خَصَّت الحضارة الإسلامية كتاب المسلمين الأول، ووحي ربهم المُنزَّل على رسوله صلى الله عليه وسلَّم، بوافر الرعاية والاعتناء، سواء خدمة نصِّه المحفوظ – في المصاحف المخطوطة – بأمر الله إلى يوم الدين (القرآن الكريم)، أو خدمة الوعاء المادي الذي يجمع النَّص بين دفتين (المصحف الشريف). فما كاد المسلمون يفرغون من وسائل حفظ القرآن الكريم، بجمعه وتدوينه ونقطه إلى آخر شجرة علوم القرآن الباسقة التي تمثل سياق معرفي متكامل، لا يوجد له نظير في الحضارات البشرية؛ حتى أقبلوا على المصحف الشريف ذاته، يمجِّدونه، ويعظِّمونه، بإتقان صَنْعَته، وتجميل مظهره، وتطوير خطِّه، وتزيين صفحاته وأغلفته، فجعلوا منه تحفة فنية رائعة متكاملة، تسر بمرآها العين، وتشيع الغبطة والانشراح في النفس، وتفتح قلوب المؤمنين لهديه، فيقبلون على التلاوة فيه، والاستزادة منه[i].

يُعنى المسلمون بشكل خاص بتلاوة القرآن الكريم والقراءة في المصحف الشريف في شهر رمضان المبارك. وتكون القراءة بطبيعة الحال من خلال المصاحف المطبوعة المعتمدة من قِبَل الجهات الرسمية لمراجعة المصاحف وتدقيقها في البلاد الإسلامية.

إن النظر في المصاحف المخطوطة، والتي وصلتنا مكتوبة بخط اليد على رّق وورق بداية من القرون الهجرية الأولى إلى يومنا هذا، ودراستها، كما يقول الدكتور غانم قدوري الحمد، لا تهم المتخصصين بالدراسات القرآنية وحدهم، بل تفيد دارس اللغة العربية وعلم المخطوطات، وأهل التاريخ والآثار، والمهتم بالخط العربي وجماليات الفن والتذهيب. بل إنها مفيدة وممتعة للذين يحملون في قلوبهم حب القرآن ويحرصون على تلاوته وتفهم معانيه، لأن تكشف لهم عن التواصل بينهم وبين أصول هذا الكتاب الكريم، فالمصاحف المخطوطة تشكل سلسلة متصلة الحلقات بدايتها المصاحف العثمانية، ونمسك اليوم بطرفها الممتد عبر السنين من خلال هذه المصاحف، المعززة بالرواية الشفهية للقراءة القرآنية[ii].

تخيل أو توهَّم (بعبارة الحارث المحاسبي) أنك تمسك بيدك (أصلاً أو صورةً) بمصحف لامسته أيدي بعض التابعين، أو عالم معروف في القراءات، أو خطَّه خطاط شهير، أو كان في خزانة سلطان ذائع الصيت، أو قرأ فيه عُبَّاد في الحرمين أو إحدى مساجد دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة.

ففي المصاحف المخطوطة تتمثل تطبيقات علوم القرآن: الرسم (العثماني)، والضَّبْط (النَّقْط والشَّكْل)، والعدَّ والتجزئة، والوقف والابتداء، والقراءات القرآنية[iii]. كما أنها أبرز تمثيل لمباحث علم المخطوطات: مثل حوامل الكتابة (الرّق والورق)، الحبر وألوانه، التجليد، شكل المخطوط وتنسيق صفحاته، الخطوط وأنواعها، الزخارف والألوان.

وبعد، فهذه دعوة للمختصين في علوم القرآن والمخطوطات إلى النظر في المصاحف المخطوطة والقراءة فيها، والتَّمَتُع بجماليات المصاحف المملوكية والإيلخانية والعثمانية، وكذلك المصاحف المبكرة بالخطوط الحجازية والكوفية في مشرق العالم الإسلامي ومغربه لا سيما الإفريقية والأندلسية، وغيرها. هذا فضلاً عن دراستها، وفي مقالات لاحقة نفصّل بإذن الله في المباحث والمسائل المتعلقة بعلوم المصحف المخطوط.

تنبيهات مهمة

ومما ينبغي التنبيه إليه:

  • أن المصاحف المتأخرة العثمانية والمملوكية وما قبلها المكتوبة من قِبَل خطاطين مهرة، هي في الغالب واضحة الحروف والكلمات، سهلة القراءة، مثل المصاحف الحديثة. بينما المصاحف المبكرة (القرون الهجرية الأولى) ففيها الخالي من النَّقْط والشَّكل، أو التي ووظفت فيها الألوان للضَّبْط.

  • وجود مصاحف مكتوبة على قراءات قرآنية أخرى غير قراءة حفص عن عاصم. ويمكن مراجعة كتب القراءات ومصاحف القراءات المطبوعة للمقارنة والتأكد من القراءات المكتوب بها في المصاحف المخطوطة، ومنها مثلاً: الشامل والكامل في القراءات للشيخ الدكتور أحمد عيسى المعصراوي، والميسر في القراءات الأربع عشر لمحمد فهد خاروف ومراجعة الشيخ محمد كُريِّم راجح، وقد طُبع أكثر من طبعة، وأخيرًا الشموس النيرات في جمع القراءات العشر المتواترات لياسر الشمري، وجميعها متاح. وكذلك تسهل الأمر خدمة مقارنة الآيات بالروايات بموقع نون للقرآن وعلومه، ومن ميزاته كذلك إتاحة تسجيلات صوتية لهذه القراءات. وبالطبع هذه المراجع قليلة الفائدة لغير المختصين الذين ينبغي الرجوع إليهم، لكن تظل مفيدة كمدخل ووسيلة تعلم.

  • رغم وحدة النص القرآني، إلا أن رسم أو شكل كتابة بعض الحروف قد يكون مختلفًا عن المعتاد في المصاحف المطبوعة اليوم، لا سيما مع تباعد الأحرف وخلو النَّقْط والشَّكْل في المصاحف المبكرة. فضلاً عن عدم التزام بعض المصاحف المخطوطة بالرسم القرآني، واستخدامها الرسم الإملائي، بخلاف ما استقر عليه العمل حديثًا حسب قرارات المجامع العلمية، والعلماء المتخصصين. ويفيدك في هذا الباب كتاب معجم الرسم العثماني للدكتور بشير الحميري، ونفس الأمر فيه كما في القراءات دومًا الرجوع للمختصين.

  • احتمالية اختلاط ترتيب الأوراق والصفحات، أو سقط بعضها بسبب فقد الأصل أو خطأ في التصوير الرقمي.

  • رغم المقابلة والمعارضة التي كان يحرص السابقون عليها، تظل المصاحف المعتمدة المطبوعة، فيها من المراجعة والتدقيق والتأكد من خلو أخطاء الخطاطين والطباعة، ما قد لا يتوفر أحيانًا في مصورات المصاحف المخطوطة.

  • يُفضل دائمًا مراجعة المصحف المطبوع إلى جانب المصحف المخطوط، والرجوع إليه، وإلى أهل الاختصاص والعلم. وأيضًا إلى كتب القراءات والرَّسْم والضَّبْط والعَدّ والوقف المعتمدة.

مصاحف مخطوطة مقترحة

ومما يقترح من المصاحف المخطوطة من المتوفر على شبكة الويب:

  • المصحف المملوكي الخزائني الذي كتبه ابن الوحيد لخزانة السلطان بيبرس سنة 705 هـ. وزخرفه وذهبه ابن مبادر وآيدغدي بن عبد الله البدري. وهو مُجزأ إلى سبعة أجزاء في نحو 1000 ورقة.

وهذا رابط النسخة الرقمية، وربما يُفضل من هنا.

ومقالات وروابط عنه: بالإنجليزية، وبالعربية وموقع إلكتروني.

مصاحف المكتبة الفرنسية

توجد مصاحف مخطوطة ومحددة في موقع مصاحف المكتبة الوطنية الفرنسية، ويمكن تحديدها أكثر باختيار الفترة الزمنية (قرن النَّسْخ والكتابة). ثم وجدت ملفًا فيه إحالات لروابط المصاحف، نشره د. بشير الحميري (على حسابه في تويتر ). ومن ميزاتها احتوائها على مصاحف مبكرة، وأخرى أندلسية فيها مظاهر توظيف الألوان في الضبط، وكثير منها قطع تتضمن كُرَّاسات متكاملة، بخلاف الأوراق المـُفردة التي تتوفر لدى كثير من المكتبات والمتاحف.

ومن مصاحفها المملوكية الرائقة أجزاء من رَبْعَة مصحف أوقفها السلطان برقوق على خانقاته بالقاهرة: رابط أحد أجزائها.

مصاحف ميونخ

تجدونها في موقع مصاحف ميونخ ومنها النسخ المملوكية التالية: 245626752676

  • وفيما يخص المصاحف المبكرة، فمن الممكن مراجعة نشرات الدكتور طيار آلتي قولاج للمصاحف[iv]، مثل المصحف المنسوب لسيدنا عثمان رضي الله عنه، ومصحف المسجد الحسيني وغيره، وبعضها متاح. وميزتها أنها مصاحف تامة أو شبه تامة، وأنها تتيح مقابل الصفحة المخطوطة النص بالخط المتعارف عليه فيسهل قرأتها، وهي كذلك طريقة جيدة لتعلم وإِلف الكتابات القديمة، فبعض هذه المصاحف المخطوطة بدون نقْط أو باستخدام نقط أبي الأسود الدؤلي.

وبالطبع لا يصح ألا نشير إلى الكتاب العظيم للدكتور مصطفى الأعظمي رحمه الله “النص القرآني الخالد عبر العصور” الذي عرض بشكل مرئي عبر ما أسماه منهج الإثبات البصري، لسورة واحدة هي صورة الإسراء، بحيث  يمكنك قرأتها من أولها إلى آخرها من خلال ، ثمانية عشر مصحفًا:

وغير ذلك الكثير مما هو متاح على شبكة الويب. ويمكن للمزيد مراجعة قناتي مخطوطات المصاحف ومراجع دراسة المصاحف الخطيَّة على التليجرام، ومجموعة المصاحف على الفيس بوك.


[i]  المصحف الشريف: دراسة تاريخية وفنية. محمد عبد العزيز المرزوق. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1985: ص 7-8، 59-60.

[ii]  تدريس رسم المصحف. موقع الدكتور غانم قدوري الحمد. http://www.dr-ghanim.com تاريخ الاطلاع 7/05/2019.

[iii]  للتوسع عليك بكتاب الدكتور غانم قدوري الحمد: علوم القرآن الكريم بين المصادر والمصاحف: دراسة تطبيقية في مصاحف مخطوطة. الرياض: مركز تفسير، 2019. وله ايضًا: علم المصاحف: مجموعة أبحاث. عمان: جميعة المحافظة على القرآن الكريم، 2017.

[iv]  للزميل أحمد وسام شاكر عرض للكتاب، يمكن مطالعته هنا: https://tafsir.net/article/5182/ard-ktab-alns-s-al-qr-aany-al-khald-abr-al-swr-lmhmd-mstfa-al-a-zmy