمرٌ موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه فيه إلا الله تعالى، وحين يدع شهواته التي لولا اطلاع الله تعالى عليه ومراقبته لما صبر عليها، يحصل له من تكرار ذلك ملكة المراقبة لله تعالى والحياء منه أن يراه حيث نهاه. وفي هذه المراقبة كمال الإيمان بالله وتعظيمه وتقديسه من جهة، ومؤهل لضبط النفس عن اقتراف المعاصي، وتدريبها على الفيء والرجوع بالتوبة من جهة أخرى [الأعمال الكاملة.ج4.ص439].
تنطوي علة الصوم وأحكامه على مدلولات اجتماعية وحضارية، تستمد منها الأمة ما تحتاجه في مضمار التدافع من قوى نفسية وخلقية. لذا يشكل رمضان، برأي الدكتور مصطفى السباعي، دورة تدريبية لتجديد المعاني وتعبئة القوى، ومنعطفا روحيا لإصلاح التاريخ. إن المرء حين يصوم فإنه يخوض معركة نفسية تدوم لساعات، لكنها تُكسبه خلق الرجولة التي تأبى الاستسلام في ميادين البطولة، وتمنحه ثلاث قوى معنوية شكلت قوام الجندية الإسلامية في عصر الدعوة والفتوحات، وهي الصبر والطاعة والنظام.
ويمتد أثر الصوم إلى الوشائج الإنسانية، فينفخ الروح في خلق المواساة، ويُذكّر بالرابطة الاجتماعية التي يعطف الغني بموجبها على الفقير، ويجدد الصلة بالجار والقريب. حيث أن رمضان، يقول الدكتور السباعي، فقر إجباري يتساوى فيه الناس جميعا، فتكون الآلام المحركة للمواساة ناشئة عن تجربة واقعية لا عن مجرد التخيل. ومن الآلام تنشأ الرحمة، ومن الرحمة تنبعث العدالة [أحكام الصيام وفلسفته.ص62].
وأمام التمادي المفرط في التبضع والاستهلاك، وتكديس الحياة اليومية بألوان الترف، يحقق الصوم أثرا نفسيا بالغ الأهمية هو ضبط النفس وتقييد الشهوات. ومعلوم أن الترف يُولد الرخاوة والليونة، ويهز المجتمع حين يواجه فترات عصيبة، لأن التعود على نمط من الملذات يؤدي إلى سقوط الهمم وخور العزائم. وفي الحديث الشريف الذي أخرجه الطبراني عن أبو أمامة الباهلي: (سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام، ويشربون ألوان الشراب، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام، فأولئك شرار أمتي) أخر صححه الألباني-3663. لكن حين يثمر الصيام جهادا نفسيا أمام تقاليد الإسراف والترف، فمن شأن ذلك أن يُحدث تغييرا في السلوك العام، ويحمل المسلم على الاقتصاد الشديد في مباهج الحياة وزخرفها، عملا من جهة بمبدأ الوسطية، وتجاوبا مع انشغالات الأمة وهمومها من جهة أخرى.
إن القصد من تهذيب الصيام هو البحث فيما وراء صورتي الجوع والعطش من معان وقيم إنسانية، وإشارات هادية تصحح مسيرة البناء الحضاري للأمة، وتقي المجتمع مغبة الارتداد إلى شريعة الغاب. ولا أدلّ على ذلك من المفارقة المؤلمة التي يثيرها رمضان كل سنة، حين يجد المسلم نفسه أمام امتحان القدرة واحتمال المكاره، فيطيع راضيا، بل ويستقبل شهر الصيام بحفاوة؛ وما إن تنصرم أيامه حتى يتجدد خطاب التردد والأعذار، والإخلاد إلى الأرض !