يقع متن الكتاب الصادر عام 2019 لمؤلفه حسن بزاينية في 158 صفحة توزعت على مدخل (30 صفحة) وثلاثة فصول، ويبرر الكاتب – في مدخله- اختياره للاستشراق الفرنسي لأسباب أبرزها أنها أقل “فنتازيا – من الاستشراق الأنجلوسكسوني- إلى جانب اللغة الفرنسية السائدة في المغرب العربي ووصف المستشرقين الأربعة الذين اختارهم (رودنسون وشابي وبريمار وديكوبير) بأنهم “أكاديميون” أكثر موضوعية من غيرهم، وهدف الكتاب تحديد مكانة الاستشراق الفرنسي في سياق الاستشراق بشكل عام. ثم أطلَ على بعض الدراسات العربية للاستشراق ونقد “التجزيئية” فيها.
في الفصل الأول (المستعرب والنبي) ويخصصه لكتابات رودنسون الخاصة بالسيرة النبوية عبر المنهج التاريخي مع إقرار رودنسون بصعوبة توظيف القرآن- وهو ما اعتمده- في هذا المجال بخاصة أن المصادر العربية ” طغى عليها النزعة التمجيدية”. ورغم اعتبار المستشرقين أن القرآن “نص مضطرب ومكرر وفيه أخطاء أسلوبية “إلا أن رودنسون اعتمد على الحدث الكلي أو الاتجاه العام متجنبا التفاصيل، كما أن رودنسون وظف علم الآثار في دراسته، كما أشار الكاتب إلى أن رودنسون يتميز عن غيره في أنه رفض اختصار أبعاد شخصية الرسول في البعد السياسي، ورأى في رؤى الرسول تعبيرا عن مخزون “لاوعيه”.
ويرى رودنسون أن نشوء الإسلام جاء كنتيجة لأزمة اجتماعية من ناحية وردا على النظرة المتعالية للمسيحيين واليهود تجاه العرب (رغم أن هؤلاء اليهود والنصارى هم عرب كما يعلق المؤلف على رودنسون)، ويميل – حسب الكتاب- رودنسون لتفسير الحروب الإسلامية بأنها بحثا عن الموارد (التفسير الماركسي الذي يتبناه رودنسون) بينما يرد الكاتب أن الحروب هي “لتوحيد القبيلة العربية”، ويسجل الكاتب ميزة لرودنسون أنه كتب السيرة في سياق إقليمي (الصراع الفارسي الروماني) وهو بُعد أهملته الكتابات الاستشراقية المعاصرة، وأثنى الكاتب على رودنسون اعتماده إلى جانب المنهج النقدي التاريخي والسرد التاريخي وعلم الآثار على “الفيلولوجيا” ( المقارنة اللغوية) بخاصة ضمن عائلة اللغات السامية وصلة النص القرآني وأوصاف الجنة باليهودية والمسيحية.
ويناقش الكاتب ما أورده رودنسون حول بعض الموضوعات: أمية الرسول، قصة الغرانيق، وقتل بعض الأفراد بأمر من الرسول وتقديم صور بشعة لعمليات القتل هذه، ويفسرها الكاتب بأنها نتيجة لصورة ذهنية مستقرة في لاوعي رودنسون من فترة المحرقة النازية. كما ينتقد الكاتب رودنسون في موقفه من الحرب وفي مناقشته النزعة الجنسية العالية للرسول، وكيف خلط رودنسون في فهمه لنصوص القرآن بين “القَدَر وبين القَدْر).
في الفصل الثاني يناقش الكتاب مساهمات المستشرقة جاكلين شابي بخاصة كتابها “رب القبائل”، ويصف الكتاب المستفيد من المناهج الجديدة (تحليل الخطاب، والاثنولوجي، والدراسات السردية) بأن فيه إطناب، وينتقد تشبث “شابي” بفكرة تدور حول دور قبيلة الرسول وامتناع القدرة لديه على تصور عالم غير عالمه واعتمادها في ذلك على مراجع مستشرقين عنصريين مثل “لامنس” بخاصة رأيه المتعصب للغاية في موضوع السيرة النبوية، وناقشها الكاتب في تفسيرها لعدد من الموضوعات مثل فكرة “رب العالمين “، واعتقادها بوثنية الرب القرآني قبل تماهيه مع إله ابراهيم، ودلالات الحجر الأسود، وفكرة أن الانتقال من عالم القبيلة إلى عالم الامبراطورية “قطع صلة القرآن بوسطه الوثني”، ووثنية الحج.
وفي الفصل الثالث (جهود فرنسية أخرى في بحث نشأة الإسلام وسيرة النبي)، يتهم الكاتب الاستشراق الفرنسي بأنه مقلد للأنجلوسكسوني ويدلل على ذلك بدراسات بريمار (كتاب الهاجرية) ثم باتريشيا كرون ومايكل كوك (كتابهما: تشكل العالم الإسلامي) والمستشرق ديكوبير(موضوع نشوء الإسلام وإرساء المؤسسات من خلال ثلاثية رمزية: البغلة (رحلة الهجرة والتهجير) والسلاح (رمز الغزو لنشر الدعوة) والضيعة (رمز للمؤسسات كالوقف..الخ).ويتهم الكاتب ديكوبير بأنه مقلد، كما ورغم إنه لا يتقن العربية فإنه – ديكوبير- يتهم المصادر العربية بأنها”تمجيدية”.
ويلخص الكاتب ملامح الإستشراق الفرنسي واعتباره الإسلام غير متناسب مع العلم والديمقراطية والعلمانية (كما رآه أرنست رينان وكرره ديكوبير) وهم ممن برروا الإستعمار الفرنسي للدول العربية بخاصة رموز معهد الدراسات الإسلامية في السوربون، ويشير إلى دور قسم اللغات والحضارات الشرقية في المركز القومي للبحث العلمي الفرنسي (1960)، لكن الكاتب يرى أن مساهمات الكتاب العرب في مجلة “أرابيكا ” تركت أثرا في تحول النظرة الفرنسية نحو العالم العربي خلال 1970-1980.
اذا اعتبرنا دراسات الاستشراق فرعا معرفيا مستقلا، فهذا الكتاب ينتمي لهذا الحقل من بُعده النقدي، فالكتاب دراسة نقدية لما أنتجه أربعة من المستشرقين الفرنسيين( مكسيم رودنسون- جاكلين شابي- وكريستيان ديكوبير- والفريد لويس دي بريمار) حول موضوعين هما السيرة النبوية ونشأة الإسلام.
ويتبنى الكاتب مجموعة من الآراء في تقييمه لجهود المستشرقين الأربعة مستعينا بمراجع عربية وأجنبية، وتتمثل أهم هذه الآراء التي بثها في ثنايا كتابه في خمسة جوانب:
- ان بعض مواقف المستشرقين من الإسلام هي انعكاس لحالة نفسية عايشها المستشرق (وتبرز هذه بشكل واضح حسب كاتبنا عند رودنسون كانعكاس ليهوديته وخبرته مع النازية).
- عمق النظرة العنصرية والاستعلائية لدى المستشرق تجاه العقل الإسلامي والعربي(جاكلين شابي على وجه الخصوص).
- جهل بعضهم باللغة العربية أو عدم التمكن من نصوصها ومفرداتها (ديكوبير بشكل خاص).
- اعتماد مفرط لبعضهم على المصادر غير العربية ( بريمار).
- تأثير بعضهم على بعض من ناحية (بين المستشرقين الفرنسيين أنفسهم) وتأثر بعضهم من ناحية أخرى بالإستشراق الأنجلوسكسوني.
ويتهم الكتاب مجمل هذا الاستشراق الفرنسي بأنه : تكرار لصورة سلبية عن العقل العربي، وتأويل مغرض لبعض النصوص والوقائع (كموضوع الغرانيق، وموقف الرسول من المرآة وزواجه المتكرر)، واتهام القرآن بالتكرار، وتدخل النصوص المسيحية واليهودية في النص القرآني، ومحاولة تكريس وثنية الإسلام (الحجر الأسود والحج والعمرة ..الخ).
ويناقش الكاتب كل هذه التصورات الاستشراقية، ويحاول تفنيدها من خلال النقاط الخمس التي أشرت لها في هذا البند (النفسية والعنصرية والجهل باللغة..الخ)، وفي تقديري أن كل ما ورد في الدراسة موجود في انتاج علمي سابق للباحث نفسه أو غيره ويكفي الاطلاع على الدراسات التالية:
- كتابات المؤلف نفسه: أ- قضايا ترجمة القرآن: ترجمة بلاشير لسورة النجم (عام 2012) ب- نقد مقدمات الأب لامنس النقدية لكتابة السيرة النبوية (2017).
- عبدالحكيم فرحان: نبوة محمد في الاستشراق الفرنسي(د.ت).
- حسن قبيسي رودنسون ونبي الاسلام (1981).
- فيصل جلول: سنوات مكسيم رودنسون في لبنان وسوريا(2012).
- محمد أركون– الاستشراق بين دعاته ومعارضيه(2016)
أما النقد العام للاستشراق فقد أشبعه كل من إدوارد سعيد وأنور عبد الملك وهشام جعيط..الخ بحثا، فقد أوردوا أغلب أفكار هذه الدراسة من نقد للتوجه العام للاستشراق والإسلام المتخيل.
يمكن وصف هذه الدراسة بأنها “عرض وتحليل ونقد لأربعة كتب” لمستشرقين فرنسيين” لا أكثر. وقد رتب المؤلف أفكاره فعرض كل منهم على حدة، ثم ناقش أفكاره ونقده من خلال أدبيات موضوع الاستشراق، وحاول بقدر ما تحديد الخصائص العامة للاستشراق الفرنسي، وقد وصلت أفكار الكاتب للقارئ بيسر رغم بعض التكرار كما ظهر في العودة لمناقشة كتاب جاكلين شابي(رب القبائل) وعرض بعض الفقرات حرفيا رغم إنه خصص لها الفصل الثاني بكامله (قارن محتويات الفصل الثاني المخصص لجاكلين شابي مع الفصل الثالث الذي عاد الباحث فيه عشر مرات لجاكلين شابي بخاصة من صفحة 133-157).
ويبدو لي أن سطوة المقدس في الذهن العربي جعلت الكاتب يميل لممالأة الجمهور العربي ونخبته في انتقائية الموضوعات التي ينتقدها في أدبيات الاستشراق، بينما ترك موضوعات أخرى طرحها المستشرقون ، لأن سطوة المقدس- على ما أعتقد- حالت دون ولوج الكاتب ساحات مناقشة هذه الافكار الحساسة التي وردت في كتابات المستشرقين (مثل قضية الأفراد الذين تم قتلهم بأوامر من الرسول، أو قضية مصداقية الوحي، أوالتعدد المفرط لزوجات الرسول، أو موضوع الغرانيق أو مُتَع الجنة..الخ).
وبدا لي من خلال هذا الكتاب أن المستشرقين ليسوا إلا إما جواسيس أو جهلة باللغة العربية أو يعانون من ضغط لاوعيهم أو عنصريين أو ماركسيين ملحدين أو “مركزيين أوروبيين” ..الخ، فإذا كان الأمر كذلك فاني أطرح على الكاتب وكل الدارسين للاستشراق السؤال التالي: أين أصاب المستشرقون في تحليلهم لشخصية ” محمد” وسيرته ونشأة الإسلام؟ لقد عرفنا من كُتابِ النقد للاستشراق كل ما اعتبروه أخطاء، فاين أصابوا فيما كتبوه ؟ أم أن كل ما كتبوه لا يعدو أكثر من حقد وكره؟ ثم أين المنصف من المستشرقين لا سيما في الموضوعات الحساسة (البعد الميتافيزيقي تحديدا) ؟ ويبدو لي أن كاتبنا ينتمي إلى إتجاه عربي وإسلامي- يقوم على فكرة محددة مسبقا وهي : على كل مستشرق يكتب عن النبي محمد أو عن الإسلام أن يُسَلِّم مسبقا بصحة ركائزه الأساسية وأن صورة محمد المقدسة في الذهن الإسلامي هي صورة دقيقة وسليمة سلامة مطلقة وأن القرآن نص “لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ”. وهذه في رأيي أقصر الطرق لغلق الباب في وجه الآخر وإنهاء الحوار بل والاجتهاد معه.