شهد عصر المأمون نهضة حضارية كبيرة، فقد كان المأمون محبًا للعلم والأدب وكان شاعرًا وعالمًا وأديبًا، يحب الشعر ويجالس الشعراء ويشجعهم، وكان يعجب بالبلاغة والأدب، كما كان للفقه نصيب كبير من اهتمامه. فكيف كانت حياة المأمون والحركة العلمية في تلك العصور؟
ولد عبد الله المأمون في [15 من ربيع الأول 170 هـ= 6 من سبتمبر 786م]، في اليوم الذي استُخلف فيه الرشيد، وقد سماه المأمون تيمنًا بذلك، وكانت أمه “مراجل” جارية فارسية، وما لبث أن توفيت بعد أيام من ولادته متأثرة بحمى النفاس.
وبالرغم من أن المأمون كان هو الابن الأكبر للخليفة هارون الرشيد، ومع كل ما كان يتميز به المأمون من نجابة وذكاء وعلو همة، وما حظي به من ثقة أبيه فيه.. فإن الرشيد آثر أن يجعل البيعة بولاية العهد للأمين، وقد كان الأمين ومكانتهم لدى زوجها الرشيد في حثه على إعلان ولاية العهد لابنها الأمين وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره سنة [175 هـ = 791هـ]، ولكن الرشيد عاد فأشرك المأمون مع أخيه في ولاية العهد سنة [183 هـ = 799م].
أراد الرشيد بذلك أن تستقر الأمور بين الأخوين من بعده، فلا يثور الخلاف بينهما ولا يحدث ما كان يحدث عادة من صراع حول الحكم بعد كل خليفة، فاستوثق لكل منهما من أخيه سنة (186 هـ = 802م) وأشهد على ذلك كبار رجال دولته.
الطريق إلى العرش
توفي الخليفة هارون الرشيد وتولّى الأمين الخلافة من بعده، وبدأ الخلاف يدب بين الأخوين، خاصة بعد تراجع الأمين عما قطعه لأبيه من عهود ومواثيق، حيث جعل ابنه موسى وليًا للعهد بدلاً من أخويه المأمون و”المؤتمن”، كما رفض أن يردَّ إلى أخيه المأمون مائة ألف دينار كان والده قد أوصى بها إليه، وسرعان ما تطور الخلاف بين الأخوين إلى صراع وقتال، ودارت حرب عنيفة بين الجانبين، وقامت جيوش المأمون بمحاصرة بغداد وانتهى الأمر بمقتل الأمين عام (198هـ = 813م)، وتولى المأمون على إثر ذلك الخلافة من بعده في [25 من المحرم 198هـ= 25من سبتمبر 813م].
القضاء على الفتن
سعى المأمون منذ الوهلة الأولى للعمل على استقرار البلاد، والقضاء على الفتن والثورات، فتصدى بحزم وقوة لثورات الشيعة، وواجه بحسم وعنف حركات التمرد ومحاولات الخروج على سلطة الخلافة، فقد قضى على حركة “ابن طباطبا العلوي” سنة [199هـ = 814م]، وثورة “الحسن بن الحسين” في الحجاز، و”عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب” في اليمن سنة [207هـ = 822م].
وفي مقابل ذلك فإنه أقدم على خطوة جريئة، وأمر لم يسبقه إليه أحد من الخلفاء، فقد اختار أحد أبناء البيت العلوي وهو “علي بن موسى الرضا” ليكون وليًا للعهد من بعده، وقد أثار هذا الأمر غضب واستياء العباسيين؛ مما دفعهم إلى مبايعة “إبراهيم بن المهدي” –عم المأمون– بالخلافة سنة [202هـ =817م].
لما علم المأمون بذلك جهز جيشًا كبيرًا، وسار على رأسه من خراسان قاصدًا بغداد، فهرب إبراهيم بن المهدي من بغداد. وفي ذلك الوقت توفي علي بن موسى، فكان لذلك أكبر الأثر في تهدئة الموقف، فلما دخل المأمون بغداد عفا عن عمه.
نهضة علمية
شهد عصر المأمون نهضة حضارية كبيرة، فقد كان المأمون محبًا للعلم والأدب وكان شاعرًا وعالمًا وأديبًا، يحب الشعر ويجالس الشعراء ويشجعهم، وكان يعجب بالبلاغة والأدب، كما كان للفقه نصيب كبير من اهتمامه، وكان العلماء والأدباء والفقهاء لا يفارقونه في حضر أو سفر، وقد أدى تشجيعه للشعراء في أيامه إلى إعطاء الشعر دفعة قوية، وكان تشجيعه للعلوم والفنون والآداب والفلسفة ذا أثر عظيم في رقيها وتقدمها، وانبعاث حركة أدبية وعلمية زاهرة، ونهضة فكرية عظيمة امتدت أصداؤها من بغداد حاضرة العالم الإسلامي ومركز الخلافة العباسية إلى جميع أرجاء المعمورة، فقد استطاع المأمون أن يشيد صرحًا حضاريًا عظيمًا، وأن يعطي للعلم دفعة قوية ظلت آثارها واضحة لقرون عديدة.
لقد أرسل المأمون البعوث إلى “القسطنطينية” و”الإسكندرية” و”إنطاكية” وغيرها من المدن للبحث عن مؤلفات علماء اليونان، وأجرى الأرزاق على طائفة من المترجمين لنقل هذه الكتب إلى اللغة العربية، وأنشأ مجمعًا علميًا في بغداد، ومرصدين أحدهما في بغداد والآخر في “تدمر”، وأمر الفلكيين برصد حركات الكواكب، كما أمر برسم خريطة جغرافية كبيرة للعالم.
حركة الترجمة
وكان لتشجيعه حركة الترجمة أكبر الأثر في ازدهارها في عهده، فظهر عدد كبير من العلماء ممن قاموا بدور مهم في نقل العلوم والفنون والآداب والفلسفة إلى العربية، والإفادة منها وتطويرها، ومن هؤلاء:
“حنين بن إسحاق” الطبيب البارع الذي ألف العديد من المؤلفات الطبية، كما ترجم عددًا من كتب أرسطو وأفلاطون إلى العربية.
و”يحيى بن ماسويه” الذي كان يشرف على “بيت الحكمة” في بغداد وكان يؤلف بالسريانية والعربية، كما كان متمكنًا من اليونانية، وله كتاب طبي عن الحميات اشتهر زمنًا طويلاً، ثم ترجم بعد ذلك إلى العبرية واللاتينية.
و”ميخائيل بن ماسويه” وكان طبيب المأمون الخاص، وكان يثق بعلمه فلا يشرب دواءً إلا من تركيبه.
المأمون والروم
ولعل من أبرز الأسباب التي أدت إلى ظهور تلك النهضة الحضارية والعلمية في عصر المأمون ذلك الهدوء الذي ساد الأجواء بين الخلافة العباسية والروم، والذي استمر لأكثر من عشرة أعوام.
ولكن ما لبث أن تبدد ذلك الهدوء حينما بدأ المأمون حملاته ضد الروم عام [215هـ = 830م] ففتح عددًا من الحصون القريبة من حدود دولته، مثل حصن “قرة” و حصن “ماجدة” و حصن “سندس” وحصن “سنان” ثم عاد إلى الشام، ولكن الروم أغاروا على “طرسوس” وقتلوا نحو ألف وستمائة من أهلها، فعاد إليهم المأمون مرة أخرى، واستطاع أخوه “المعتصم” أن يفتح نحو ثلاثين حصنًا من حصون الروم.
وفي العام التالي أغار عليهم المأمون مرة أخرى، حتى طلب منه “تيوفيل” – ملك الروم- الصلح، وعرض دفع الفدية مقابل السلام.
ولم يمر وقت طويل حتى توفي المأمون في “البندون” قريبًا من طرسوس في [18 من رجب 218هـ= 10من أغسطس 833م] عن عمر بلغ ثمانية وأربعين عامًا، قضى منها في الخلافة عشرين عامًا.
سمير حلبي5>