يعتبر الإمام البغوي من العلماء الذين ساهموا في إحياء المشروع السني، ومحاربة المبتدعة من خلال التدريس والتعليم والتأليف، وكان لجهوده الأثر الكبير في تعلق الناس بكتاب الله وفهمه وتفسيره، وهدي سنة رسول الله ، ولذلك رأيت أن أُظهر جهوده لكونه من علماء العهد السلجوقي، هو الإمام، العلاّمة القدوة الحافظ، شيخ الإسلام، محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد الفراء البغوي المفسر، صاحب التصانيف، كشرح السنة، ومعالم التنزيل، والمصابيح  وغيرها من التصانيف، توفي عام (516 هـ)  وقد عاصر الإمام البغوي من ملوك الدولة السلجوقية: طغرل بك، وألب أرسلان، وملكشاه، والسلطان محمود، وبركيارق، وملكشاه الثاني، وغياث الدين أبو شجاع محمد ، وحظي الإمام البغوي بثناء وتقدير العلماء، بما اتصف به من ورع، وزهد، وكثرة مصنفات، أتحف بها المكتبة الإسلامية، وأضحى بسببها علماً من أعلام الأمة الإسلامية، وقد وضع الله لكتبه القبول، وبارك الله له في تصانيفه، ورزق فيها القبول التام، لحسن قصده، وصدق نيته، وتنافس العلماء في تحصيلها.

قال فيه الإمام الذهبي: وكان البغوي يلقب بمحي السنة، وبركن الدين، وكان سيداً إماماً، عالماً، زاهد قانعاً باليسير، كان يأكل الخبز وحده فُعذل في ذلك فصار يأتدم بزيت، وكان أبوه يعمل الفراءَ ويبيعها، بورك له في تصانيفه، ورُزِق فيها القبول التام لحسن قصده، وصدق نيته، وتنافس العلماء في تحصيلها، وكان لا يلقي الدرس إلا على طهارة، وكان مقتصداً في لباسه، له ثوب خام، وعمامة صغيرة على منهاج السَّلف حالاً وعقداً، وله القدم الراسخ في التفسير، والباع المديد في الفقه، رحمه الله، ومن أشهر كتبه التي وضع الله لها القبول والانتشار وتنافس العلماء في تحصيلها وأثرت في عصره والأجيال التي بعدها:

أولاً ـ معالم التنزيل في التفسير

قال عنه ابن تيمية: صان تفسيره من الأحاديث الموضوعة، والآراء البدعية، وقد سار البغوي في منهجه للتفسير على اعتماده على الكتاب والسنة، فيفسر القرآن بالقران، والقران بالسنة، وبعده عن البدع، وقلة الإسرائيليات، والموضوعات وعنايته باللغة، والنحو، والقراءات، والجوانب النحوية والصرفية، وذكره قضايا العقيدة، والأحكام الفقهية، واهتم بمباحث علوم القرآن في تفسيره، كالمكي، والمدني، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ وقد أثنى العلماء عليه وذكروا بالتقدير والاستحسان تفسيره (معالم التنزيل).

قال الذهبي: وله القدم الراسخ في التفسير، وقال السبكي: وقدره عال في الدين والتفسير  ويقول السيوطي: وكان إماماً في التفسير، وقد تلقى العلماء تفسيره بالقبول والإعجاب، وكان نصيبه الرواج والانتشار، فاعتمدوا عليه، واعتنوا به، وألفوا عليه التفاسير المفصلة والمختصرة، وقال الإمام الخازن في مقدمة تفسيره عن تفسير البغوي: من أجلَّ المصنفات في علم التفسير، وأعلاها وأنبلها وأسناها، جامعاً للصحيح من الأقاويل، عارياً عن الشبه، والتصحيف، والتبديل، مُحَلَّىً بالأحاديث النبوية، مطرزاً بالأحكام الشرعية، مُوَشَّىً بالقصص الغريبة وأخبار الماضين العجيبة، مرصعاً بأحسن الإشارات، مخرجاً بأوضح العبارات، مفرغاً في قالب الجمال بأفصح مقال.

وقد انتفع الإمام برهان الدين الزركشي في (البرهان) ببعض آراء الإمام البغوي خاصة فيما له صلة بمباحث علوم القران، كما أثنى عليه ابن تيمية، وامتدح تفسيره، وفضله على غيره من التفاسير، وجعله أقرب التفاسير إلى الكتاب والسنة، وأبعدها وأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة، ويعتبر (معالم التنزيل) من التفاسير المتوسطة المعتمدة على الكتاب والسنة في المقام الأول، والمأثور من أقوال الصحابة والتابعين بالدرجة الثانية، ولتفسير البغوي مزايا وقيمة علمية مهمة؛ منها: جاء تفسير البغوي جامعاً شاملاً لجوانب متعددة، واتجاهات مختلفة، مما جعله مفيداً لأعداد كبيرة من القراء والمهتمين بفهم كتاب الله وتدبره على الوجه الأمثل.

  •  اختصر الإمام البغوي في تفسيره الأسانيد التي تروى بها أقوال الصحابة، وآراء التابعين وتفاسير من تبعهم من المفسرين أمثال قتادة، وعكرمة، ومقاتل وغيرهم وذلك لذكره طرقه وأسانيده في مقدمة التفاسير.
  • تجنب البغوي في تفسيره ذكر التفصيلات الدقيقة في المسائل التي تتعلق باللغة والنحو، كما تجرد تفسيره من الاصطلاحات العلمية الخاصة بعلوم العربية والفقه والعقيدة مما جعله سهل الفهم واضحاً لدى سائر الدارسين والقرَّاء.
  • لم يكن البغوي خلال تفسيره ناقلاً ذاكراً للآراء المأثورة عن الصحابة والتابعين وتفاسير القرن الثاني فحسب، بل كان يوجه التفسير، ويسوقه بالطريقة المناسبة، كما يختار في بعض الأحيان الرأي الأدنى للصواب بين الأقوال التي يسوقها خاصة إن كان فيها خلاف.
  • استخدامه لأسلوب السؤال في حل الإشكالات، وهو أسلوب حسن لتحقيق الفهم وإيضاح المسائل، ففي مستهل سورة الفاتحة وبعد أن يذكر معنى البسملة يقول: فإن قيل ما معنى التسمية من الله؟ قيل: هو تعليم العباد كيف يستفتحون القراءة.

اهتم الإمام البغوي في تفسيره بالقراءات (القرآنية)، فكان ينبه إليها ويوضحها ويبين ما يترتب عليها من المعاني والفوائد، لم يغفل البغوي خلال التفسير الإشارةَ إلى المسائل البلاغية بصورة سريعة تعين على فهم معنى الآيات، دون تعمق وتوسع وذكر للاصطلاحات، بل يكتفي في ذلك بمقدار ما يكشف عن معنى الآية في السياق القرآني للكشف عن دقة التعبير وبيان الأسلوب الرائع المعجز خاصة يقرر أن أسلوب كتاب الله في الطبقة الأولى من البلاغة وحسن النظم والتأليف. يقول البغوي: والقران معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة، لا يشبهه كلام الخلق؛ لأنه غير مخلوق، ولو كان مخلوقاً؛ لأتوا بمثله. وأما الأمور البلاغية التي يشير إليها البغوي خلال التفسير؛ فأنواع الاستفهام في القرآن الكريم، من الإنكاري، والتقريري، أو التضخيم، وذلك في مواضع مختلفة من تفسيره. هذه بعض مزايا تفسير البغوي، ويعتبر هذا التفسير من أشهر التفاسير في العهد السلجوقي، وقد تنافس العلماء في تحصيله.

ثانياً: شرح السنة للحافظ البغوي

1 ـ موضوع الكتاب: أفصح عن ذلك مؤلفه في مقدمته، فقال: أما بعد فهذا كتاب في شرح السنـة يتضمن إن شـاء الله ـ سبحانـه وتعالى ـ كثيراً من علوم الحديث، وفوائـد الأخبار المرويـة عن رسول الله من حل مشكلها وتفسير غريبها، وبيان أحكامها وما يترتب عليه من الفقه واختلاف العلماء جمل لا يستغنى عن معرفتها المرجوع إليه في الأحكام، والمعوَّل عليه في دين الإسلام، ولم أودع هذا الكتاب من الأحاديث إلا ما اعتمده أئمة السلف الذين هم أهل الصنعة، المسلم لهم بالأمر من أهل عصرهم، وما أودعوه كتبهم، فأما ما أعرضوا عنه من المقلوب، والموضوع، والمجهول، واتفقوا على تركه؛ فقد صنت الكتاب عنها، وما لم أذكر أسانيدها من الأحاديث، فأكثرها مسموعة، وعامتها في كتب الأئمة، غير أني تركت أسانيدها حذراً من الإطالة، واعتماداً على نقل الأئمة.

2 ـ سبب تأليفه لهذا الكتاب : أوضح ذلك ـ رحمه الله ـ في المقدمة فقال: والمقصود بهذا الجمع ـ مع وقوع الكفاية فيما عملوه، وحصول الغنية فيما فعلوه ـ الاقتداء بأفعالهم، والانتظام في سلك أحد طرفيه متصل بصدر النبوة، والدخول في غمار قوم جدوا في إقامة الدين، واجتهدوا في إحياء السنة شغفاً بهم، وحباً لطريقتهم، وإن قصرت في العمل عن مبلغ سعيهم ـ طمعاً في موعود الله سبحانه وتعالى على لسان رسوله : إنَّ المرء مع من أحب، ولأني رأيت أعلام الدين عادت إلى الدروس، وغلب على أهل الزمان هوى النفوس، فلم يبق من الدين إلا الرسم، ولا من العلم إلا الاسم، حتى تصور الباطل عند أكثر أهل الزمان بصورة الحق، والجهل بصورة العلم، وظهر فيهم تحقيق قول الرسول : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم؛ اتخذوا رؤساء جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا». ولما كان الأمر على ما وصفته لك؛ أردت أن أجدد لأمر العلم ذكراً، لعله ينشط فيه راغب متنبه، أو ينبعث له واقف متشبث.

ثالثاً: مصابيح السنة

1 ـ موضوعه وسبب تأليفه: قال ـ رحمه الله ـ: أما بعد، فهذه ألفاظ صدرت عن صدر النبوة، وسنن سارت عن معدن الرسالة، وأحاديث جاءت عن سيد المرسلين وخاتم النبيين، هنَّ مصابيح الدجى، خرجت عن مشكاة التقوى، مما أوردها الأئمة في كتبهم جمعتها للمنقطعين إلى العبادة؛ لتكون لهم بعد كتاب الله تعالى حظاً من السنن، وعوناً على ما فيه من الطاعة.

2 ـ عناية العلماء بمصابيح السنة: تقبل الناس هذا الكتاب بالقبول الحسن، فعكفوا عليه رواية ونسخاً وقراءة وحفظاً، ثم ألفوا حوله الشروح والمختصرات والتخريجات، وقد ذكر حاجي خليفة، وبروكلمان أكثر من اثنين وأربعين شرحاً ومختصراً وتخريجاً لهذا الكتاب، إلا أن مشكاة المصابيح لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي (ت740هـ) فاق جميع الشروح والتخريجات الأخرى، ولذلك عكف الناس عليه، وشرحوه، واختصروه؛ وخدموه، إذ ألف عليه تسعة شروح، ومختصرات.

رابعاً ـ وفاته

اختلفت المصادر التي ترجمت للإمام البغوي في سنة وفاته على ثلاثة أقوال وهي سنة (510 هـ) ، وسنة (515 هـ) ، وسنة (516 هـ) ، ولكن هذه المصادر تكاد تجمع على أن وفاته كانت في شهر شوال سنة ست عشرة وخمسمئة وهو القول الراجح لاختياره عند أكثر المصادر، وكانت وفاته في مرو الروذ، ودفن عند شيخه القاضي حسين بمقبرة الطالقان، وقبره مشهور هنالك، وقالوا: إنه عاش ثلاثاً وثمانين سنة، ويرى البعض: أنه قد عاش بضعاً وسبعين سنة، كما يرى آخرون: أنه أشرف على التسعين وذلك لعدم تحديدهم سنة ميلاده وإن كان الأرجح: أنه جاوز الثمانين. قال ابن كثير: صاحب التفسير، وشرح السنة، والتهذيب في الفقه، والجمع بين الصحيحين، و المصابيح في الصحاح والحسان وغير ذلك، اشتغل على القاضي حسين، وبرع في هذه العلوم وكان علاَّمة زمنه فيها، وكان ديِّناً، ورعاً، زاهداً، عابداً، صالحاً. فالبغوي رحمه الله كان ممن أكرمهم الله تعالى بنشر مذهب أهل السنة، وتربية الناس على تعاليمه في العهد السلجوقي، ووضع الله لكتبه القبول، والانتشار، وساهمت في بلورة المشروع السني الكبير الذي توج بانتصار الإسلام، وتقليص النفوذ الباطني ودحره، وتحرير البلاد الإسلامية من أيدي الصليبيين فيما بعد.


المصادر والمراجع:

أبو محمد البغوي، شرح السنة، (1/2 ـ 4). مصابيح السنة (1/109 ـ110).

جهود علماء السلف في القرن السادس الهجري في الرد على الصوفية، ص 568.

حاجي خليفة، كشف الظنون، ص 1698.

د. محمد مطر الزهراني، تدوين السنة النبوي، ص 219.

الذهبي، سير أعلام النبلاء (19/439-441).

عفاف عبد الغفور، البغوي ومنهجه في التفسير، ص 14 ـ 15.

علي محمد الصلابي، دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، ص 519-524.

محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح، رقم (6168 ـ 6171. 100).