منذ أن أطلق محمد إقبال (تـ1357هـ /1938م) في محاضراته الشهيرة -ثلاثينات القرن الماضي- مصطلحَ التجديد الإسلامي المؤسِّسَ لفهم معاصر للدين تأكّد تحقّقُ تطوّر نوعيّ في فكر المسلمين الديني. كانت الإضافة التي ميّزت خطاب التجديد هي إكسابه دلالة تفصله نهائيا عن مفهومين سائدين كثيرا ما اعتُبرا مرادفين له: الاجتهاد والإصلاح. أهمية التجديد عند إقبال كامنةٌ من جهة أولى في الدائرة التي رسمها له والتي تتجاوز المجال الفقهي الذي ينكبّ عليه المجتهد والمجال المؤسسي السياسي الذي اعتنت به المدرسة الإصلاحية. ما اقتضاه مجال التجديد عند إقبال تمثّل في مراجعات فكرية وعقدية أعادت النظر في مسائل كبرى كالوحي والنبوّة والدين والزمان والمعرفة والإنسان. من جهة أخرى كان التجديد عنده ممنهجا بطريقة يعسر اعتبارها مقطوعةً عن جذورها الإسلامية رغم أن همّها الأساسي بقي الإجابة عن متطلبات الفكر وكشوفات المعرفة الإنسانية في لحظتها الحديثة. من ثم كان التجديد أفقا مغايرا أثراه التفاعل مع الآخر لكن غايته كانت حفز المسلم على الوعي بذاته.
اللاّفت للنظر في مسعى إقبال التجديدي هو أنه في حرصه على التمايز عن القراءتين الفقهية والإصلاحية في الموضوعات والآلية ما استطاع أن يتجنّب مجالَ تفسير بعض آي القرآن مقتحما بذلك مجال تبريز المجتهد والمصلح. لكن إقبال في مباشرته للنص القرآني لم ينظر إلى الآيات القرآنية التي تناولها بشكل مستقل عن الفكر الذي يؤسس له وتلك (الروح الجديدة في الإسلام) التي يسعى إلى بعثها(1). في هذا كان مخالفا للفقيه والإصلاحي اللذين كانا في تفسيرهما يتوخيان المحافظة منهجا وغاية، فالمسعى الاجتهادي يرمي إلى الإبقاء على التماسك الاجتماعي مهما تغيّرت الأوضاع، بينما يهدف الإصلاح إلى مراجعة أوضاع المؤسسات الكبرى بما يقلِّص الفجوة الحضارية بين العالم الإسلامي في حاضره وما ينبغي أن يكون عليه. القراءة التي قدّمها إقبال لبعض المواضيع القرآنية كانت مغايرة في جوهرها لاعتمادها على مبدأ التطوّر وإقرارها بأنه في مجال المعرفة الدينية لا يمكن للمفكر أن يستقلّ تمام الاستقلال عن الواقع المتحقق في عالم التجربة.
فما نعثر عليه في مدونة إقبال من مقاطع تفسيرية جاء مختلفا منهجا ونظاما معرفيّا عما اعتاده عموم المفسرين، هو لم يَدَّعِ فيها أنه (يتدبّر) أفهام آيات القرآن بل كان يعمل على أن يتقدّم تلك الأفهام ليتجاوزها. نجد ذلك جليّا في حديثه عن مسائل مثل الخَلْق والشريعة والنبوة وهبوط آدم والمعاد والحساب.
هذا ما يجعلنا نعتبر أن (محمد إقبال) لم يقترح في مشروعه التجديدي أصولا جديدة لعلم التفسير بل ركّز عمله على نماذج من التأويل عدّها مدخلا لوعي ذاتي بديل.
هو في فعله ذلك يوحي بأن التفسير ليس علما مُنْجَزًا بقدر ما هو جهدٌ معرفيّ مفتوح يتمثّل عددا من الآيات على أساس جدل بين المعرفة الحديثة والتجربة الدينية الذاتية.
جاء تصوّر إقبال التجديدي في عبارة محدّدة حين قال: (هناك حاجة إلى وضع المعرفة الدينية في صورة علمية…(لذلك) حاولتُ بناء فلسفة إسلامية باعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، وباعتبار ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطوّر)(2).
لكن هذا المسلك الحداثي الذي يعيد بناء الفكر الديني في الإسلام عموما والفهم القرآني خصوصا ظلّ محدود الانتشار. مع ذلك، فإن السعي المتجاوز للتمشي التراثي لم ينقطع وإن كان متقطّعا طوال النصف الثاني من القرن العشرين، فبعد إقبال ظهرت محاولات كانت من أهمها اثنتان: الأولى لفضل الرحمن، والثانية لطه عبد الرحمن.
ما نسعى إلى إبرازه في هذه الدراسة يعود إلى هذه الجهود التجديدية بتناول مسألة الإنسان لكونها مفهومًا حدِّيّا يفصل بين القراءة التراثية التي تدّعي الموضوعية المطلقة في فهم النص القرآني وبين الفهم الحداثي الذي يربط بين الإنسان وتجربته الوجودية والمعرفية وانفتاح الخطاب القرآني عليها.
قصة أخرى للآدمي
عندما نتدبر الموقع الذي يحتلّه الإنسان في البناء القرآني نتبين أننا إزاء مسألة إشكالية تعرض للإنسان بوصفه هويةً مركَّبة يضيئها النص القرآني من زوايا مختلفة تتكامل بما يحقّق تغييرا دلاليا للإنسان وللعالَم.
من خلال هويّة الإنسان القرآنية تتحدّد جملةُ مسائل ترتبط بتلك الهوية ارتباطا قويا مما يجعلها من قبيل التعابير المفتاحية (Key-terms) ذات الوظيفة الرئيسة في إبراز ما يميّز النظرة القرآنية(3).
هناك من ناحية أولى علاقة الإنسان بالعالَم ثم علاقته بالتاريخ. هذان البعدان يرتبطان ببعد أنتولوجي للإنسان يكشفه كائنًا ذا وجود مطلق مجرّد من كل تعيين وتحديد.
من خلال هذه المستويات الثلاثة يظهر الإنسان في هويته القرآنية وقد انتصب سيّدًا للعالَم ومحرّكا للتاريخ بفضـل تلك الكينونة المفارقة التي تجعله في علاقة استخلاف لله -تعالى- بعيدا عن كل سياقِ تناظرٍ ضديٍّ معه أو عبوديّة ساذجة له.
بهذه الهوية القرآنية يتحقق مبدأ خلافة الإنسان لله في الأرض، وهو المبدأ الذي تجسّده مسيرة الإنسان الحضارية والتاريخية.
هما الوجهان اللّذان يتجادلان: الوجه المفارق المتعالي الذي يكون فيه الإنسان أمام الله الخالق المستخلِف والوجه الإنسيّ للإنسان بوصفه صانعًا للمعنى ومحققاً له من خلال الشروط التاريخية والفكرية الموضوعية.
ما يؤديه التمعّن في عموم الآيات القرآنية المتعلقة بالعالَم يضيء زاوية نظر أولى للإنسان تحددها ثلاثة عناصر تتضافر عدة آيات على إبرازها. هذه العناصر هي:
أ- تَشْيِئَة العالَم: نعني به أن العالم بسمائه وأرضه، بجباله وأوديته وأنهاره وبحاره وما سواها من المفردات مخلوقٌ لله خاضع لسلطانه مسخَّـرٌ بأمره. هذه التشيئة تنفي أيَّة قدرة أو فاعلية ذاتية لكل تلك الأجزاء, وهذا ما جاءت تؤكده أكثر من آية مثل:
– ﴿لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء﴾(4).
– ﴿ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال﴾(5).
مؤدّى هذا العنصر الأول في المجال الفكري والحضاري هو إقامة علائق موضوعية بين العالَم والإنسان، فبه تتراجع العقلية الأسطورية التي كانت تصوغ العالَم صياغة سحرية. يتمّ ذلك عبر تحييده, وانسحاب كل القوى الروحية الفاعلة منه وهو الانسحاب الضروري لميلاد معرفة جديدة. من هذه الجهة يُعتبَر الخطاب القرآني قطيعة معرفية مع الشرك وكل المعتقدات الإحيائية التي سادت البلاد العربية وغيرها. إنه تحوّل ضخم بالنسبة إلى الإنسان إذ إِن تشيئة العالَم تُعتبَر وسيطا لإنسانية الإنسان، فبها وفيها يتعرّف الإنسان إلى خصوصيته الإنسانية وتعدد أبعادها ومن ثم تبرز مكانته في هذا العالَم الذي يصبح موضوعا للبحث ومجالا للفعل.
ب- الزيادة المطّردة للكون: تُبرِز الآياتُ القرآنية العديدة عنصرا ثانيا متعلقا بالعالَم وخصائصه داحضة به ما كان معتمدا من معتقدات لدى طائفة من العرب كانت لا ترى سببا لوجود هذا العالَم إلا (الطبع المحيي والدهر المفني) أو ما يسميه مؤرخو العقائد (معطِّلة العرب). هؤلاء لم تَهْدِهِمْ عقولهم إلى الإقرار بالخالق والدار الآخرة فكأنهم عطلوا هذه المعتقدات ولم يروا فيها أية جدوى.
عن هؤلاء يقول القرآن الكريم:
– ﴿وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون﴾(6). من ثم جاء الردّ القرآني على هذا العقلية الثبوتية والقارّة معزِّزًا رؤيةً مغايرة تقوم على خَـلْق لا يتوقف للعالَم ومسيرة منفتحة لا تفتأ تنمو وتزيد.
يقول تعالى:
– ﴿يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير﴾(7).
– ﴿والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون﴾(8).
– ﴿يسأله من في السماوات والأرض كلَّ يوم هو في شأن﴾(9).
هذه الآيات وغيرها حين تعرض صورة لعالَمٍ بعيدٍ عن الجمود والتوقف إنما تفعل ذلك لتُقِرَّ في الإنسان المؤمن من خلال حقيقة العالَم المادي معنى لا يتأتّى له أن يتجاهله إن أراد النجاة لنفسه. إنه قانون الحياة:
– ﴿يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه﴾(10).
ج- غائية العالَم وآفاق الإنسان: من تركيب العنصرين الماضيين تتّضح مكانةٌ جديدة للإنسان في الخطاب القرآني ضمن حركية العالَم الماديّ التي لا تتوقف؛ فمن التأسيس الضروري للتسخير المتيح للتمكين من موقع الخلافة في عالَم تمسك به القدرة الإلهية الواحدة – يحتلّ الإنسان موقع الاستخلاف، فتتجاوز علاقته بالعالَم الحدود الضيقة والمهينة التي انساقت فيها بعض الأوضاع القديمة من خلال نظرتها إلى العالَم المادي. عبر هذه البنية التي تتيح سيادة على عالَم يسبِّح لله يشرف الإنسان على أفق طالما حالت دونه الحواجز: أفق الكونية.
أما من جهة علاقة الإنسان بالتاريخ فالخطاب القرآني يحدد للإنسان قيمة (الحرية) ليؤسس عليها منزلة الآدمي الوجودية. الهويّة القرآنية للإنسان تجعله كائنا تاريخيّا بمعنى أنّه يفهم نفسه ليس من خلال التأمّل العقليّ بل من خلال التجارب المتجدّدة والموضوعيّة للحياة التي يكتسبها.
لا أدلَّ على هذا المعنى من الآية الكريمة التي تقرن بين حرية الإنسان وما يتصدى له من عوائق يجسّد الشيطان جانبا منها حين يقول: ﴿وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسَكم﴾(11).
بناء على هذا لا يمكن عدّ هويّة الإنسان وإرادته ووعيه أشياء محدّدة سلفا بل الأدقّ القول بأن الإنسان وهويّته في حالة تخَلُّق، وبأنّه لا يفهم نفسه إلاّ بطريق غير مباشر. بذلك يكون الخطاب القرآني في المستوى التاريخي للإنسان إنما هو تأسيس لحرية الآدمي قيمةً مركزية لمشروع استخلافه في الأرض.
هذا ما حدا بمحمد إقبال أن يفهم قصة نزول آدم في ضوء أحد أبرز محددات إنسانية الإنسان وهي الحرية. إنه يرى أن الأهمّ في تلك القصّة هو إبرازها لأبعاد ذاتيّة الإنسان في نموّها من حالة بدائية إلى مرحلة أكثر تطوّرا، نموٍّ ينقله من وضع يكون فيه مرتكِزا على الشهوة الغريزيَّة ومقطوعا عن البيئة التي يعيش فيها إلى آخر يعي فيه أنَّ له نفسا استيقظت لتدرك أنّها صاحبة إرادة. على هذا يكون هبوط آدم هو ارتقاء لأنه يحقّق للإنسان شعورا بأنّه ذو صلة عِلِّية وشخصيّة بوجوده. في خطوة أخيرة يقرّر إقبال أن قصّة (هبوط) آدم هي بداية نشوء الذّات الحرّة عن رغبة ورضا. ذلك أنّ الهبوط هو تجسيد للفعل الإنساني القائم على حرّية الاختيار. إنّه الإعلان عن بروز ذات متناهية لها القدرة على أن تختار. ثمّ لإتمام جوانب القصّة القرآنية يرى إقبال أن ما ورد من أكل من الشجرة ينبغي أن يؤوَّل ضمن هذه الحركيّة. فالإنسان الذّي أكل من الشجرة (رمز المعرفة) أخطأ من حيث أراد أن يصل إلى ثمرها من أقرب طريق ودون أيّ كدح. لذلك كان تصحيح الخطأ عبر انتقاله إلى البيئة الملائمة لإبراز قواه العاقلة عن طريق الكّد وصناعة التاريخ. تلك البيئة التّي تحقّق خصوصياته بوصفه كائنا متميزا بالمعرفة والحريّة لا يمكنه أن يفتِّق ذاتَه إلاّ عبر الصراع والرضا بالتناهي(12).
من هذا الترابط بين مجالي عالَمٍ لا يحمل قداسة ذاتية وسيادةٍ استخلافية للإنسان تحقّقُ انضباطا شاملا للكون وحركية دائمة يبرز إنسانٌ جديدٌ يتجاوز الانبهار بتعدد مظاهر الحياة وتشابك قواها واختلاف خصوصياتها. هذا الإنسان يصبح بمعارفه الجديدة والمتجددة قطب الرحى وبؤرة تفاعلات عالَم هو مَعْــبَرٌ لإنسانية الإنسان يكتشف به نفسَه ويصوغ من خلاله استقلالا واستيعابا لا يتوقَّفان. بذلك يكون مقصود العالَم وغائيته، في الخطاب القرآني، هو بالدرجة الأولى أنسنة الإنسان وتحرره(13).
أما عن موقع الإنسان في المشهد العام بمختلف مستوياته فيتأكد أنه تعبير عن علاقة إشكالية، أي أنه ليس لها حلّ نهائي وناجز. إنها هويّة قابلة لتجدّدٍ دائمٍ إذا أردنا تجنّب فقدان الإنسان رسالته ومعناه.
المنهج: في علاقة النصّ بالتاريخ
حين نعالج مقولة (الإنسان) في الخطاب القرآني في ضوء الجهود التجديدية التي برزت في العصر الحديث، فإنّنا نكون بالضرورة مواجهين لقضية المنهج الذي ينبغي اعتماده في تفسير النص. ما مـيّز المقاربة الحديثة في تناولها مسألة (الإنسان) هو الطرح الذي تجاوزت به ما ظهر مبكرا من جهود المفسرين الأوائل المهتمين بالدلالة القرآنية. لقد اتجهت عناية تلك المحاولات بعبارات القرآن الكريم وإشاراته بوصفها تبرز وجوه إعجازه. ذلك كان شأن ما حُرِّر خاصة من كتب (معاني القرآن) في القرن الثالث الهجري وما تلاه وهي أعمال أثارت جدلا حال دون تطوّر هذا المنحى التفسيري لصالح نهج آخر يعتني بالتتبع التفصيلي لألفاظ القرآن وتراكيبه.
بعد قرون حاول بعض الدارسين في العصر الحديث إحياء المحاولات المتعثّرة الأولى باسم ما عرف بالتفسير الموضوعي(14).
لكن ما اختصّت به الجهود الحداثية مقارنة بما ظهر في القرون الهجرية الأولى ثم مع ما حرص عليه بعض الإصلاحيين في معالجتهم الموضعية لقضايا قرآنية كان متمثلا في انطلاقهم من نظرية في المعجم القرآني.
خلاصة هذه النظرية أن الوحي عند تنزّله على الرسول -عليه السلام- استعمل لغة عربية كان ينقل بعض دلالاتها إلى معان جديدة تختلف عما كان متداولا بين العرب بما يُتيح التأسيس لنظرة جديدة إلى العالَم (Weltanschauung). على هذا يكون الوحي قد أبدع معجما قرآنيا خاصا بفضل حركية دلالية وتصورية لم تُولِــها الدراسات القرآنية عناية تُذكر عند وضعها ضوابط التفسير وعلوم القرآن.
لإبراز هذا الحراك الدلالي وحاجته إلى منهج جديد يتناول النص الموحى تحدّث (فهمي جدعان) عن الوحي الذي خطا خطوة حداثية كبرى إذ تدخَّل في التاريخ ليحرر العقلية العربية والفعل العربي من الميثولوجيا القديمة ومن سلطة الخرافة والتقليد وأساطير الأولين وليسلمها لسلطان السمع والبصر والفؤاد أي إلى سلطات الإدراك الإنسانية الطبيعية لتكتمل بحكمتها وبالكتاب للإنسان أسباب العلم والفعل السديد(15).
تواصلا مع هذا التوجّه يقترح (مجتهد شبستري) المفكر الإيراني المعاصر مصطلح (علم النص) ليكونَ علما يربط بين المتن وبين الواقعيات المحايثة له ولرصد الانزياح الدلالي عبر منهج حديث بما يخرج الدراسات القرآنية من دائرة التقليد(16).
مثل هذه التوجهات الحداثية التي تسعى إلى إرساء فكر ديني يعيد اكتشاف معاني القرآن وفق شروط الوعي المعاصر تنهل من روح الحداثة التي لا ترى للحياة غائية محددة خارج الوعي الإنساني مؤكدة أن هذه الروح لا تتناقض مع حراك الوحي الذي لم يتجاهل الشروط الموضوعية للسياق التاريخي.
بتعبير آخر فإن التعالي الإلهيّ جوهري في الدين والثقافة الإسلاميّة لكنه يقوم في الوقت نفسه على نظرة إنسيَّةٍ تنجز المشروع الإسلامي. ذلك هو معنى الاستخلاف الذي يجعل الإنسان الخليفة مبدعا للمعنى بفضل خطاب قرآني يضع الآدمي أمام الله وليس في سياق تنافٍ أو تضاد معه(17).
إذا أردنا تقديم مثال على هذا الجدل بين الوحي والتاريخ – فإن لفظ (إنسان) في النص القرآني يصلح نموذجا متميّزا لضرب من العبارات المفتاحية في المعجم القرآني التي انزاحت من نسق معجمي سائد إلى نسق جديد فرضه الخطاب القرآني.
كيف يتبدّى لنا (الإنسان) في النص أوّلا, وفي الخطاب القرآني ثانيا؟
ذُكر لفظ الإنسان في النص القرآني مرات قليلة لا تتجاوز الـ65 مرة فهو من هذه الناحية لا يعتبر من أهم الألفاظ القرآنية مقارنة بلفظة الله (2844 مرة) ولفظة الربّ (930مرة) ولفظة أمن (924مرة)(18).
من جهة ثانية فإن السياق الدّلالي الذي ترد فيه كلمة الإنسان يتوزّعه محوران: محو ر الإدانة الواضحة فهو ضعيف – يؤوس – خصيم مبين – عجول – كفور(19). هذا شأنه في أكثر من نصف الآيات التي تذكر الإنسان. إضافة إلى هذا نجد محورا يتحدّث عن خَلقه وما أودعه الله فيه من استعدادات متباينة: فهو من حمأ مسنون -من علق- من صلصال، هذا إلى جانب أنّ الله علّمَهُ البيان وعلّمه ما لم يعلم(20).
كيف يمكن أن نعالج هذا الجانب من النص والحال أن عموم الخطاب القرآني يتجه في خصوص الإنسان وجهة أخرى إذ يجعله يحظى بمكانة متميزة فهو خليفة الله وهو مخاطَب بالوحي؟
لا بد هنا من العود إلى ما أشرنا إليه من (علم النص) الذي ينطلق من الوعي بخصوصية الوحي وطبيعة الخطاب الإلهي للناس. يتأسس هذا العلم من مبدأ أن الله الذي تَجلَّى للعالَم قد تجلّى للإنسان فخاطبه بالرسالة، وجعل نصَّها الديني غير منفصل عن تاريخه في الوقت الذي تكون وظيفة الوحي تعاليا وتحرّرا من ذلك التاريخ. بعبارة أخرى: يعتبر علمُ النص أنّ الوحي الإلهي حين يتجسّد نصّا لا يستقلّ تماما عن التجربة الإنسانية وإن كانت غايتُه مجاوزتَها.
حين ينصّ القرآن على أنّ الإنسان (لا يسأم من دعاء الخير)، وأنه إذا أنعم الله عليه (أعرض ونأى بجانبه)، فلا بد أن نتذكر أوّلا أن كلمة إنسان في الّلغة القرآنية قريبة العهد بالاستعمال اللغويّ العربيّ القديم الذي يتداول هذا اللفظ في سياق استهجانيّ لأن الإنسان قرين الضآلة والانقطاع والخروج عن الجماعة(21). تساعدُنا على التحقق من هذا المعاجمُ التي نجد فيها أنّ: (الإنسان له خمسة معان أحدها الأُنمُلة، وثانيها ظِلّ الإنسان، وثالثها رأس الجبل، ورابعها الأرض التي لم تزرع، وخامسها المثال الذي يُرى في سواد العين ويقال له إنسان العين….)(22). ما ورد من الآيات عن الإنسان (الكنود) أو الذي (يفجُرُ أمامه) وثيق الصلة بالنسق المعتمد في الثقافة العربية السائدة آنئذٍ وهو نسق يعتبر التفرُّدَ مهلكةً وخُسرانا بينما يُعلي من شأن الانضواء في العشيرة والسعي لجمع شتاتها. هذا الترسّب التاريخي المستهجِن للنزعة الفردية قائمٌ في النص القرآني رغم أن خطاب الوحي يريد باستعماله إياه أن يزحزحه ويدفع به خارج هذا الحقل فيذكر أن الإنسان هو أيضا مُصغٍ إلى النصح وقابل للتوجيه : ﴿ووصينا الإنسان بوالديه﴾ وأنه ﴿على نفسه بصيرة﴾ وأنه خُلِق ﴿في أحسن تقويم﴾(23).
هذه المواكبة التي يكشفها لنا بحث الإنسان في النص بمنهج يميّز بينه وبين الخطاب تجعلنا ندرك أن الوحي يتفاعل مع الشروط الموضوعية التاريخية لكنه لا يقف عندها. من ثَم كان لا بدّ من التفريق بين نص القرآن كمتن وبين خطاب القرآن الذي هو أوسع مجالا لأنه مرتبط بعالم ذلك المتن وعالم النبوّة التي استوعبت الوحي.
صورة الإنسان في المتن إذن مختلفة عنها في الخطاب القرآني، وهذا ما يؤكد الحاجة إلى منهج تاريخي لدلاليات المعجم القرآني يسهم في إعادة تأسيس لحرية الآدمي بوصفه قيمةً مركزية لمشروع استخلافه في الأرض.
عند هذا الحدّ ندرك دقة ما ذهب إليه فضل الرحمن (تـ 1409هـ/1988م) أحد المجددين الحداثيين المغمورين في العالم الإسلامي المعاصر في اهتمامه بخطورة المنهج القرآني وفي علاقته بأسئلة الحرية وبإنسيّة المشروع الثقافي في الإسلام.
يقول فضل الرحمن في كتابه (الإسلام وضرورة التحديث) الذي يعتبره تواصلا مع مسيرة إقبال التجديدية – إنه لا سبيل إلى خلاص ممكن إلا بإحداث تغيير في التقاليد الثقافية، مثل هذا المشروع المحقق لتغيّر اجتماعيّ مرتبط بالنزعة العقليّة في الإسلام تلك النزعة التي لا تنفصل عن (أسلوب تفسير القرآن). ذلك أنّ تعثّرات الحاضر وعدم نجاعة الأدوات الفكريّة المعتَمدة إنّما يرجع إلى (الافتقار إلى المنهج الصالح لفهم القرآن نفسه)(24).
التجديد، إبداعٌ موصول
ما سبق أن ذكرناه من أن لفظ الإنسان لا يعدّ من أهم الألفاظ القرآنية لا يعني بأي حال أن مفهوم الإِنسيّة (Humanism) غريب عن الخطاب القرآني وعن الثقافة الإسلامية.
إن الاعتداد بالإبداع الإنساني وبحريته وفكره ينبغي أَلاَّ يُستفاد من عدد المرات التي جرى فيها ذكر عبارة الإنسان في النص الموحى أو من جملة من الآيات المعزولة عن بعضها بعضاً وعن الخطاب القرآني بكامله.
في هذا المستوى لا بد من التذكير بأن الرؤية التجديدية الحداثية تنظر إلى القرآن بوصفه نصًّا ذا بنية متميّزة ومنطق داخلي وأنّ به علاقات بــينية تربط مختلف الدلالات ضمن حقول ودوائر مفاهيمية واضعة بذلك تراتبية للمعاني المميزة للخطاب القرآني(25). هذه المنهجية تؤدي إلى أمرين : لا يمكن أن نسعى إلى مفاهيم حديثة كالإِنسيّة أو الحرية أو المواطنة أو الدولة بالبحث عن عبارات اصطلاحية محددة تقابل ما توصل إليه الفكر الإنساني في صيغته الحديثة الغربية. من جهة ثانية ينبغي ألاّ نتوقع العثور على كل المفاهيم أو القيم الحديثة ضمن الخطاب القرآني.
لذلك فإننا نحتاج عند دراسة مفهوم (الإنسان) في الخطاب القرآني إلى توقي هذين المزلقين اللذين يتجاهلان أو ينكران -كلٌّ بطريقته- أهميّة الخصوصية الدينية والثقافية للإسلام. ذلك ما وقع فيه الفكر الإصلاحي بمنهجه التوفيقي الساعي إلى إرساء أرضية نظرية تستسيغ أهم الأفكار العصرية. في المقابل كان هناك المزلق المناقض الذي وقعت فيه عدة دراسات استشراقية حين لم تعتبر النص القرآني كتلة مستقلة ذات نظام خاص وخطاب مميّز فلم تر فيه إلاّ تداخل مجموعة مؤثرات بيئية محيطة به، وبالخصوص مؤثرات يهودية ومسيحية.
ما نريد أن نُثبته هو أن ما اعتمده التجديديون من منهج تاريخي دلالي في معالجة حداثية للإنسان في الخطاب القرآني ينتهي إلى الإقرار بالإِنسيّة القرآنية في مقاومتها للتقليد والجمود وفي الاعتماد على الحرية والإبداع الإنسانيين. هي من هذا الجانب لا ترى ما يدعو إلى ضرورة التجرّد من كل أثرٍ للمقدَّس الديني قياسا على ما صاحب النزعة الإِنسيّة الأوروبية في عصر النهضة من حرص على التخلّص من سلطة الكنيسة وقيودها الفكرية واللاهوتية.
من ثم يصبح من الضروري عند البحث في موضوع الإِنسيّة النظرُ في جملة عبارات أسهمت في تشكيل البناء الدلالي العام.
ما ينبغي التنبيه إليه في الموضوع الذي يشغلنا الآن هو أن لفظ (إنسان) يشترك مع عبارات (آدم) و(نفس) و(أمّة) و(الناس) في صياغة حقل دلالي للمعجم القرآني يساعد على تبيّن طبيعة الخطاب القرآني المتعلق ببعده الإنساني والكوني بما يساعد على فهم رسالته وخاصة في السياق الحديث والمعاصر.
هذه العبارات لا يمكن أن تُدرَس في انفصال عن بعضها بل ينبغي النظر إليها على أنها عبارات مفتاحية في نظام مفاهيمي متكامل صدم قديما الذهنية العربية المشركة وتجاوزها وهو قابل للإسهام اليوم – إن وقع استيعاب (الدرس الدلالي للقرآن) – في إثراء الوجود الإنساني في جانبين رئيسين: علاقة الإنسان بالله ونظرة القرآن إلى العالَم.
ما ذكرناه في الفقرة السابقة عن لفظتي (الإنسان) و(آدم) وتغطيتهما للبعدين التاريخي والأنتولوجي تُتَمِّمُهما عبارة (نفس) ذات الاطراد الأكبر وذات التوجه المعبّر عن الاستعدادات الكبرى التي يتمتع بها الإنسان لتحمّل المسؤولية في رسالة التوحيد والاستخلاف. هذه العبارة المفتاحية الثالثة التي استُعملت أكثر من مائتين وتسعين مرة في صيغ مختلفة تلتقي -رغم تشعبها- في تلك النفس الواحدة الجامعة: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة)(26)، تلك النفس المكلَّفة (لا تُكَلَّفُ نفسٌ إلا وسعها)(27)، وهي ذاتها المسؤولة (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها)(28). في هذه العبارة ذات الحضور القويّ ضمن الحقل الدلالي القرآني للإنسان نتبيّن أنّها تغطّي عالَم الغيب وعالَم الشهادة بما يبرز الطابع الأخلاقي الذي لا ينفك قائما في هذا الحقل مهما اختلفت الظروف والأزمنة.
لذلك فإن إضاءة هذه العبارة تنفي كل تضاد يمكن أن تُفهم على أساسه طبيعة العلاقة بين الله والإنسان من جهة وهي في الوقت نفسه تبدد كل سوداوية في النظر إلى العالَم. هي بذلك تُنشِئُ أمنا لا يقابله إلاّ الشكر لفضل الله إذ هي لا تعبأ بانقسام العالَم إلى شهادة وغيب بل تقرّ قيمة العدل الكامل لله -تعالى- فتبـيّن بذلك صميمية البعد الأخلاقي في التصوّر القرآني لله -تعالى-.
ما تفيدنا به عبارة (النفس) في النسق الدلالي للقرآن حين تُـرَكَّب في منظومة متزامنة مع (الإنسان) و(آدم) هي كشفها جانبا أساسيا للخطاب القرآني في خصوص علاقة الإنسان بالله من ناحية وفي نظرته إلى الحياة والعالَم من ناحية أخرى.
إنها علاقة مرتبطة أساسا بوحدة النص التي تشرح تكامل المستويات الثلاثة التي تحدد موقع شخصية الإنسان ضمن تصوّر النص في تكامله وخصوصياته البنائية.
هذا التعدد في مستويات الفهم الذي تقترحه القراءة التجديدية مهمٌّ لأنه كفيل بما يمكن تسميته (وحدة الخطاب وتعدد مستويات النص) وهو الفيصل بين المسلكين: السلفي والتجديدي أي بين من يرى أنّ القرآن كتاب حاوٍ لسور مفصّلة تتضمن عبادات ومعاملات, ومن يرى فيه ذلك وأكثر إذ يعتبره كتاباً إلهيا مفتوحا على التجربة الوجودية الكونية. ظاهريا ليس هناك تناقض بين الرؤيتين إلاّ أنّ الأولى مطبوعة بطابع ثبوتيّ لا تولي كبير عناية لما يمكن أن يعنيه أن القرآن مصدر الحكمة الشاملة أو ما يسميه أبو القاسم حاج حمد: قدرات القرآن في عطاءات عُصورية مستقبلية. مثل هذه الرؤية لطبيعة القرآن تجعل المؤمن القارئ تجديديا أي معبّرا عن حاجيات الأمة المتجددة مستنيرا بـفـهم القرآن في كليته ونظريته المجسدة لحقيقة الرسالة المحمدية في لحظة تاريخية محددة.
(وحدة الخطاب وتعدد مستويات النص) جزء أساس من علم النص الذي لا يرى في النص سديما متراميا فلا يقتصر على القول بأن القرآن هو نص داعٍ لعقيدة التوحيد ولمستلزماتها السلوكية. إنّه يرى فيه أيضا النص المحمولَ على دينامية تمكّن المؤمن في كل فترة، من خلال قراءة توحيدية للنص، أن يتجاوز بوعيٍ مواقعَ التعطّل في بنيته الثقافية وأن يتدخّل في التاريخ ليسهم في اكتمال حكمة الإنسان ودعم أسباب علمه وتسديد فعله.
هذه القراءة المهتمّة بالبنية المركّبة للمنظومة القرآنية تتفطّن إلى أنها أوجدت نمطا من العلاقة بين الإنسان وربه تجمع إلى كونها علاقة مباشرة صفةَ المركزية المؤسسية، هي مباشرةٌ لا تحتاج إلى وسائط: ﴿فأينما تولوا فثمّ وجه الله﴾(29) ومعها يكون الإنسان فرداً: ﴿كل نفس بما كسبت رهينة﴾(30). لكنها في ذات الوقت علاقةٌ مركزيةٌ اجتماعية يكون فيها الإنسانُ جماعةً لأنه لا يستقيم له الاستخلاف في الأرض إلا عبر مركزية محددة تتطلب وجود الجماعة المسلمة(31): ﴿فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره﴾(32).
مثل هذه القراءة الحداثية للنص المؤسس هي التي يدعو لها طه عبد الرحمن في طرحه الذي يميّز فيه بين روح الحداثة التي تُبْــتَكر من الداخل الثقافي وواقع الحداثة الذي هو واحد من التطبيقات الممكنة لروح الحداثة.
لذلك فهو يعتبر أنْ لا دخول للمسلمين إلى الحداثة إلا بحصول قراءة جديدة للقرآن الكريم ذلك أن القرآن هو سرّ وجود الأمة المسلمة وسر صُنعها للتاريخ. فإذا كان هذا الوجود والتاريخ ابتدآ مع البيان النبوي أو قل: القراءة النبوية للقرآن فاشترعت بذلك الفعل الحداثي الأول فإن استئناف هذا الوجود لعطائه ومواصلة هذا التاريخ لمساره ومن ثَمّ تدشين الفعل الحداثي الثاني، كل هذا لا يتحقق إلا بإحداث قراءة أخرى تجدد الصلة بهذه القراءة النبوية(33).
بهذا الجدل يتحقق توليد وعيٍ تُذكيه قراءةُ تجربة الغرب الحداثية ومعرفة مناهجها في خصوص مسائل (الإنسان) و(الحرية) و(الدولة) و(المجتمع المدني) ليس لإعادتها، فذلك أمر متعذِّر، بل لاكتشاف الطرق الذاتية الفعّالة التي تعتمد المرجعية الخاصة في مستوى التصوّر والقيم والأولويات.
إن ما انتهى إليه الواقع الحداثي في الغرب في خصوص الإنسان مهم لأنه في حرصه على تجاوز الحدود الدينية والعرقية والثقافية اتجه إلى الإنسان حصرا فحَمّلَهُ الدفاعَ عن حقوقه. مثل هذا الخطاب (الإنسانوي) يستمد مرجعية الإنسان من الإنسان وحدَه وهو يعتبر في الوقت نفسه أن كل المظالم ناشئة عن فقدان القيمة الموضوعية للإنسان. لكن الإشكال هو أن هذا الخطاب جعل الإنسان موضوعا للخصام وجعَلَهُ خصما وحَكَمًا: هو موضوعُ الحقوق وهو الفاعلُ فيها. وقد كان من الممكن تصوُّر نجاعةِ هذا الخطاب لو أنه طُرح في سياق حضاري كانت للجماعة أو الأمة أو (النحن المجتمعي) مكانةٌ فعلية تناظر (الإنسان) وتمثل حقوقَه صيغاً للأمن والطمأنينة والسعادة. السياق الحضاري السائد لا يعترف لهذا (النظير المجتمعي) بأية مهمة تحويلية لحق الإنسان، ذلك أن فلسفة تلك الحقوق صيغَتْ لإنسان غائيتُه في فَرْدَانيته وليس في مُجتَمَعيّته. فعندما يمارس الفرد المنعتِق من ضغوط (النظير المجتمعي) حقوقَه كإنسان – فإنه لا يفعلها إلا ليزدادَ استقلالية عن نُظَرائه في المجتمع بوصفه المحوّر الذي يستقطب كل اهتمامات الإنسان.
بالمقابل فإن الخصوصية الإسلامية المتعلّقة بالإنسان إذا عولجت بمنهج حداثي إبداعي -كما وقعت الإشارة إليه آنفا- فإنها ستكشف أهمية الإفادة من معارف العصر لكنها تنتهي إلى القول بأن الحداثة حداثات، وإلى ما يسميه طه عبد الرحمن: (الإبداع الموصول) باعتبار أن روح الحداثة متأصلة إنسانيا وتاريخيا وأنها لا تُـنقَل من الخارج إنما تُبتَكَر من الداخل.
مثل هذا التوجه يضع أمامنا مقطعا من المشروع الفكري الذي يواجه النخب العربية للعمل على الاندراج فيه لكن ضمن مواقع المؤسسات المعرفية والبحثية التي ينبغي أن تشهد تطوّرا حقيقيا في العقود القادمة إذ بدونها لا يتراكم الفكر ولا يتجدد الوعي.
* أحميدة النيفر – كاتب وباحث من تونس