تُعَدّ اللغة وسيلة التواصل الفكري بين أبناء الأمة الواحدة، وهي في الوقت نفسه تمثل حاجة مُلِحّة، وضرورة لا غنى عنها لكل أمة تشرع في النهوض من كبوتها وتسعى إلى اللحاق بركب الحضارة، مؤمنة بالدور الأساسي للعلوم الأساسية والتطبيقية والتقنية في صنع التقدم والرقي، ولكن في ظل انتشار تعليم العلوم الأساسية في معظم الدول العربية بلغات أجنبية سواء كانت فرنسية أو إنجليزية، هل هناك أمل في التقدم والرقي؟ هناك جدل قائم حول تعليم العلوم بالعربية أو بلغات أجنبية منذ أوائل القرن العشرين ولم يحسم العرب هذا الجدل بعد، بل مثَّل الأمر تراجعًا هائلاً في مصر أمام حركة تعريب العلوم، فصارت العديد من الكليات الجامعية التي كانت تدرِّس العلوم الإنسانية باللغة العربية، ذات قسمين: قسم يدرسها بالعربية، وقسم آخر بلغات أجنبية، ونرى هذا في كليات الحقوق والتجارة والاقتصاد والعلوم السياسية.

هل هذا سؤال؟!.. بالكورية طبعًا

الدكتور “أحمد فؤاد باشا” أحد أنصار تعريب العلوم، وهو في الوقت نفسه عميد كلية العلوم في جامعة القاهرة يقول في هذا الصدد: التعريب حتمية لا مضرَّ منها إذا كنا نريد التقدم علميًّا وبصورة فعلية، هذه الحقيقة استوعبها علماء الحضارة الإسلامية عندما ترجموا معارف السابقين إلى اللغة العربية، واستوعبها أيضًا الغربيون عندما ترجموا علوم الحضارة الإسلامية في أوائل عصر النهضة الأوروبية الحديثة، وتعيها اليوم كل الأمم التي تدرس العلوم بلغاتها الوطنية، في سعي حثيثٍ نحو المشاركة الفعَّالة في إنتاج المعرفة وتشييد صرح الحضارة المعاصرة.

ويضيف أن أمر تعريب العلم والتعليم أضحى ضرورة من ضرورات النهضة العلمية والتقنية التي ينشدها العرب.

والحديث عن هذه الضرورة قد تجاوز الآن مرحلة الإقناع بالأدلة والبراهين المستقاة من حقائق التاريخ، ومعطيات الواقع المعاش، وعليه أن ينتقل إلى مرحلة التخطيط والتنفيذ، وفق أسس وضمانات منهجية مدروسة، وعن طريق آليات ومؤسسات قادرة على إنجاز المشروع الحضاري.

ويروي الدكتور “إسحاق الفرحان” عضو مجمع اللغة العربية الأردني أنه كان بصحبة وزير التربية الأردني يحضران حفلاً للسفارة الكورية في عَمان، فسأل وزير التربية السفير الكوري: بأي لغة تدرسون الطب والعلوم والهندسة في بلادكم، فلم يجبه السفير، ولما كررت أنا السؤال يقول الدكتور، نظر إليَّ السفير قائلاً: وهل هذا سؤال يُسأل، بالكورية طبعًا.

السفير الكوري ربما كان جافي الرد، ولكنه كان مُحِقًّا في اعتبار أنه من السخف أن يعلّم الناس مواد العلوم أو يتعلمونها في بلادهم بغير لغتهم القومية.

انتكاسة في تعريب العلوم

ومن اللافت للنظر في هذه القضية أنه مع بدايات عصر النهضة العربية الحديث أوائل القرن الماضي انطلقت العربية تأخذ طريقها إلى دنيا العلوم والحضارة الحديثة، وكان طبيعيًّا أن تتخذ مدارس “محمد علي” في مصر منذ تأسيسها عام 1825م في الطب والهندسة والزراعة والعسكريات، اللغة العربية وسيلة لها في تعليم المناهج على كل المستويات، مدعمة بمدرسة الألسن وجهود المبعوثين في مختلف فروع العلم.

وكذلك كانت الحال في الكلية السورية الإنجيلية – الجامعة الأمريكية في بيروت لاحقًا – أواسط القرن الماضي أيضًا، حيث كانت مؤلفات المستشرقين الأمريكان، من أمثال كرفيلوس فانديك ويوحنا وجورج بوست، بمعاونة أساتذتهم العرب من أمثال بطرس البستاني واليازجيين ناصيف وإبراهيم، ويوسف الأسير وأحمد فارس الشدياق، تغطي برامج الدراسة في علوم الطب والفيزياء والكيمياء والصيدلة والرياضيات والفلك وسواها بلغة عربية سليمة ومستوى علمي جيد، ولم يخطر ببال رواد النهضة الحديثة، عربًا أو أجانب من المخلصين، التدريس بغير العربية، تطبيقًا لمنطق علمي براغماتي بسيط ما زال هو المنطق العملي الصحيح اليوم.

ورافق ذلك الانتعاش للغة العربية إصدارات جديدة للمعاجم العربية التراثية الشهيرة كمختار الصحاح 1870، والقاموس المحيط 1872 الذي كان قد جُدِّد على يد المعلم بطرس البستاني ونشر مطولاً ومختصرًا 1870، ولسان العرب وأساس البلاغة 1882، وتاج العروس 1889، وغيرها.

وقد كان يُرجى للغة الغربية في هذا العهد أن تبلغ أعلى درجات الرقي لو أتيح لها أن تكون وتستمر لسان حال النهضة الحديثة العلمية العصرية.

لكن سياسات الغرب الاستعمارية ما كانت تخطِّط لمثل هذا الانتعاش في مسيرة اللغة العربية، فما أن ثبَّت الاجتياح البريطاني أقدامه في مصر حتى عرقل هذه المسيرة أولاً بتحويل التدريس في مدرسة الطب إلى اللغة الإنجليزية عام 1887م بعد سبعة عقود من الإنجازات، ليس أقلها مصطلحيًّا قاموس الشذور الذهبية الذي ترجم قاموس القواميس الطبية الفرنسي لفابر الشامل في مجلداته الثمانية كامل مصطلحات العلوم الطبية المعروفة حينئذ. وأغلقوا مدرسة الألسن، ونُفِي رفاعة الطهطاوي ومؤيدوه إلى السودان.

الأكاديميون.. العائق الأول

ولكن مع تحرر البلاد العربية من الاستعمار، لم نَرَ سوى كلية الطب في جامعة دمشق تدرس الطب باللغة العربية، ونرى جمهرة من الأساتذة العرب يقاومون تعريب العلوم تحت دعوى أن اللغة العربية غير قابلة لتعليم هذه العلوم، وأنه لكي نصل للمستوى العلمي اللائق يجب تدريس العلوم بلغات أجنبية، إلى جانب عدم توفر المراجع العربية لهذه العلوم.

أحمد شفيق الخطيب، عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة، وهو لبناني، يرى أن معظم العارفين ممن عايشوا محاولات التعريب أجمعوا على أن السبب الأهم وراء فشل أو عرقلة إمكانية نجاح حركات تعريب العلوم كان لا يزال موقف هيئات التدريس في الجامعات العربية، ويعزي ذلك إلى أن معظم جامعاتنا ومعاهدنا تعتمد في إعداد هيئاتها التعليمية على خريجي الجامعات الأجنبية، ممن تبعثهم الدولة أو الجامعات، أو الذين استطاعوا أو يستطيعون ذلك بوسائله الخاصة، وهؤلاء بحكم القانون الطبيعي في اختيار المسار الأسهل لا يرحِّبون بالتعريب إن لم يعارضوه علنًا؛ لأن التدريس بالعربية سيتطلب منهم جهدًا مضاعفًا يتهيَّبونه، فالتدريس بالعربية يقتضيهم جهدًا إضافيًّا في الإعداد والتفتيش عن المصطلحات أو وضعها، وهم بهذا الجهد ضنينون.

ويشير الدكتور “محمود السمرة” نائب رئيس مجمع اللغة العربية الأردني إلى مثل هؤلاء بقوله: ولو أنهم – اقتداء بالأشاوش رجال المعهد الطبي في دمشق – آمنوا أن التدريس بالعربية يعني محافظة الأمة على شخصيتها وتراثها، وأن أفراد الأمة لا يمكن أن يبدعوا إلا من خلال لغتهم، وأن الطالب لا يمكن أن يستوعب المادة استيعابًا دقيقًا، لهان عندهم أي جهد يمكن أن يقدموه من أجل التعريب.

إن احتجاج الرافضين لتعريب العلوم بعدم توافر الكتب العربية في هذا المجال وكذلك الدوريات مردود عليه من خلال الجهود التي بذلت خلال السنوات الماضية في هذا المجال، ومنها تعريب مجلة العلوم الأمريكية الشهيرة والذي تقوم به مؤسسة الكويت للتقدم العلمي.

وبذل مجمع اللغة العربية في القاهرة ونظيره في دمشق جهودًا مضنية خلال العقود الثلاثة الأخيرة لتعريب المصطلحات العلمية من خلال لجان علمية جمعت علميين ولغويين، وأصدر مجمع اللغة العربية مجموعة من المعاجم العلمية العربية، لعل أبرزها معجم البيولوجيا في علوم الأحياء والزراعة الذي استغرق إعداده السنوات من 1976م إلى 1984م، وشارك فيه نخبة من كبار العلماء العرب، لعلَّ أبرزهم “دكتور حامد جوهر”، ودكتور “عبد الحليم منتصر”، ودكتور “محمد رشاد الطوبي”.

كما أصدر المجمع أيضًا على سبيل المثال معجم الفيزيقا الحديثة، في جزأين عام 1986م، وكان المجمع قد أصدر عام 1976م معجم الفيزيقيا النووية. ويعود الفضل لإخراجه للدكتور “مصطفى نظيف”.

خطوة جريئة نحو التعريب

وفي مجال الكتب العلمية المتخصصة أصدرت دار الفكر العربي في القاهرة أول سلسلة كتب علمية متخصصة في العلوم الأساسية تحت إشراف الدكتور “أحمد فؤاد باشا” عميد كلية العلوم في جامعة القاهرة، وتهدف هذه السلسلة إلى:

– ربط المادة العلمية بما يدرسه الطلاب في مناهجهم الدراسية، وعرضها على نحو يوافق التصور الإسلامي للمعرفة، ويحقق أهداف وغايات التربية الإسلامية.

– إثراء الثقافة العلمية لدى الطلاب، والارتقاء بذوقهم، مع تنمية الجانب التجريبي والتطبيقي؛ ليتعودوا حسن الاستفادة من كل ملكات الفكر والعمل.

– إبراز الدور الرائد الذي قام به علماء الحضارة العربية الإسلامية قديمًا وحديثًا في دفع مسيرة التقدم العلمي.

– تتبع نمو المفاهيم العلمية وصولاً إلى أحدث الكشوف والمخترعات، وذلك بهدف غرس منهجية التفكير العلمي لدى الطلاب، وتوسيع مداركهم إلى أبعد من حدود الموضوعات الدراسية المقررة عليهم.

– الالتزام بما أقرَّته مجامع اللغة العربية من مصطلحات علمية، ويفضَّل أكثرها شيوعًا مع ذكر المقابل الأجنبي.

وقد صدر في هذه السلسلة عدد من الكتب الرائدة، منها:

– البصريات تأليف دكتور “أحمد فؤاد باشا” ودكتور “شريف خيري”.

– أسس الكيمياء العلمية تأليف دكتور “أحمد مدحت إسلام”.

– فيزياء الجوامد تأليف د. “محمد أمين سليمان” وآخرين.

– علم الفلك العام لتأليف دكتورة “ميرفت السيد” ودكتور “مصطفى كمال”.

– أسس علم الميكانيكا تأليف دكتور “عبد الشافي عبادة” وآخرين.

– العلوم الجوية وتطبيقاتها تأليف دكتور “محمد الشهاوي”.

– علم البيئة العام والتنوع البيولوجي تأليف دكتور “علي المرسي” والدكتور “محمد الشاذلي”.


كتبه : خالد عزب في 31/7/2001