تتأسس التربية الحضارية للذات الحضارية المسلمة بالعودة إلى المكونات الأساسية للهوية الإسلامية في القرآن الكريم والسنة، والمنظومة الحضارية التربوية التراثية، وعلى ذلك يكون التنظير الفلسفي التربوي المعاصر، والمرجعية الفكرية الإسلامية الأصيلة لهذا التنظير، وأبعادها المعيارية، وقيمها المثالية، وضوابطها الواقعية، وخصائصها العالمية الإنسانية، والانفتاح على التراث، والإنتاج الإنساني في كل مراحله، لا سيّما الحضارة المعاصرة.
5 محددات التربية الحضارية
في ضوء ذلك، يمكن أن نحدد أبرز محددات التربية الحضارية في النقاط الآتية:
أولها: التأسيس المعرفي والعودة إلى الذات الحضارية، والذي يعني أهمية العودة إلى نبع الإسلام الصافي، ومعينه الأول في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، فلا يُفهم أن الحضارة تقتصر على البنيان والعمران، والتقنيات والاختراعات، والعلوم والفنون، وإنما هي فلسفة فكرية، تؤسس توجهات الإنسان المعرفية والأخلاقية والقيمية.
وإلى هذا يشير عبد الرحمن حبنّكه الميداني بأن الذات المسلمة ساعية إلى الكمال في صور عديدة، أبرزها: “الكمال الفكري” بالعلم والمعرفة، والأخذ بوسائلهما، ويكون الترقي في هذا الكمال بمقدار الترقي في درجات العلم والمعرفة. و”الكمال الخلقي” بكل ما يجب أن تتصف به النفس المسلمة من الصفات المحمودة، مثل الإقرار بالحق، والاعتراف بالجميل، وشكر المنعم الوهّاب، وحب الخير للآخرين، وكراهية الشر والإيذاء، والصفح الجميل، وضبط الطبائع والغرائز بقوة الإرادة، وتوجيهها توجيها صحيحا. ثم “الكمال السلوكي”، وهو طراز راق من السلوك في الحياة، يتمثل بالحكمة في تصريف الأمور، ولهذا الكمال مجالات بعدد مجالات الحياة التربوية والإدارية، والسياسية والاقتصادية، والاجتماعية، فأساسه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([1]).
تلك السمات لابد أن يمتاز بها كلٌ من العالِم والمتعلم، كما يذكر أحمد فؤاد باشا، فالسمة الأساسية لأخلاق علماء الحضارة الإسلامية أنهم اتصفوا بكل ما هو حميد وجميل، وضربوا المثل الأعلى في العلم والمثابرة والترفع عن الصغائر، والنأي عن الغرور والتمسك بالأمانة والزهد في السلطان، وهذا سبب لموسوعيتهم وتعدد تخصصاتهم، وفي غزارة إنتاجهم، وأصالة بحوثهم، فكان لهم طابعهم وأسلوبهم، مما جعل شخصياتهم العلمية متفردة في التاريخ العلمي الإنساني([2]).
فالأخلاق الإسلامية توجب تربية المسلم على صحيح العقيدة، والسلوك، والمعاملات، قبل أن يمتهن أية مهنة، أو ينحو أي منحى، تبدأ منذ حداثة الطفل، الذي يتلقى تعليمه الأولي الديني في الكتاتيب والخلوات، ثم في حلقات المساجد، وبعدها يواصل في المدارس العلمية الكبرى، في بغداد أو القاهرة، أو دمشق، فالبنية التعليمية في الحضارة الإسلامية يتوغل فيها الإسلام في كافة أبنيتها، ومراحل تربيتها، وفي تقاليدها، وعاداتها الاجتماعية.
بعكس البنية التعليمية العلمانية-كما يذكر عبد الوهاب المسيري– الكامنة في كل مؤسسات الدولة الحديثة، وفي نظامها التربوي، فلا مرجعية قيمية أو أخلاقية لها، وإنما تستهدف تحويل الإنسان إلى إنسان اقتصادي وجسماني ذي بعد واحد، وتعيد صياغة الطلاب ليكونوا نماذج بشرية مادية، وتستخدم مصطلحات علمانية من مثل “التقدم- هزيمة الطبيعة”، أو مصطلحات محايدة من مثل “المجتمع التكنولوجي، المجتمع ما بعد الصناعي، ما بعد الإيديولوجيا، زمانية كل الظواهر ونسبيتها”([3])، أي لا تحمل أية رؤى أخلاقية أو قيمية، أو رسالة إنسانية، وإن وجِدتْ فإن مرجعيتها قانونية إنسانية، وليست دينية، مما يجعل الطالب المتخرج في حلٍ منها، متى لم يجد القوانين لتحاسبه.
ثانيها: تتصف الذات الحضارية المسلمة بسمة المثالية والواقعية، فالمثالية تعني وجود نموذج إيماني وروحاني وأخلاقي ينبغي على المسلم أن يضعه نصب عينيه، والواقعية تعني إدراك المسلم لحقائق الواقع المعيش على الأرض، والتحديات التي يواجهها، مع نفسه أولا، ثم مع المجتمع المسلم ثانيا، ثم الشعوب الأخرى غير المسلمة ثالثا، ناهيك عن تحديات العالم الطبيعي، وأهمية سعي المسلم لاستكشاف خيرات الأرض ومواردها.
وهو ما يسميه “الميداني” بـــ “الكمال الإبداعي”، فقد أودع الله في الإنسان قدرات يستخدمها في التأمل الفكري والتخيل من جهة، وفي التجربة والاختبار والملاحظة من جهة أخرى؛ كي يبتكر من المواد المنبثة في الوجود صورا جديدة، ومصنوعات جديدة ذوات فائدة ونفع، أو ذوات متعة وجمال([4])، وهي المنهجية العلمية التي سار عليها علماء الحضارة الإسلامية، فبدلا من أن تُشيَّد المناهج الدراسية العربية بفلسفة فرانسيس بيكون (1561- 1626م) التجريبية وأنها أساس المنهج العلمي، يتوجب استحضار منهجية العلماء المسلمين، حيث كانوا يقدسون العقل والتفكير، وأثبتوا آراءهم الشخصية، الناتجة عن التجربة والملاحظة والتدقيق، واستخدموا المنهج التجريبي أساسا للبحث العلمي، وهو أساس النهضة العلمية الحديثة، فالعلوم الطبيعية لا تعرف إلا التجربة والبرهان([5]).
ثالثها: تتصف الذات الحضارية المسلمة بسمة استيعاب التراث الإسلامي، والانفتاح على الحضارات الإنسانية، بما فيها الحضارة المعاصرة، مع التمسك بثوابت الهوية الإسلامية، وأخلاقياتها، وتسقط في المقابل الرؤى العلمانية والاستشراقية التي تتهم التراث بالجمود، وتنظر للإسلام على أنه سبب للتخلف والرجعية، ويتوجب على المسلم المعاصر التخلي عن الإسلام لكي يكون إنسانا عصريا متحضرا، وفق المنظور العالمي.
وقد تسربت هذه الفكرة إلى الوعي العام العربي والإسلامي، في خطاب النخبة العلمانية، ومنها إلى أنظمة التعليم، وصار التاريخ الإسلامي دماءً وحروبا، وتخلفا وقهرا، وصراعات على السلطة، وأضحت صورة الرجل المسلم المتخيلة، بأنه رجل بدوي، متعطش للنساء والقتال والنهب، وهي نفس الصورة الاستشراقية التي تم رسمها وتصديرها للغرب ثم للشرق، مع اختلافات نسبية هنا أو هناك.
أما الحديث عن المنجز العلمي العربي التراثي فهو مغيب تماما، ويذكر عبد الرزاق بلعقروز أن هذا التوجه مؤسس منذ العهد الاستعماري، الذي قصد تذويب الرّوح الحضارية الاسلامية باعتبارها خميرة التّكوين والإصلاح، وباعتبارها أيضا البؤرة المركزية التي تستمد منها المجتمعات الإسلامية قوتها وطاقتها على الحركة والانطلاق، ولجأ من أجل هذه الحقيقة إلى التّربية والتّعليم، بوصفهما المحاضن الكبرى التي يجري فيها تعليم الإنسان وتأديبه، وامتد لأنظمة التّعليم ما بعد الاستعمارية التي عجزت عن تحقيق مقاصد التَّعليم الأصلية، أي تخريج النّموذج القيادي المبدع في العلم والعمل، أو في المعرفة والحياة، وفي المقابل إنتاج ظواهر فكرية وقِيَمية متصادمة مع الرؤية الحضارية الإسلامية منها: الاستغراب والازدواجية والتقطيب؛ تقطيب الدّين والحياة، تقطيب الأخلاق والتعليم، تقطيب الفكر والعمل. وهذه الانعكاسات لم تزدنا إلا تخلّفا وانحدارا وتمزقا وفقدانا للقيومية على الحياة([6])، وتعميق غربة الإنسان المسلم، ذلك أن نظم التعليم العلماني-كما يؤكد المسيري- تستند إلى المعرفة وحدها، بوصفها المكون الحركي الأساسي للمجتمع الحديث، وتم فصل العلم والتكنولوجيا عن المرجعية الأخلاقية، والجانب الروحي، واكتفت بما هو جسدي ومادي وعقلي([7]).
فالانفتاح على الحضارات الأخرى لا يعني الذوبان فيها، فما يحدث الآن في العالم العربي هو اتباع وتقليد، وليس مثاقفة حضارية، عكس ما فعله أجدادنا في تراثنا، حيث نظروا إلى حضارات الأمم الأخرى على أنها تراث إنساني مشترك، وفرّقوا ما بين العلوم الحضارية الخاصة، مثل الفلسفات وعلوم الدين الخاصة بكل حضارة، وبين العلوم الطبيعية، التي هي متاحة للجميع، مادامت تفيد الإنسان في شؤون حياته([8]).
ذلك المعنى الذي ينبغي ترسيخه في الأذهان؛ بنبذ التقليد والاستلاب والاستهواء الحضاري، ودعم الندية الحضارية، التي تعني اعتزارا بالذات، والتراث، والهوية، وعدم التسليم بالسردية الغربية الحضارية، التي تقيس الشعوب والثقافات بمقياسها، وتسرد التاريخ العلمي والبشري وفق المنظور الأوروبي الاستعلائي.
رابعها: يصبح هدف المنظومة التربوية العمل على تغيير الذات المسلمة نحو الأفضل، تحقيقا لمفهوم الترقي، الذي ينال به المسلم رضا الله سبحانه أولا، من خلال العبادة الصحيحة، والعقيدة النقية، والسلوكيات المثلى، المنضبطة بضوابط الشرع. وتلك نقطة في غاية الأهمية، فمن نكبات المنظومة التربوية العلمانية، أنها تنصاع لفلسفات الإنسان، وشهواته، فتنظر في كيفية إشباعها، وهذه نتيجة لإقصاء الدين عن الحياة. بل إن الاجتهاد الفلسفي الغربي، جعل الدين خاضعا لتطور المجتمعات، لا أن يكون الدين ضابطا لحركة المجتمع، وأخلاقياته، وهذا لّب الخلاف المركزي بين التربية الحضارية الإسلامية، والتربية العلمانية الغربية، الأولى تنبثق من الإسلام وهديه وأخلاقه، والثانية تنبثق من الإنسان بكل أهوائه وعنصريته واستعلائه وشهواته.
وفي هذا الصدد يذكر مراد هوفمان أنه لا يمكن تبرير وجود نخبة متغربة، إلا بوقوع كثير من العقول القائدة في آسيا وأفريقيا في أسر الافتتان بتعاليم أسيادهم السابقين، حتى أصبحوا غربيين أكثر من العديد من مفكري الغرب، وأقل ما يقال إنّ هؤلاء المفكرين العلمانيين في العالم الثالث (بما في ذلك البلاد العربية) عملوا على استقلال بلادهم من داخل حدود الحضارة الغربية، وبهذا، اكتملت الحلقة النهائية لاستعمار الأمة، بمجرّد استقلالها([9]). ومن هنا، تسقط مقولة “الاستقلال التام” التي تتغنى بها حكومات ما بعد الاستعمار، فالحادث أن الاستعمار أوجد نخبة تتبعه فكرا وأخلاقا، من أبناء جلدتنا، وقد واصلت نهجه، وتعمقت فيه، ولا يزال مستمرا إلى يومنا.
وكما يقول “سجّاد”، فإن هذه النخبة سعت إلى تقليد المستعمر في زيّه وعادته وثقافته، فشاعت العلمانية والنّظرة المادية إلى نظم التعليم، وأنتجت ظاهرة الازدواجية في التربية والتعليم نموذجا إنسانيا ثنائيا؛ أحدهما تربّى في ظل النّظام التعليمي الإسلامي، يغمره إحساس عميق بالورع وتقوى الله، جنبا إلى جنب مع إنسان تربى في ظل النّظام العلماني يظنّ أنّه لا حدود ولا نهاية لطاقاته، بل وتسوّل له نفسه أنه قادر على أن يصنع عالمه الذي يعيش فيه، دونما حاجة إلى توفيق الله وهدايته([10]).
إشارة “سجاد” إلى ازدواجية الطلاب من خريجي المنظومة التعليمية العربية مقصود بها الثنائية بين نمطين من التعليم: التعليم الديني، والتعليم المدني، والأول يمثّله الأزهر في مصر، والمعاهد الدينية في الدول العربية، والثاني هي مدارس التعليم العام.
وكما يذكر بكر زكي عوض، فإن هذا الانقسام، وما صاحبه من حصر التعليم الديني في التخصصات الشرعية، جعل غالبية الناس يفضلون إلحاق أبنائهم بالتعليم المدني (علماني التوجه والمنهج)، مما أدى إلى تخريج أجيال جاهلة بدينها، في مقابل أجيال قليلة، لا ترى في الدين إلا علوما شرعية مأخوذة من كتب قديمة بعيدة عن روح العصر([11])
فآفة التعليم المدني أنه يوجد حالة من الجهالة الدينية، لصالح ترسيخ الرؤى العلمانية المنبثة في المواد الدراسية، ومن نواتجها إنسان مادي، نفعي، نرجسي، غارق في شهواته، باحث عن اللذة، كما يصفه عبد الوهاب المسيري، والذي يضيف أن قطاع اللذة جزء أساسي من البنية المؤسساتية في الغرب، تظهر في تسليع المرأة، في المتاجر والشركات والإعلانات وأفلام هوليود، وكلها تمعن في العودة إلى الحيوانية الداروينية، التي تعني حياة لذة لا آخر لها، في الطعام والجنس، لا علاقة لها بالخير أو الشر، ولا تفرق بين الظاهر والباطن، وتقدم العالم على أنه غابة داروينية([12]).
خامسها: إن الذات الحضارية المسلمة ليست ذاتا غارقة في الفردية والنرجسية، وإنما هي ذات فاعلة اجتماعيا ومجتمعيا، تلتزم بأحكام الشريعة بوصفها قانونا ربانيا، قبل أن تكون قانونا تصدره سلطات الدولة، وكما يذكر السايح فإن قوانين الجماعات، أو سلطان الحكومات غير كافيينِ وحدهما لإقامة المدينة الفاضلة، التي تُحترَم فيها الحقوق، وتُؤدَّى الواجبات على وجهها الأكمل، فلابد من نازع في الضمير، حتى إذا غاب التهديد بالعقوبة، يتحلل الفرد، ويخالف القانون، لأنه في مأمن من الحساب([13]).
وهو ما يطلق عليه الميداني “كمال التعايش الجماعي”، وهو الصورة العامة التي يعطيها مجتمع من المجتمعات الإنسانية عن العلاقات السائدة بين أفراده، وعناصر الكمال الجماعي: سيادة العدل والنظام والرخاء، والطمأنينة والمحبة والإخاء. وكفالة ذوي الاحتياجات وتحقيق حاجات أفراد المجتمع، سواء كانت جسدية أو نفسية، مادية أو معنوية، والعمل على توفير السعادة لكل فرد، من أفراد الجماعة([14]).
ونشير هنا، إلا أن التربية الحضارية للذات المسلمة، ليست مقتصرة فقط على المدرسة، وإنما يتسع مفهومها ليصبح المجتمع كله شريكا في التربية، ليست في مرحلة الطفولة فقط، وإنما تظل طيلة مراحل العمر، وكما يذكر رابح واكد، بأن المحاضن التربوية في المجتمع المسلم تشمل الأسرة، والمدرسة، والجامعة، والمسجد والجمعيات ..، مع أهمية التوعية بشكل دائم من خلالها([15]). ويضيف الأهدل أن من واجب التربية الحضارية تبيان الدور التربوي الذي يجب أن تقوم به هذه المؤسسات والمحاضن (الأسرة، المسجد، المدارس والجامعات، والإعلام، ومنظمات المجتمع) على أن يكون التعاون ودوام الألفة بين العاملين فيها وقادتها هو ديدنها، وتجنب التناقضات فيما بينها، فلا يهدم أحدها ما يبنيه الآخر، فما يجمعها هو أهداف طموحة يتم تأصيلها في نفوس الأجيال([16]).
يقال ذلك، لأننا نجد في المجتمعات الإسلامية المعاصرة مؤسساتٌ تبني، وأخرى تهدم، بل إن مؤسسات الهدم أشد بلاء وفسادا من مؤسسات البناء، ويكفي ما نشاهده في الإعلام العربي، في المسلسلات والأفلام التي تتعمد تأجيج الشهوات، وتقدّم صورة زائفة مشوهة عن الأخلاق والقيم، وتبرر الضعف النفسي في الشهوة، وبعضها تغول-خاصة في المحطات الخاصة- وروّج للخيانة الزوجية والشذوذ الجنسي.
يضاف لذلك، الصراع الفكري الذي يصيب الفرد المسلم ويجعله مشوشا ممزقا نفسيا، بين الفكر العلماني بتياراته المختلفة، والفكر الإسلامي الذي يجتهد دعاته في تقديم صورة صحيحة، بدلا من الصورة الإعلامية المأخوذة من الاستشراق، أو من الرؤى العلمانية المسيطرة على الإعلام، والمبثوثة في المناهج الدراسية.